فرح الطفل فريدريك بتعيين والده استاذا بالجامعة، فهذا يتيح له حياة اجمل، ليبدأ في تلقي دروس العزف على البيانو، ويقضي اوقات الفراغ في العزف او في التقليد الكوميدي للعديد من الشخصيات,, انه طفل يوحي بموهبة خارقة في الموسيقى تذكر بعبقرية موتسارت المبكرة، كما ان بامكانه ان يصبح ممثلا من الطراز الاول,, لكن للاسف انه يعاني من الضعف والهزال، ويبدو انه ذو قابلية لمرض الدرن الخبيث مما يعني الموت المبكر له والمتاعب والاحزان لاسرته!! هذا الطفل الرقيق الذي ولد بعد ثلاث اخوات اينما يذهب يجد الاسى في العيون على مستقبله المظلم,, والاوامر الصارمة دائما بان يتبع التعليمات الطبية، والا يعرض نفسه لبرد بولندا القارص.
لقد فرض عليه الوهن ان يبتعد عما يتصف به الرجال عادة ، فهو لا يميل الى الملذات ولا يقرب الخمر ولا يتصرف بخشونة كأقرانه، ودائما ترتسم على ملامحه مظاهر الارهاق والعصبية، ورغم مجاملته للسيدات اللواتي اعجبن بعزفة على البيانو الا انه فشل في علاقته العاطفية مع احدى المغنيات.
ان احساسه بدنو الاجل رغم انه لا احد يضمن عمرا لنفسه جعله يكرس حياته لامرين اثنين: البيانو وقضية بولندا التي تعاني من الاستعمار الروسي المستبد بحجة معاهدة فيينا, كانت البلاد بركانا يغلي بالثورة والمقاومة المسلحة سعيا لتلحرير، تسودها روح قومية متطرفة، حيث لا يفكر الناس في اي ابداع او فن وليس امام فريدريك شوبان المعتل صحيا الا ان يحمل السلاح او يرحل عن البلاد، لانه لا احد يسمع الى موسيقاه ونصحه اصدقاؤه بالسفر الى فيينا لانه لن يحقق لوطنه نصرا عسكريا، ومن ناحية اخرى يستطيع من خلال مؤلفاته الموسيقية ان يتغنى بالوطن وان يمجد ثورته ويخبر العالم اجمع بعدالة القضية, وفي وداع حار مؤثر اهداه الاصدقاء لفافة بها تراب الوطن ليهبط الى فيينا عازما ان يحيى بولندا بوديانها وجبالها من خلال الموسيقى.
وكانت الطامة الكبرى وهو يعيش وحيدا في شوارع فيينا انه سمع كيف سحق الروس ثوار بولندا وحولوا ضواحيها الى اثر بعد عين.
ليجد نفسه اعزل من كل سلاح، يعاني الغربة والمرارة والمرض فرحل الى باريس مدينة الفن والنور كأمل اخير في الحياة, وهناك جلس الفتى البولندي الحزين يعزف على البيانو امام العمالقة فرانزليست ومندلسون وبرليوز، يطلب منهم التشجيع والمزيد من الدراسة والعلم.
لكن يبدو ان حزنا واحدا لايكفي؛ لقد تلقفه استاذ مغرور يدعى كالبرينر ادعى انه سيجعل منه معجزة موسيقية في غضون ثلاث سنوات ليس اكثر ,, ثم كانت النتيجة انه اضاع من عمر شوبان القصير مزيدا من الايام والشهور، واضاف الى احزانه جديدا لان باريس الفاتنة لم تفتح قلبها بعد لهذا الموسيقار الغريب.
ولولا عناية الله ثم اريحية الموسيقار العظيم فرانز ليست لضاع شوبان وانطوت صفحته سدى,, ويبدو ان ليست تعاطف معه لانه غريب مثله (مجري) ولانه احس بعبقريته الفذة في العزف على البياتو.
وكان ليست في تلك الفترة في أوج شهرته وثرائه، في حين كان شوبان شابا مغموراً, احتضنه ليست وقدمه للجماهير والنقاد وفي الحفلات المختلفة، ومنعته نبالته من ان ينظر اليه كمنافس شخصي له، ومن هنا ارتبط معه في صداقة متينة واكتشف نجماً معجزاً، تعلم منه احساسه الثوري بقوميته وشاعريته المرهفة.
وبدأ نجم شوبان يسطع في المجتمع الباريسي، وقصر جهده على آلة البيانو فحسب، رغم ان الكثيرين الحّوا عليه ان يكتب للقوالب السيمفونية والاوبرالية، لكنه كان عاشقا للبيانو,, وللقوالب البسيطة التي تحمل صرخات الحرية واسم الوطن مثل: البولونيز والمازوركا,, كان يحلم ان يجعل من البيانو آلة قادرة على الغناء والتعبير كأنها اوركسترا كامل, هذا الاخلاص اكسبه الشهرة والمسكن الفاخر وتعاطف سيدات المجتمع الباريسي اللائي يشفقن عليه لمرضه ويتعاملن معه باحساس دافئ.
احس شوبان في هذه الفترة وقد تجاوز الثلاثين انه في حاجة ماسة الى حب من نوع اخر ,, وعندما دق قلبه بنيران عواطفه الرقيقة امام الاديبة جورج صاند لم يكن شوبان يعلم انها دقات النهاية,, لقد احب في صاند طباعها المغايرة تماما لطباعه فهي كانت شخصية رجولية تشرب وتدخن بشراهة ، واستبدلت باسمها اورور ديديفان اسما رجاليا، كما انها كانت في الرابعة والثلاثين وأما لطفلين، لكنها بالنسبة لشوبان تمثل الحيوية والإيجابية في حين كان يمثل هو الموت والرقة والانطواء الارستقراطي الممزوج بالكبرياء.
قضى شوبان معها شهر العسل على جزيرة مايوركا الساحرة، وقد وعدته ان تضحي بحياتها حتى يسترد صحته، لكنها لم تف بهذا الوعد أبداً, فبمجرد أن عادا معا لباريس رجعت الى وتيرتها الأولى، الى حياة التبرم والنزوات، وكلما أحست بذبولها بحثت أكثر عن متع الحياة, في بعض الأحيان كانت ترقبه وهو يعزف، وعن ذلك كتبت: انه لمن الممتع حقا ان يرى الإنسان يدي شوبان الصغيرتين وهما تمتدان لتسيطرا على مفاتيح البيانو,, يجلس الى البيانو ويحوله الى حياة ,, حياة حزينة كنفسه ومثل بلاده .
كان شوبان منكفئا على العزف على آلته الحبيبة، وطالما نزف دما وهو يعزف في الحفلات ليجمع المال من أجل معركة الوطن,, ولم يتوقع أبداً أن تنهي جورج صاند حياتها معه، وبهذه القسوة!! لقد فوجىء بها تفشي اسرار حياتهما في رواية وتعطيها له كي يقرأها ويصحح المسودات!! هكذا تُنهي حياتهما القصيرة بجرة قلم!! ليعيش شوبان بعد هجرها له سنتين فحسب، قضاهما في وحدة ومرض وعذاب، يتحرك في قاعات الكونسير كالشبح، لم يعد باقيا منه إلا عقل يؤلف واصابع تعزف, هما معا كل ما تبقى من حياة, إنها معركة الفن والدماء والألم، يعيشها شوبان مردداً اغاني بولندا الحزينة، الى ان شيع جثمانه وهو في الاربعين من عمره ونثر على قبره شيء من تراب الوطن، في حين اوصى بأن يدفن قلبه في مدينته الحبيبة وارسو
شريف صالح