زوار الدوائر الحكومية والمؤسسات الخاصة والشركات بأنواعها يختلفون في اساليبهم ومراميهم، فمنهم من يقدم الى الدائرة الحكومية لينهي أمراً من أموره لم يجد بداً من متابعته، وينهج في ذلك منهجاً جاداً, فهو يسعىحثيثاً لإنهاء امره بأيسر السبل وأسهلها وأسرعها, فتراه ينتقل بين المكاتب دون ان يضيع وقتاً هنا وهناك, ومن المراجعين من تراه يأتي ليطيل المكوث فيدخل في حديث تلو آخر ظناً منه ان ذلك يسعد المتلقي ويجعله ينهي موضوعه بيسر وسهولة, وهو بذلك يضيع وقته ووقت صاحبه, وبعد ان يقضي ساعة اوساعتين تراه يطرح مطلبه بطريقة لبقة لعله يحظى بالرعاية، غير أنه نسي أنه أضاع الكثير من وقت من سُخِّر لخدمته وأثّر على عطائه, وما أحسب المتلقي إلا وقد أخطأ الصواب، فأيسر السبل ما قاله سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه، وغمك بسؤاله، فأعره أذناً صماء، وعيناً عمياء, أو كما كان يفعل ابو هريرة إذا استثقل رجلاً قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه, أما الأعمش فإذا حضر مجلسه ثقيل قال:
فما الفيل تحمله ميتاً بأثقل من بعض جلاّسنا |
وقال أبو حنيفة للأعمش وأتاه عائداً من مرضه: لولا أن أثقل عليك أبا محمد لعدتك والله في كل يوم مرتين.
فقال له الأعمش: والله يا ابن أخي أنت ثقيل علي وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين؟
وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله قال:ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون .
وقال رجل في ثقيل:
أنت يا هذا ثقيل وثقيل وثقيل انت في المنظر إنسان وفي الميزان فيل |
وحسبنا قول حبيب:
يامن له وجهة إذا بدا كنوز قارون من البغض لوفر شيء قط من شكله فرَّ إذاً بعضك من بعض |
أو قول الحمدوني:
سألتك بالله إلا صدقت وعلمي بأنك لاتصدق أتبغض نفسك من بغضها وإلا فأنت إذن أحمق |
وهكذا كان حال الثقلاء، ومن أراد أن يستزيد فعليه بالعقد الفريد لابن عبدربه.
وأكثر الناس ثقلاً من يضع نفسه بين جمع من الناس ألفوا الجلوس مع بعضهم واعتادوا عليه، وكان ذلك ديدنهم مدة طويلة، فما تراه إلا وقد أطال المكوث، وأبرم مستقبليه, تراهم يلتفتون يمنة ويسرة، ويحدثون بعضهم بعضاً لعله يعي مايقال، ويدرك بفهم مايراد, وقد يصل بعضهم الى التصريح بعد التلميح، لكن ذلك الثقيل غير آبه بما يقال، وغير مدرك أو مدرك لمايراد إلا انه ألف ان يكون كذلك ثقيلاً منغضاً، يجلس حيث يطيب له الجلوس، وبالمدة التي يراها ممتعة له دون رداع من حياء.
وأثقل الثقلاء أولئك النفر الذين يقحمون انفسهم في علوم لا يحسنونها، فتراهم يجادلون ويناقشون نقاشاً ابعد ما يكون عن خبايا الموضوع وتشعباته, بل ان البعض منهم قد تكون معلوماته محدودة فيما يسمع من خلال وسائل الاعلام، أو قراءة رأي طرح في كتاب, ثم يرى في نفسه أنه القادر على فهمها والتعمق في مراجعها, وهو بهذا يظهر أمام أولئك البارعين كطفل صغير لا يعرف سوى احرف الهجاء، بينما هو يرى في نفسه علاّمة زمانه فما يكون من المتمكن إلا أن يضحك، غير أن الجمع الغفير من الناس قد يغتر بتنميق الكلام، وطرح الخطوط العامة التي توهمه أن ذلك الرجل فطن اريب متمكن من موضوعه.
فهل أثقل منه إلا هو؟