لو أن الكاتب ردَّ على القارئ المحتج على أسلوبه في الكتابة بأن: المسألة لا ينحصر تفسيرها بكون الكاتب متعاليا او متباهيا او مستعرضا لقدراته اللغوية او لشهادته, وأن المسألة لها جانب آخر يتعلق فقط بالضعف القرائي عند بعض المتلقين وتوقفهم عند فهم البسيط والواضح والمجتر، وانحصار أفق اهتماماتهم في المكرور، بل وتتعلق بالعجز العام عن الوقوف في موقع الفهم من الاشارة، ولذلك نرفض الرمزية ونرتاح للإسهاب, ؛ قد يكون في ردّه على حق,, فساحتنا لسوء الحظ تحمل من الضحل والمستهلك والمجتر اكثر مما تحمل من الجديد والمضيف والعميق،,, ولو ظل كل كاتب وقارئ مقيدا عند قدرة قارئه او كاتبه البسيط، ماذا سيكون الناتج النهائي,؟ انحدار مستوى الساحة كلها الى مستوى القارئ الذي لا يملك من قدرات القراءة غير فك الحرف، وليس له من الاهتمامات غير ما يتعلق بتسهيل حصوله على الخدمات الرسمية والعامة، أو الحض على تغيير الأوضاع إلى ما يناسب مصالحه، ومستوى الكاتب الذي لا يتطرق في كتاباته إلا إلى ما يطلبه منه القارئ المعني من الفئة التي يتوجه قلمه لارضائها: المواطن والحكومة، والقطاع الخاص، والصحافة، وما عدا ذلك خارج نطاق تفكيره، وتعبيره، وتحبيره.
أجل، يكتب الكاتب وفي باله القراء,, ولكن أي قارئ بالذات يستحق ان يتحكم في اولويات الكاتب؟ القارئ الذي لا يملك من قدرة استيعاب الكتابة إلا قدرة فك الحرف المباشر؟ أم القارئ الذي يمتلك من الخلفية العلمية والخلفية المعلوماتية الكونية، التاريخية والاجتماعية والثقافية وحتى الأدبية، ما يؤهله لتفهم كل ما يشير إليه الكاتب باقتضاب، فيدخل عبره الى عالم متسع من الشمولية والعمق الفكري المحرك للتفكير ما يمنحه النمو الفكري؟
إن النمو الفكري عملية مرهبة ومؤلمة للبعض، بقدر ما هي مطلوبة ولذيذة للبعض الآخر,, فلأي هذا البعض نترك لقيادة؟
التفاوت والنزاع على من له احقية الأولوية في تقرير مستوى الطرح واسلوبه قضية قديمة جدا,, في منتهى القدم,, ولكن بعضنا يعود الى تلك الأسئلة المستهلكة يجترُّها ويلوكها دون تفكير او تدبر لتغير الاوضاع،, بل يتعدى ذلك بإلقاء التهم جزافاً:هذا كاتب متعالٍ ومستعرض,, لا يبالي بالقارئ العام,,!!
وهناك زاوية اخرى لهذه القضية قلّما يتعرض لها احد.
حين ردّ عمّنا أبوتمام على سائله الغلبان المحتجّ بشجاعة على أسلوبه: لماذا لا تقول ما نفهم؟ متهكماً بإجابة مسكتة: ولماذا لا تفهم أنت ما أقول؟ ، كان في الحقيقة يكسب الجولة بالتهرب من مواجهة الخصم، والغريب ان خصمه الغلبان بلعها وسكت, ولم يردّ عليه: وهل كل ما يقال ذو معنى حتى يتوجب فهم كل ما يقال؟
وهو سؤال وارد تجاه بعض من يتعاملون اليوم بالكلمة، شفاها او كتابة وقراءة, ووارد أيضاً السؤال المعاكس: لماذا ينطلق بعض المتكلمين من موقف ان المستمع او القارئ لا يفهم حتى يتعطفون عليه بالتكرار؟
وعند منعطف التكرار والاسهاب نأخذ نفسا,, ونفسا طويلا كي لا نغضب جدا كقراء فاهمين,, وقتنا ثمين والكاتب يتجاهل ذلك.
د, ثريا العريّض