الاهتمام بالكعبة المشرفة في العهد السعودي د, محمد بن سعد الشويعر |
للكعبة المشرفة مكانة في قلوب المسلمين، لأن الله عظم منزلتها، وجعلها قبلة المصلين في اليوم خمس مرات لله رب العالمين.
وقد جرى لها ترميمات، وبناء في عصور التاريخ واهتمّ بها حكام المسلمين بناءً وكسوة، وتنظيفا وتحلية بالذهب والفضة.
ومع تقادم العهد، وحدوث السيول التي كانت تدخل الحرم، حتى أن الطائفين قد يغرق منهم أناس، عندما يتكاثر الماء حول الكعبة، وقد ذكر ابن جبير وغيره مشاهدتهم للناس يطوفون لله سبحانه، سباحة وكان من أعمال الحكومة السعودية وجهودها الموفقة الاهتمام بوقاية الحرم الشريف عن مخاطر السيول التي تدخله إذا تكاثرت لأن وادي إبراهيم تتجمع فيه سيول جبال مكة الشرقية وما يواليها فتنحدر جهة المسجد الحرام، وتدخله فتحدث دمارا وخرابا.
وقد رصد المؤرخون ذلك في سجلات الحوادث وبينّوا أضرارها.
فكان من أعمال الحكومة السعودية في عهد الملك فيصل رحمه الله أن أقيمت قناة واسعة جدا بحيث إن أضخم سيارة قلاب تسير فيها تحت الحرم جهة المسفلة، وهيئت هذه القناة بشكل هندسي وإعماري متين لتصريف سيول مكة لأسفلها جهة المسفلة وما وراءها غربا، فكان بيت الله بمأمن منذ اكتمل المشروع من أضرار السيول، وبذلك تسلم الكعبة المشرفة والطائفون والمصلّون من مصائب السيول، أما الآفات الأخرى كالأضرار التي تصيب الكعبة من جراء تقادم العهد، أو الحرائق، فهذه يحتاط لها بالإصلاح والترميم,, خلال الأزمنة المختلفة، وأما ما يتعلق بالإصلاحات للكعبة وترميمها في العهد السعودي,, فإن الملك عبدالعزيز رحمه الله منذ دخل مكة عام 1343ه ثم بنوه من بعده: سعود وفيصل وخالد رحمهم الله، وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله، ما زالوا يولون الحرمين الشريفين والكعبة المشرفة والمشاعر والمدينتين ذات المكانة في قلب كل مسلم: مكة والمدينة، جلّ اهتمامهم وتتوالى منذ ذلك العهد، حتى اليوم سنويا الأعمال التي تتحدث عن نفسها، والجهود البارزة والآثار التي لا يمكن إنكارها.
والكعبة المشرفة حظيت باهتمامات بالغة، من آل سعود منذ دخل الملك عبدالعزيز مكة، ولا تزال: رعاية وعناية, وقد ذكر كل من حسين عبدالله باسلامة في كتابه تاريخ الكعبة المعظمة ، وعبدالقدوس الأنصاري في كتابه : التاريخ المفصل للكعبة المشرفة : أنه في عصر يوم السبت 23 شعبان 1334ه وأثناء الحرب المشتعلة بين الحسين بن علي والجنود العثمانية، حين حصاره لقلعة أجياد أطلق أحد الجنود التركية قنبلة من مدفعه، فوقعت شظية من شظايا القنبلة المقذوفة على الكعبة المشرفة فاشتعلت النار في ثوب الكعبة من أعلاها وبقرب الحجر الأسود، كما نزل على الحرم قذائف أخرى وقد أبقى الشريف بعد نهاية الحرب تلك الإصابات والخراب الذي وقع من مقذوفات الجنود التركية على حالتها.
وقبل هذه الحادثة بعامين أي في عام 1332ه حصل تصدع وتشقق بسبب غسيل الكعبة ودخول السيل إلى جوفها، فأحضر أهل الخبرة من النجارين فأحاطوا كل عمود من الأعمدة الثلاثة الخشبية من أسفلها بأخشاب طوال على قدر القامة وسمّروها فيها بغاية الاتقان، كما ذكر محمد طاهر الكردي في كتابه التاريخ القويم .
وفي عام 1377ه في أول محرم حصل للسقف الأعلى لبيت الله الحرام خراب يحتاج إلى تغييره كله، لأن سقفه الأدنى الذي من الخشب، قد تلف من فعل دويبة الأرض الأرضة والسوس، وجدرانه يحتاج إلى ترميم، فأمر الملك سعود رحمه الله بتشكيل هيئة علمية وهيئة هندسية فنية للنظر فيما وقع بالكعبة المشرفة، وبناءً على التقارير صدر الأمر الملكي بالإصلاح.
كان ذلك في أواخر محرم سنة 1377ه القاضي بعمارة سقف الكعبة المشرفة وترميمها واصلاحها في عشر نقاط هي:
1 رفع السقف الأعلى للكعبة بتاتاً وتجديد عمارته.
2 تجديد السقف الأدنى لقدم أخشابه وتآكلها.
3 ترميم الجدران الأصلية ترميما جيدا.
4 عمل ميدة بين السقفين تحيط بجميع جدرانها.
5 إصلاح الرخام المحيط بجدران الكعبة من باطنها.
6 ترميم وإصلاح الدرج التي في باطن الكعبة المؤدية إلى سطحها.
7 يجب مراعاة عدم بروز شيء من التعمير والإصلاح عن الكعبة المشرفة، وجدرانها وأطرافها.
8 جميع الترميم والتعمير يكون بالمواد البلدية.
9 عدم تذهيب أو تفضيض أو تمويه سقف الكعبة المطهرة.
10 جميع ما يصرف على الكعبة المعظمة يكون من الكسب الحلال الطيب.
وبموجب ذلك جرى العمل في الكعبة المشرفة، حيث بدأ العمل في ليلة السبت 21/6/1377ه من بعد صلاة العشاء بساعة واحدة، فأقيمت أخشاب حول الكعبة لستر العمارة عن أعين الناس، وفقا لرقم 7 من هذه النقاط.
وقد جعلوا جسرا بجانب المنبر يصعد عليه العمال إلى سطح الكعبة عرضه متران من جهة الحجر، وكان العمل من المغرب إلى بعد منتصف الليل.
وقد بدأ تجديد السقف، بالافتتاح الذي حضره ولي العهد فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله نيابة عن أخيه الملك سعود رحمه الله ويرافقه الأمير الحسن بن محمد الخامس ولي عهد المغرب، يحفّ بهما الأمراء والعلماء والوزراء، فدخل الجميع جوف الكعبة، وصعدوا إلى سطحها في صباح يوم الجمعة 18/7/1377ه قبل صلاة الجمعة بساعتين فأخذ الأمير فيصل الملك فيصل فيما بعد رحمه الله مطرقة، فسمّى الله وأثنى عليه، وبدأ بهدم جزء قليل من أفريز سطح الكعبة إيذاناً ببدء الهدم والإصلاح فتبعه الحاضرون بالهدم، وقلع رخام السطح وهم يسبّحون الله ويكبّرونه، وقد سجلت الإذاعة ذلك المشهد وأذيع على الملأ.
ثم كان العمل في الكعبة مستمرا ليلا ونهارا، منذ ابتدأت العمارة حتى انتهائها من داخل الكعبة وخارجها حيث أضيئت المصابيح الكهربائية داخل الكعبة وخارجها.
يقول محمد طاهر الكردي: وهذه أول مرة توضع فيها المصابيح الكهربائية في الكعبة المشرفة في التاريخ, وبعد انتهاء العمارة رفعت جميع المصابيح من الكعبة بتاتا، لعدم الحاجة إليها، لأن الكعبة لا تفتح ليلا، إلا للضرورة.
وكانت الأخشاب القديمة والحجارة والأنقاض التي تخرج من السقف ترمى في داخل حجر اسماعيل تحت الميزاب، وهذه الجهة محاطة أيضاً بالأخشاب الساترة، وسار العمل بسرعة حيث من يوم السبت ابتدأوا في تركيب الميدات على الحيطان الأربعة، وفي صباح الأحد 20/7/1377ه ابتدأوا في تركيب أعواد السقف، ثم ابتدأوا في ربط الأخشاب بجدران الكعبة بالحجر والنورة البلدي، وعدد هذه الاخشاب 21، رؤوسها في الجدار الشرقي وفي الجدار الغربي، طول كل واحد من هذه الأخشاب 10,40م، وبعضها 10,10م، وتحت هذه الأخشاب كمرتان في الوسط ساكف رأساهما في الجدار الشمالي، وفي الجدار الجنوبي الكمرة الأولى لحمل السقف الأعلى والثانية لحمل السقف الأسفل، طول كل واحدة من الكمرتين 12,20م.
وقد وصف مسيرة العمل بالتفاصيل محمد طاهر الكردي، فكان يحصي كل دقيقة وجليلة بإسهاب في كتابه التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم ، وذكر أن سطح الكعبة، بعد ما غطي بها السطح قد بلغت 282 بلاطة، وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من رجب 1377ه أصلحوا فتحة باب الدرج الذي بأعلى السطح، وهذه الفتحة واقعة في الركن الشامي من السطح، قرب ميزاب الكعبة، فأبدل غطاء هذه الفتحة القديم بغطاء من الخشب السميك، وجعل عليه تلبيسة جديدة من المعدن وطول هذا الغطاء 185 سم وعرضه 110 سم,, أما طول فتحة الدرج فهو 127 سم، والعرض 104 سم, وجعل الغطاء أكبر من نفس الفتحة، حتى لا تجد المياه منفذا إلى باطن الكعبة.
ثم في يوم الثلاثاء 22/7/1377ه تم تجديد السقف الثاني للكعبة مما يلي الأرض، وفي يوم الاثنين 28/7/1377ه بدأ العمل في دهن ما بين السقفين بالقطران الأسود لحفظ الأخشاب من السوس والأرضة، وفي يوم 6/8/1377ه تم دهان ما بين السقفين بالبوية البيضاء.
ولما تبيّن للمهندسين عدم تصدع أو تشقق جدران الكعبة، لا من الداخل ولا من الخارج وإنما الذي حصل هو وهن في النورة التي بين الحجارة، فقد حرص الفنيون على ترميم ذلك وتجديده، وبعد صلاة الجمعة 3/8/1377ه بدأ العمل في ترميم وإصلاح داخل الكعبة وهذا العمل يتلخص في:
1 اخراج الجبس والنورة القديمة من أعلى جدران الكعبة إلى أسفل ثم اصلاحها.
2 اخراج الرخامات المحيطة بجدرانها إلى ارتفاع 3 امتار ونصف، ثم وضعها في أماكنها بعد تنظيفها واصلاحها.
3 اصلاح المدرج التي بداخل الكعبة، الموصلة إلى سطحها، من أن تخرج درجة واحدة عن موضعها.
4 إصلاح عتبة الكعبة من داخلها مع الباب.
وفي يوم السبت 11/8/1377ه الذي يعتبر يوم الانتهاء من عمارة سقفي الكعبة المشرفة، وحتى اصلاح وترميم باطنها، حضر الملك سعود رحمه الله من الرياض إلى مكة المكرمة ودخل الكعبة قبل المغرب بنصف ساعة للإشراف على وضع آخر حجر من الرخام في جدار الكعبة وهو الحجر الذي نقش فيه اسمه وتاريخ هذه العمارة, وقد ألقى جلالته من جوف الكعبة صباح يوم الأحد 12/8/1377ه كلمة بواسطة الإذاعة موجهة للعالم الإسلامي والشعب السعودي جاء فيها:
أما بعد، فنحمد الله على ما أنعم علينا من عمارة بيته الحرام، هذا البيت الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً، ونسأله القبول، والمزيد من فضله، والتوفيق وندعوه بدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ونزفّ هذه البشرى، من موقفنا هذا، من جوف الكعبة المطهرة، إلى عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ونسأله تعالى أن يهدينا ويلهمنا رشدنا، ويتقبل منا، وأن يجمع كلمة المسلمين والعرب على ما يصلح دينهم ودنياهم، إنه سميع مجيب .
وقد كان حسين عبدالله باسلامة ذكر شيئا من ذلك، في وصف هذا العمل، ولكن محمد طاهر الكردي توسع فيه إذ بلغ عنده في صفحات كتابه الكبيرة قرابة أربعين صفحة.
وفي موطن آخر، وجزء آخر من كتابه هذا يذكر أن الملك سعود رحمه الله في مطلع عام 1375ه، أمر بعمل مدرج فخم لائق بمكانة بيت الله العظيم، فعمل في القاهرة، من الخشب القوي، الملبس بصحائف الفضة المزركشة، وفيه نقوش عربية مذهبة بديعة، فوصل هذا السلم الذي يصعد عليه إلى الكعبة من مصر إلى مكة يوم الاربعاء 5/12/1376ه، وفي صباح يوم الخميس 6/12/1376ه صعد عليه الملك سعود وضيوفه رؤساء الوفود من أنحاء العالم الإسلامي فدخلوا الكعبة وقاموا بغسلها ثم خرجوا، وهذا المدرج يشتمل على 12 درجة، وهو بديع الصنع جميل المنظر يعدُّ تحفة نادرة.
وغسيل الكعبة قد كان الملك عبدالعزيز رحمه الله يهتم به، ويحضره بنفسه مرات عديدة، ويباشر غسلها بيده الميمونة، ومع ضيوفه من رؤساء الوفود الإسلامية، وغسيل الكعبة يتم مرتين في السنة: إحداهما بعد النصف الثاني من شهر شعبان، إما في اليوم الخامس والعشرين منه أو في اليوم السابع والعشرين، وثانيهما: في اليوم السابع من ذي الحجة.
وتوسعة المطاف المحيط بالكعبة، فإنه في الأسبوع الأخير من شهر شعبان عام 1377ه ابتدأت التوسعة بأمر من الملك سعود، وملاحقة من ولي العهد فيصل الملك رحمه الله، حيث انتهت التوسعة وتبليطها في النصف الأول من شهر شوال عام 1377ه,, بحيث أراح الحجاج والطائفين لسعته ولازالة جميع العوائق التي تسبب الازدحام.
وفي عام 1418ه أمر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، كما هي عادته وحرصه، فيما يتعلق بالتجديد والتعمير للحرمين والأماكن المقدسة، بتفقد الكعبة المشرفة، والنظر فيما تحتاجه، وأمر بتشكيل لجان، قررت أن الكعبة تحتاج إلى تكسية وترميم من الداخل، وتغيير أخشاب السقف التي بدأت تدب فيها الأرضة, فبدأ العمل، وقد اتخذت الإجراءات العاجلة.
فأحيطت الكعبة بسياح يطوف الناس من ورائه، وأجري تجديد في داخل الكعبة، بإزالة بعض الأحجار التي تحتاج إلى تنظيف أو تبديل، فكان الفنيون يخرجون كل حجر ويرقم ثم ينظف أو يبدل إذا لزم الامر بحجر آخر، يأخذ رقمه ليعاد مكانه.
وقد جمعت الأنقاض الكثيرة من أخشاب وحجارة وأتربة وبقايا الاسمنت والنورة، وجمعت في أكياس، ثم أشرفت على إبعادها في مكان مجهول لجنة وفقما حصل في المرة السابقة في عام 1377ه.
يقول محمد طاهر الكردي عن مخلفات الترميم الأولى عام 1377ه: وبعد ان تجمع الشيء الكثير في حجر اسماعيل مما خرج من الكعبة، وقد انتهت عمارتها، نقلوا كل ذلك إلى جهة ما في أربعة مواضع أو ستة كل موضع بني على شكل مستطيل أجوف،قائم من الأرض إلى السماء، في علو بضعة أمتار، نقلوه بواسطة أكياس من الخيش توضع فيها الأتربة والأحجار، والاخشاب والنورة، والمسامير القديمة التي خرجت من الكعبة في عمارتها، ثم يصلون بها إلى جهة أخرى, فيطرحونها في المواضع المبنية، وهذه المواضع حفر عميقة ليس لها منافذ إلا من رؤوسها، فكانوا يرمونها فيها من فتحاتها.
كل ذلك حرمة لما خرج من الكعبة، ولئلا يفتتن بها العوام، كما كان الأقدمون يفعلون ذلك عند عمارة الكعبة المشرفة، لعبدالله بن الزبير حينما وضع ما خرج من الكعبة، عند عمارته لها، في باطنها وكبسه فيه، وكذلك السلطان مراد الرابع حينما عمر الكعبة الغراء، وضع ما خرج منها في نفس المسجد الحرام، في الدكتين اللتين في باب الزيادة.
وقد ترتب على ترميم الكعبة في عهد خادم الحرمين الشريفين أن استبدلت أخشاب السقف بأخشاب جديدة روعي فيها أحدث المبتكرات العلمية طلاءً ومحافظة وتقوية حتى تتحمل الأرضة وتقاومها والهندسة الفنية في تغيير السقف وتعقيم الأخشاب والحجارة، وقد أصبح مقدار الحيطان الداخلية بعد التكسية للكعبة المشرفة الشرقي 9,89م، والغربي 10,09م والجنوبي 8,22م، والشمالي 80,0م.
وفي عهد الملك خالد رحمه الله، استبدل باب الكعبة بباب مكسو بالذهب، يعتبر من أجود واثمن ما أهدي للكعبة، وما ذلك إلا لمكانة الكعبة والمسجدين الشريفين، الحرم بمكة ومسجد رسول الله من قلوبهم واهتمامهم بهما وبما يخدم الإسلام والمسلمين.
بعض الحوادث بمكة:
ذكر محمد طاهر الكردي في تاريخه عن مكة، قصصا ووقائع تبين الفوضى وعدم الأمان قبل العهد السعودي، ويثني على ما حصل من الراحة والأمان بعدما تولى الملك عبدالعزيز ثم أولاده من بعده زمام الأمور، من باب التذكير بنعم الله، ومن ذلك قوله: في شهر شوال سنة 1326ه حدثت بمكة فتنة، كادت تفضي إلى محنة عظيمة، وسبب ذلك أن الحكومة أمرت أحمد القبوري أن يعمر الجدار المحيط بالمقابر دفعا للروائح الكريهة، الحاصلة من أوساخ الناس، وأمروه أن يعمر القبور المتهدمة أيضا، فقال: أنا رجل فقير من أين أعمر فقالوا: مما تقبضه من أهل الأموات، وإن لم تفعل فقد وجدنا غيرك، من يقوم بهذه الخدمة.
وكان يأخذ على كل قبر يحفره للميت، ما يشاء من غير معارض له على ذلك، وعلى الخصوص في زمن الحج من الحجاج، ثم بعد هذه القضية، شرع يطلب الزيادة عن المعتاد، ويشدد في الطلب من الفقراء، وشاع بين الناس أن الحكومة أمرت القبوري بأن يأخذ على كل جنازة تدفن في المعلاة خمسة ريالات مجيدي، يأخذ منها واحداً لنفسه، والأربعة الباقية يصرفها في العمارة المذكورة.
واتفق في تلك المدة أن جاءت جنازة، فقير من التكرور، فطلب القبوري منهم ما اعتاد في حفر القبر، وقال: إني مجبور على أخذ ذلك، فامتنعوا وتضاربوا، وقصدوا الحميدية، وانضم إليهم جماعة من الذين أشاعوا الخبر المذكور، وهو أن الحكومة أمرت بأخذ خمسة ريالات مجيدي، على كل جنازة، وصاروا يصيحون: باطل باطل، إلى أن وصلوا عند الوالي، فقال: لم آمر بذلك, فرجعوا من عنده، ولكن أثارت الفتنة بعض المفسدين، فهجموا بالسلاح على دائرة الحكومة، وعلى بعض المواقع العسكرية.
ورمي بالرصاص، بين الصفا والمروة، وباب الوداع وبالمسجد الحرام، وقتل عدة أنفار، من العسكر، وعدة من الرعايا، إلى أن خمدت الفتنة، آخر النهار، بهمة بعض الأشراف، ووكيل الإمارة الشريف، محمد بن أحمد بن عبدالمجيد الحمودي، العبدلي، وغيرهم من الأعيان.
ثم بعد أيام بحثت الدولة، عن سبب هذه الفتة وشرورها، وقبضت على شيخ الفتنة أحمد القبوري، ونحو عشرين من اتباعه وأعوانه، ومن بينهم في ذلك ايضا: محمد علي بن عبدالواحد، الذي كان كاتبا للشريف عون أولا، ثم كاتبا للشريف علي، في مدة إمارته.
فقبض عليه أيضا، ونقلوا إلى الآستانة، وحبسوا هناك مدة، مات فيها محمد علي ثم أرجعوا إلى المحاكمة ثانيا في بيروت، ثم أطلق سراحهم، ورجعوا إلى مكة المكرمة بعد سنة تقريبا.
ذكر ذلك في نزهة الأنظار والفكر.
انتهى كل ما ذكر من تاريخ الغازي وقد أورد قصصا أخرى عديدة في تخلخل الأمن ]تاريخ القويم للكردي: 5:152[.
|
|
|