خطوات على جبال اليمن د, سلطان القحطاني |
كنت أعرف الطريق المؤدي إلى المسجد القريب من المستشفى، عندما كنت أخرج بصحبة أحمد وعلي شايف، لأداء الصلاة بعد أن سمعت صوت المؤذن من خلال نافذة غرفتي لأول مرة ينادي على خير العمل ، وعندما خرجت نهائياً وجدت هذا المسجد أول شيء أراه أمامي، كنت أذكر أن الشمس تكون على يدي اليسرى عند الخروج لصلاة العصر، واليوم أجدها فوق رأسي، تحاول أشعتها التسلل من خلف سحابة سوداء تحاورها، فتمنعها حيناً، وحيناً تتغلب عليها، ولكن هل تزول إلى اليمين، أو إلى الشمال؟ تركتها تذهب كيف تشاء، وأنا سأذهب حيث يشاء الله, شارع طويل ممتد سأسير فيه، وعندما لم أجد مكاناً آخر، سأعود إلى هذا المسجد، بيت من بيوت الله، ليس لي غيره منزل,!! سرت في هذه المدينة العريقة التي ابتلعتني، وليست لي إرادة أو هدف أسعى إليه، إلا ما سيأتي حسب الظروف, ظننت أن أحداً سيسألني فلم أجد، وكنت قد جهزت الإجابة، ولكن شيئاً لم يحصل من هذا أو ذاك، وفي منتصف الشارع وجدت مقهى على يدي اليمنى يتحلق فيه مجموعة من الرجال لم تكن مظاهرهم ولا لباسهم بالغريب، فقد ألفت هذه الثقافة في المستشفى، وعرفت الكثير عن طبيعة التعامل, ملت إلى مقعد منفرد وجلست بجانب الطاولة العتيقة حيث أسرع إليّ صاحب المقهى، وسألني عن طلبي فقلت شاهي أحمر وقد عرفت هذا المصطلح من المستشفى أيضاً، فإن لم أقل احمر فسيكون الشاهي ممزوجاً بالحليب, كنت أتفرس في وجوه الحاضرين، وشعرت بالغربة، ووددت العودة إلى سريري، ولكن تذكرت تلك الحالات التي كرهت المكان من أجلها، لذلك صرفت النظر، وعقدت العزم على أن أكون إنساناً آخر يعتمد على نفسه، ويصارع أمواج الحياة من جديد، هكذا ولدت من غير طفولة، لي الحاضر وليس لي من الماضي شيء,!! سألت صاحب المقهى عن دورة المياه؟ فقال إنها في الداخل وأشار بيده إلى مكان قصي، ذهبت إليه، وهناك حللت الحزام الذي يحتوي على المبلغ والأوراق الخاصة، وأخرجت عشرة ريالات، ثم أعدته إلى وضعه السابق، وعدت إلى مكاني، وناولتها صاحب المقهى.
نظر اليها بدهشة، وسألني، ماهذا؟ وقبل أن أحاول الإجابة، وليس عندي جواب محدد لسؤاله، لكنه قاطعني الأخ غريب؟ قلت نعم، قال: هذه نقود لا نتعامل بها, قلت: ليس عندي غيرها، خذها بأي سعر تراه, نظر إلي نظرة إشفاق ثم أدخل يده في جيبه واخرج مجموعة من النقود، وأعطاني إياها, شكرته وانصرفت أذرع الشارع، وأقرأ العناوين, وفجأة سمعت النداء على الصلاة فعدت إلى ذلك المسجد، وبعد أن قضيت الصلاة خرجت مع جموع المصلين وعدت إلى المقهى، ووجدت الشمس قد مالت إلى اليسار، وهنا تحددت لي الجهات الأربع، وأخذت مداركي طريقها إلى الثبات, وبقي سؤال يحيرني، كيف عرفت الكتابة والقراءة؟!
ووجدت نفسي ميالا إلى بعض الحرف، مثل إصلاح الراديو والدراجات الهوائية,, عشرات الأسئلة تدور في ذهني، ولم أجد جواباً لواحد منها, كلما كان يشغل بالي، أين أنام هذه الليلة؟ لقد عرفت هذا المكانالمقهى وعرفت المسجد، وليس غير هذين المكانين، وكنت أبحث عن مكان ثالث، هو مكان النوم, أحسست أن صلاة العشاء في ذلك المسجد ستكون الحاسمة لوضع مثل وضعي، ولكن على أي صورة سيكون هذا الحسم، هذا من ضمن المجهول الذي يترقبني، وقلت في نفسي: دع القدر يجري ويحدد المصير، وكلما اقترب الموعد زاد القلق حينا، وحينا تلم بي السكينة عندما أخذ الناس يتسللون واحدا تلو الآخر من باب المسجد الصغير، ولم يبق إلا رجلان أحدهما أخذ يطفئ المصابيح والآخر يطيل في صلاة السنة، كلما اقتربت منه قام يصلي، ولكن الآخر كان ذكيا عرف مقصدي، فاقترب مني بهدوء وسلم علي قائلا:
أراك هنا في كل الأوقات، هل تسكن قريبا من المسجد؟ وعرفت منه أنه يريد معرفة لهجتي ليحدد من أين أنا, تلعثمت قليلا قبل الإجابة، ولكنه لم يترك لي مجالا، حيث سابقني الإجابة بقوله: حسنا,,,, حسنا هونها تهون، كان بودي ياابني أن أستضيفك في داري، لكنها مزدحمة بزوار من القرية، ولكن يوجد غرفة صغيرة في سطح المسجد، ستكون سكنا لك حتى يفرجها الله,,, لاح الأمل في عيني وشعرت بالراحة وصعد معي ليفتح الغرفة الصغيرة في حجمها، الكبيرة في عيني، وأيقنت أن الله لن يترك دابة على الأرض، وكانت الليلة الأولى في حياتي الجديدة التي أنام فيها وحيدا في غرفة صغيرة نورها من القمر المستدير بقدر قرص الشمس, لا أدري عن حساب الشهر شيئا إلا أن القمر في تمامه، عرفت فيما بعد أن الشهر في منتصفه.
ما ان أغلقت الباب ولامس جنبي الأرض حتى غرقت في نوم عميق إلى أن سمعت صوت النداء لصلاة الفجر، ونزلت للصلاة، وفي وسط المسجد شعرت بيد تضرب كتفي وصوت يقول:عسى نومك كان حالي فالتفت وإذا بالشيخ صالح الذي فتح لي الغرفة، مؤذن يقوم على شؤون المسجد، شكرته، وذكرت له أن ليلتي كانت جميلة,,,, لقد تعودت على ذلك المقهى، فما ان قضيت صلاة الفجر حتى خرجت تلقائيا إلى المقهى، فما ان فتح إلا وأنا أول الزبائن، تناولت الإفطار وقدحا من الشاي، وسألت صاحب المقهى وهو الوحيد الذي يعمل فيه إن كان بالإمكان إيجاد فرصة عمل معه في المقهى الذي نشأت بيني وبينه ألفة ومحبة، فقد تعودت على هذا المكان بدلا من المستشفى الذي كنت أحن إليه كثيراً، وكنت مترددا, هل يقبل بي عاملا عنده، وإن رفض فما العمل؟! ولكن الأمر سهل للغاية إلى الآن، فالنقود كثيرة، ومصاريفي قليلة, كان الرجل مشغولا ببعض الزبائن وكلهم من العمال، وكنت أنتظر جوابه بين الرجاء واليأس، وما كنت أطمع في أجر مرتفع، فأنا لا أعرف الأجور، ولكن أبحث عن عمل فقط,,,, قطع تفكيري القريب، فليس لي أبعاداستراتيجية أفكر فيها تصل الحاضر بالماضي، فعمري الزمني قصير جدا، وتجاربي ضائعة في دوامة الزمن المفقود, وكأن صوته ناقوس معمل كل ذبذبة منه تخترق أذن عامل سرحت به الهموم، فما كان منه إلا أن استيقظ على هذا الصوت الذي تعوده كرد فعل سريع منعكس شرطي يقول له بلغة العمل اليوميةقم وباشر عملك كان صوت العم مصلح هو ذلك الناقوس الذي أيقظني من حلم يقظة تضاربت فيه الأسئلة بين الإنكار والاستفهام، وقف أمامي وقال: أهلا بك للعمل معي في غسيل الصحون والكأسات,,,, كان خبرا سعيدا فرحت له، وطلبت منه مباشرة العمل اليوم,,, الآن,, هز رأسه بالموافقة، وأخذني إلى الداخل، وباشرت العمل بجد ونشاط,,, كان العمل بسيطا والزبائن يكثرون في الصباح وفي المساء، ويقلون أو ينعدمون بين الظهر والعصر، وهي فترة يتناول فيها الكثيرالقات ,,,.
|
|
|