جلست تحت دفء شمس الظهيرة الباكر وهي تمسك بصحن دائري مسطح متناسق الألوان يمتلىء نصفه بحبيبات الأرز البيضاء الجافة,, وحيدة هي الآن,, لا يشاركها وحدتها سوى حفيف حركة اغصان الاشجار في شجارها الدائم مع بعضها البعض وخطوات مجهولة تطرق سمعها بين حين وآخر.
حضنت صحنها الكبير برفق ثم وضعت يدها بين حبيبات الأرز ل(تنقيته) فتلتقط بأصبعيها الابهام والسبابة الحبيبات السوداء غير الصالحة للأكل بينما تتكىء يدها على باقي اصابعها وترمي بها في مهارة وسرعة على ارض الواقع الصلبة العارية دون ان تسمع لها وقعا، فقد وهن السمع منها كما وهن كل شيء في حياتها وحتى رغبة ابنائها في رؤيتها,.
توقفت حركة يدها وانصت كل جزء في جسدها وهي تحاول التقاط صوت ما,, وقع خطوات قادمة وراحت تمني نفسها بأن تكون هذه الخطوات التي اخذ صوتها يقترب ويشق غبار صمتها ووحدتها لأحد ابنائها جاء لرؤيتها كما تتمنى شوقا إليها,, وظل الصوت يقترب مع تقارب دقات قلبها وتزايد لهفتها لمعرفة القادم واتساع ابتسامتها المستبشرة التدريجي وقبل ان تنهض لاستقباله رأت ظلا يتجاوز باب بيتها ثم اخذ الصوت يبتعد ويبتعد حتى اختفى تماما,, بخيبة امل احست بمرارتها تسري في عروقها,, وجدت نفسها تقف امام مرآة نفسها في حوار داخلي صريح:
لم يأت احد !
اجابتها نفسها بصدق ولن يأتي أحد,,!
وبعد نظرة عتاب ولوم عادت لتقول مواسية لنفسها:
لن يأتي احد منهم الآن فهذا الوقت لا يناسبهم.
حاولت تفادي احساسها بالوحدة ولوم نفسها لها حين اخذت تبرر لها بأن ابنها الوحيد في عمله اليومي الآن وابنتاها منذ انشغلتا بدراسة ابنائهما ندرت زياراتهما حتى تلاشت!,, وهي منذ مدة طويلة لم تر احدا منهم,, وحين تسعد برؤيتهم بعد شوق طويل وانتظار يعودون لتكرار نفس مبررات الغياب المقبولة دوما من جانبها والتي قد لا تسمعها لانشغالها بمراقبة كل جزء من ابنائها وحرصها على حفظ جميع تفاصيل وملامح حياتهم وكأنها تتزود من تلك اللحظات ما يكفيها لأيام الغياب واللهفة,, وباتسامة متسامحة تودعهم فهي تحرص على عدم مضايقتهم خشية انقطاعهم عن زيارتها وداخلها غضب مكتوم جاهدت طويلا على كبح جماحه كي لا يحس به احد منهم رغم احساسها المر بتجاهلهم لحزنها وغضبها الذي يعتمل داخلها ويطل من عينيها ممتزجا بنظراتها الحنون في خضم سباقهم اليومي مع الزمن,, الزمن الذي سرق منها احلى ايام عمرها وواصل سرقاته,, حين سرق ابناءها,.
عادت الى صحنها لتدخل يدها فيه بحركة مفاجئة وهي منبسطة تماما ترفعها للأعلى فتتساقط حبيبات الارز من بين اصابعها على الارض بعد ان تصطدم بالحصن في رحلة عودتها اليه مصدرة طرقات صغيرة خفيفة ومتداخلة سريعة ما تلبث ان تخف حتى تتلاشى تماما بعد ان خلت يدها من الارز كما اضحت دارها الكبيرة هذه خالية إلا من ذكرياتها فمنذ فقدت اصغر ابنائها ذات يوم شديد القيظ وهذا الألم يعتصرها والحزن يشاركها حياتها وذكرياتها ولم يبق لها الا ابنتاها اللتان تزوجتا منذ زمن بعيد وكل منهما لها ابناء وحياة خاصة لا مكان بها لأمها العجوز,, وامها العجوز ما زالت ترفض ان تحس بنفسها عبئا ثقيلا على كاهل اي انسان مهما كان قريبا لقلبها فأكبر ابنائها نسي حضن امه الحنون حين ضمه في اعصب الايام,, وتناساه في احلى الليالي والاعوام وهو يحتضن ابنه الصغير ويدعو له ويتمنى الا يحرم منه طوال العمر وكأنها تتذكر ما كانت تفعله حين كان ابنها نفسه طفلا صغيرا تحتضنه بحب وتدعو له وتتمنى من كل قلبها الا تحرم منه طوال عمرها,, عمرها الذي طال حتى تمنت نهاية له وحتى زوجها الحبيب والد ابنائها الذي تصدى معها لغدر الزمن تخلى عنها وهجرها حين رحل عن دنياها وتركها كما هي الآن وحيدة تنتظر مع كل صوت يقرع سمعها الضعيف او لحظة شوق يعصف بقلبها المتغضن رؤية احد ابنائها حولها ومع كل غمضة جفن لها او لحظة الم عابرة تنتظر نهاية لرحلتها الطويلة في هذه الدنيا فهي لم تخف يوما من الموت منذ فارقها زوجها الحبيب الذي طالما رفعت يديها الى السماء مبتهلة تردد:
جعل يومي قبل يومك,.
ومع دعائه لها بطول العمر سبقها الى ذلك اليوم - بمشيئة الله - فهي الآن تنتظر يومها هي فتتزين له وتنتظره كل ليلة كعروس طال انتظارها لعريسها ولم يأت,,, فحتى الموت يرفضها,, يهجرها,, يتركها وحيدة كما تركها الجميع تعد الايام والليالي الطوال,, تخطئ وتعود مرة اخرى لتعدها,, وتعدها بحثا عما يسلي وحدتها ويطرد عنها الهواجس التي اضنتها فقد ملت وتعبت من اجترار الذكريات,, وشوقها لابنائها يزداد يوما بعد يوم، وهجرهم لها يطول، وصورهم القديمة الباهتة التي تحتفظ بها قد اهترأت، ولم تعد تسد رمق شوقها اليهم، فقد هجروها حتى في احلامها التي خلت منهم ولا تملك سوى ان تنتظرهم كل يوم تحمل صحنها الدائري المسطح وتقوم بتنقية الأرز وتنظيفه علّ احدا منهم يأتي لزيارتها فتطهو له كما تعودت حين كانوا صغارا يهرعون اليها حين يطاردهم الجوع في مثل هذا الوقت طالبين منها وجبة غدائهم الذي احبوه مطهوا من يديها الحبيبتين كما كانوا دوما يذكرونها بذلك قبل ان ينسوها هي ويسقطوها من جدول نشاطهم اليومي فتجيب طلبهم بسرور عظيم وبدون تردد.
نظرت الى ساعة يدها,, قربتها الى عينيها محاولة تفادي وهج الشمس الذي ازداد حرارة وكانت عقارب الساعة تقفز منقضة لتلدغ الثالثة عصرا,, وضعت صحن الأرز جانبا ثم اضطجعت على جانبها الأيمن وعانق خدها الايمن راحة يدها اليمنى باستسلام وبيدها اليسرى امسكت بصحنها,, نظرت اليه بامتنان فهو الوحيد الذي ساندها,, يستمع لها باصرار وهي تحدثه وتشتكي له هجر ابنائها ثم تعتذر عنهم وتسامحهم وهو يواسيها بصمته,, يقدم لها صدره لتبكي عليه ايام وحدتها وتقيم عليه المآدب أيام فرحها,, صديقها الوفي كان ولم يتخل عنها ابدا.
احست بالنوم يداعب جفنيها بتردد,, دفعت الصحن بيدها بعيدا وهي تحدث نفسها بأن الوقت تأخر ولم يحضر احد ولن يحضر احد منهم ككل يوم.
مها بنت عبدالله الزبيري
***
** ما دام الحديث عن الصحون,, فإن هذه القصة تقدم نفسها على طبق من ذهب,!!
ليس شيئا جديدا ان تدهشنا الصديقة مها الزبيري بهذه الكتابة القصصية,, لأننا اعتدنا منها مثل هذه الكتابة المتطورة والمتميزة,, ولكن المثير في هذه القصة هو اختزالها لكثير من الاحداث والروايات في مشهد بائس بين العجوز وصحنها الدائري,, فهي تتذكر ابناءها وزوجها الراحل بينما هي تلتقط الحبيبات السوداء من صحن الارز,, ورغم انها مشغولة بهذا العمل (ظاهريا) الا انها في الحقيقة تمارس ذلك لكسر حاجز وحدتها,, واحداث القصة تؤكد ذلك عندما تلاحق بسمعها الخطوات التي تمر على بابها على أمل ان يكون احد ابنائها,, ولكن ذلك لا يحدث شأن كل يوم يمر في حياتها,,
وهذا ما تود القصة ان تخبرنا به,, عن العجوز ووحدتها,, وصحنها الوحيد الذي يستمع لها طوال اليوم !