الاغتراب الفكري د, مسعد العطوي |
الفكر : هو العمود المحوري الذي يوجه الأمم، فما ترقى أمة الا وتكون صاحبة فكر قادر على توجيه مناحي الحياة البشرية النفسية والمادية، ولا نستبعد ان يكون مصدر فكر الحضارات القديمة ناجم عن اقتباس من توجيه الأنبياء او الرسل الذين نعلمهم أو لم نعلمهم، فالفلاسفة في المشرق في الصين والهند ربما اقتبسوا من رسل بعض الأفكار التي تفاعل بها البشر وربما حوروا وحرفوا ومالوا بها، وكذلك الشأن في الغرب في اثينا واسبطرة وسائر الحضارة الاغريقية مما جعل افكارهم يعيش في كنفها حضارات سادت ثم بادت.
غير ان الحضارات التي عاشت مستظلة بالتوجيه الرباني الموجه لمسارات الحياة البشرية كانت الأظهر تاريخا، وانجازا حضاريا، وسيادة سلطوية كالحضارة الرومانية حين استظلت بالنصرانية وان حرفتها لكنها أفضل الواقع، فتطور بناؤها الفكري والمادي، وامتدت احقابا تاريخية وكذلك الشأن للحضارة الاسلامية التي امتدت مساحتها المكانية والزمانية، واشرقت أنوارها الفكرية على الانسانية, لكن الانحراف الفكري البشري الذي كان يطفو أخذ ينحرف بتلك الحضارات حينما يغيبون العمل بالتوجيه الرباني الحق ونحن عندما نتأمل رحلة الفكر في تراثنا الاسلامي والعربي نجد له مصدرين:
الأول: هو الذي ينتمي الى بناء الفكر التشريعي الذي يتخذ من الفقه ميدانا، ثم تطور الى ملامسة القضايا الاجتماعية في لمحات في كتب التفسير، وبشكل اوسع عند الفقهاء لاسيما الذين يعتمدون على الرأي، ثم تطور الامر الى نظرة شمولية، فوجدنا مفكرين الفوا كتبا خاصة تيمية كابن في كتابه درء تعارض العقل والنقل ومنهم ابن القيم الجوزية، ومنهم تقي الدين السبكي في كتابه معيد النعم ومبيد النغم وكذلك المقريزي، وغيرهم,, ويقتفي اثر هؤلاء جمع من المصلحين الذين لم يؤلفوا في قضايا المجتمع لكنهم عادوا بالمجتمع الى التطبيق الكامل للتشريع الفقهي كأمثال الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
لكن برز في عصرنا الحاضر من اعتنى بالفكر وطرحه طرحا معاصرا كجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأبناء قطب، وأبي حسن الندوي والمودودي، ومحمد اقبال وعلي الطنطاوي، وغيرهم ممن يمثل معلما فكريا في سائر الاقطار العربية والاسلامية، وهؤلاء لم يحظوا بتسمية فكرية او فلسفية متميزة لها مناهجها ومفاهيمها وغاياتها ربما لانحصار التفكير في محاور محددة عند كل منهم سواء القدامى او المحدثين او ربما لقصور الفكر النقدي عند امتنا العربية والاسلامية.
المصدر الثاني: الفكر الفلسفي وحمله المفكرون الذين تصدوا للفلسفة المستوردة من اليونان الاغريقي، وهؤلاء لقبوا بالفلاسفة، ووصفوا بالمفكرين كأمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن عربي، وابن رشد وغيرهم كثير من اهل المذهب الكلامي الذين حملوا لواء الاعتزال, وفكر هؤلاء يمثل الفكر المستغرب، الذي نأى عن التفاعل الاجتماعي الواقعي لعدم ملامسته الحياة العملية الواقعية، ولعلنا نستثني أبا حامد الغزالي الذي خاض سائر العلوم ومنها الفلسفة واستقر في المذهب الصوفي، غير ان الذي يعنينا منه استفادته من المنهج الفلسفي والمنطقي فتجلى اثرهما في معالجته الفكرية للقضايا التجريدية التي عالجها في المجلد الاول من كتاب احياء علوم الدين فكون له فكرا منطقيا ناقش من خلال العقل، والعلم، والحكمة، والعمل، والنفس والروح وناقشها مناقشة منطقية فلسفية، لكن يرجح بها التوجه الديني فاعتمد على النقل اولا ثم على الآراء التجريدية التي تقرب من الفلسفة ثم التأثير الروحي والنفسي من ناحية النية، والمقاصد الشرعية وروضها بالطرح الواقعي العملي، وتلاحمها مع المجتمع، وهو اسبق الكتب الفكرية الاجتماعية التي خرجت حسب علمي، وأُلف بعده عدد من الكتب في القرن السابع والثامن وقد اشرت اليها آنفا.
ونمجد نحن العالم النامي في مجالسنا ومنتدياتنا بل في صحافتنا ووسائل اعلامنا، وندعو الى المؤتمرات ومجالس الخبرة والاستشارة نمجد المفكر كثير الاستشهاد بأقوال الفلاسفة والمفكرين الغرب، ويعجبنا ادراك هؤلاء المفكرين لما يحيكه الغرب ضد الأمة الاسلامية وذلك خير ولا غبار عليه.
فالذي لا ريب فيه ان القيادة الفكرية تنبع في جل اسسها من الداخل والذي تحتاج اليه الامة ان تمجد المفكر الداخلي مثل غيره ان لم يتفوق عليه لكننا في عالمنا الثالث لو جاء مفكر من الداخل، وتناول قضية اجتماعية او تربوية كأن يتناول قضية التربية وينظر لها نظرة منطقية تحدد المشكلة ومراحل تكوينها قبل الاسلام وبعده، وما طوره الاسلام بما اورده في الكتاب والسنة وتقصى اللمحات في التفسير وشرح الحديث والفقه، وسبر غور التاريخ العملي للتربية وتطبيقاتها في حلقات العلم والكتاتيب، ومناهجهم في المدارس النظامية، وما أورده العلماء في مؤلفاتهم التربوية وتصدر المفكر المعاصر وقبس الاضاءات من التربية الغربية ومزجه بالواقع المعاصر، وكونا منهجا جديدا لما قالوا عنه انه مفكر او فيلسوف بل تجهض مثل هذه المباحث بل تتجاوزه العيون في الصحافة والمنتديات ومن هنا نقول: انه لا تنهض امة الا بفكر منهجي متكامل يتفاعل مع الداخل.
وتكشف لنا المفارقة بين مفكرينا ومفكري الغرب، حين تقارن بين مفكري نهضة الغرب ومفكري نهضتنا فالمتنورون الذين قاموا بالنهضة الاوروبية الاولى رصدوا القضايا الداخلية وعالجوها، فجل هؤلاء كانوا من الفلاسفة والمفكرين الذين تأملوا الواقع وتطوره فكريا ثم مزجوه بفكرهم المعاصر وروضوه علميا وعمليا.
بينما نجد ان جل المفكرين الذين تصدروا لنهضتنا العربية استمدوا من الغرب او مال بهم الاتجاه الفكري الغربي بل في اكثر احوالهم حاولوا ان يأتوا بالفكر الغربي الذي نهض بهم، ويلبسوه او ألبسوه مجتمعنا مما جعلنا بعد قرن من الزمان ندرك اننا ما زلنا نسير في بعض الدروب التائهة، فنحن لو تأملنا قضايانا المعاصرة في العالم الاسلامي لرأينا تحكم التفكير الغربي وفلسفته وحضور مفكريهم الدائم في حل القضايا الفكرية بدءا بالتربية الروحية والعلمية ويتجلى الفكر الاقتصادي بقوة، وتتكشف القضايا الفكرية الاجتماعية بحياء، وتظهر في الاتجاه الابداعي والتنمية، بل ومفاهيم الحضارة.
ونحن لو كنا معتدلين لرأينا فكرنا يطفو والفكر المستورد يكون عاملا مساعدا.
فلعلنا نعيد النظر في مصادر فكرنا ومصادر مفكرينا ونصقلها بالمباحث الاستنباطية الجديدة لندرك مدى تنظيرنا ومدى ايجابيات المدح والقدح ونقيم الفكر ايضا للقرن الماضي ببحوث مقارنة واقعية حتى ندرج الى القرن القادم بأسس راسخة، ألهم الله أمتنا دروب الخير والصلاح.
|
|
|