خُسران ,,شعرية التقنيات المتاحة محمد الدبيسي |
** من جيل شعراء القصيدة الحديثة في المملكة,, ينطلق صوت علي الحازمي
المنسرب في معطيات هذه القصيدة
التي حققت في تراكمها النوعي وجوداً
يستدعي الانتباه!
وهي وإن تجلت احتفائيا,, وبعد انتشاريا
تأصيليا في غمار حركة الحداثة في الثمانينيات
وما بعدها فإنها قد بدأت تصوغ منهجها
في المشهد الثقافي بالمملكة,, كشكل إبداعي
مختار ,, وجدير باستظلها معطيات الحداثة ،،
صوتا إيقاعيا,, وتشكيلا فنيا,, وبنى تعبيرية،
تنتهي بها الى هوية إبداعية تنفرد
بصياغاتها,, وتمثلاتها,, ووجودها المستقل
وفي مجموعته الشعرية الأولى يناضل
الحازمي لتحديد فضائه الشعري,, وإسهامه
في اختطاط مسار ابداعي، يحرص ان يكون له سماته في هذا الاطار,, وإن بدا
ظاهريا مشابها,, كان استثناؤه فيه
اشتغاله على بعض التقنيات التي تتيحها له
رؤيته الشعرية,, ومرجعياته القرائية
***
** ولعل ما يتمثل في تحديد دلالات هذه
المجموعة,, التي تنبجس بداية من فضاء العنوان
خُسران الفضاء الدلالي الذي اختاره سيماء
فتمحور المشترك الدلالي لنصوص المجموعة
تضطلع بحمولاتها,, وتتطلع الى إسباغ اجواء
الشعرية كحالة عليها,.
وخسران النص المنفرد ص 65
المحتمي بفضاءات دلالية أخرى، أكثر
زخماً,, وأجلى في التعبير عن هوية
الشاعر ,, وتجلي مستوى وعيه,,!
وخُسران عنصر مفارق في نصيته
لذات الشاعر المُعبر عن مآزقها
وإشكالاتها في جملة النصوص,.
هذا النص الذي يتتبع الشاعر
فيه مأزق الآخرين,, في الدروب
الموشومة بألم الانتظار, والمحكومين
بالخسران,, حيث يطالع عن قرب مشهدهم
ويتعالق مهم في تقمص الحالة,, واحتوائها
ومن ثم قراءتها,.
على عتبة الليل
ينتظرون مرور المساء الأخير
عيونهم اكتحلت بالأسى
في دروب الخطيئة ينسون أنفسهم عنوة
حيث تحسبهم من لهيب التغرب
سكارى,, وما هم كذلك,.
لكن وقع الحقيقة أقسى على برعم
في ربيع عيونهم
لم يشأوا على الجرح ترك
خطاهم على أول الدرب مسلوبة
حين ظلوا بعيدين عن زهر أيامهم
واستراحوا الى غربة اورقت
في صدورهم بالضنى
***
** ويمرر في تأمله لهم ومن الداخل,, حرقة
الغاية المضيعة,, وأسى التيه
الشارد في عيونهم,.
ويختصر في شبه الجمل الاسمية
مصداقية التوصيف الحقيقي المنبعث
في داخل وجودهم.
كما يعتد بالتأمل في حالهم كجزء فاعل
في تكوين السياق الشعري,, الذي يحمل
الصورة حالة بكل اجزائها المعبرة.
وخلفيتها السببية,,, ومقدمات نتائجها,!
وهو المحترق بأساهم,, يشاطرهم فجيعة الغاية
عبر الاتساق معهم في الإحساس بالحالة القائمة
الى النتيجة الحتمية:
هكذا يصنع الخاسرون من العمر
عند انتهاء المطاف بهم,,
***
** ولعل التلاقي المتناغم دلاليا في بناء هذا النص,.
واختياره عنوانا للمجموعة,, ومكثفا لثيمة
دلالاتها الكلية,, يتجلى في أبعاد لوحة الغلاف
التي شكلتها ببراعة شادية عالم واختارها بدقة
ومهارة الشاعر فهي تختط دلالتها
في الوجه المضيع الملامح,, الذي يبدو وقد
تداخلت ملامحه تماهياً قسرياً! حتى كادت
تموه كنهه المادي,, إذ تتداخل اجزاؤه
بعنف ,, ودلالته التجريدية,, التي تختزل
ملامح منطفئة,, يعبر عنها اللون
(الأحمر والأسود) بينما يتعالق
بهما (الابيض) المشرب بالاصفرار
والذي يفقد كثيراً من مقوّماته العضوية
وأبعاده اللونية/ الشكلية، بدخوله
جزءاً مكملاً لبنية الوجه وبذلك
ينساق في الخسران الدلالة
الشعرية المتوحدة بضياع الملامح
وانمحائها,, وتشتت غايتها,,!
***
** ويتعاضد مع هدى التكوينات,, دلالات
اخرى في اجزاء النصوص، تكشف المهاد
الشعري,, الذي يستبطن علي الحازمي مفرداته
بانسيابية بالغة ,, وصوت هادئ اشبه
بالهمس, والمناغاة التواقة للغناء,,!
حيث تطغى الصيغ الاسمية بتراكيبها الانشائية
نحويا بلاغيا بحسب تقسيم محمد مفتاح
الذي يقسم مستويات التركيب الشعري
الى (نحوي وبلاغي) (1) والتركيب الشعري
بنسقيه السابقين يتخذ هنا من وضعية المشاهدة
المتخيلة,, منطلقا يستهدف
احتواء لحظة الانفعال,, ودهشة
التعبير عن حالة شعرية مستقاة
من حالة مشاهدة ينصهر
المتخيل الشعري بعناصرها ومن
ثم ينزاح لكتابتها:
أنا لست اعنيها تماما عندما
جلست قريبا حيث طاولتي
بمقهى الشارع الخلفي
لم تأبه بغوص عزلتي التي ارتسمت
على كفِّي حين تشبثا بسجارة
راحت تمد لها حريقاً من دمي
رحل الدخان قصائداً بيضاً ليمسح
حومة الضوء التي انسكبت
لتفضح غيمة الوله المهيب
أمام عيني,,
** فالشاعر هنا لا يعنيه الا فضاء ذاته
واحتراما في الحيز المتاح لهمها واحلامها
وتفاصيل هامشها اليومي السابح
في الوقائع المعاشة,, التي لا يستهلكها
النظر,, بل يفضي بها الى ان تكون حالة
شعرية,, تفيض بهذا الكم من التأمل الشفيف
والصياغة الغنائية المشدودة الى مكوناتها
الجمالية,, في اجزاء من المشهد الشعري
وتتيح له إمكانات قصيدة التفعيلة
ان يتمكن من إخضاع ايقاعها المسترسل
لأن تحتوي شحنة انفعالية
يضيئها بوعي شعري,, ويتمادى
في رسمه,, قابضا على مكمن ابداعيته
ساعة ارتهانه للحظة الشعرية,,!
ويختار من عناصر التشكيل اللغوية
ميكانيزمات انتقائية الخطاب/ والحوار,,
***
** فالخطاب ,, الذي ينصاع لتقديمه
ميكانيزما موجهة للعنصر المكون لأحد بنى
النص,, كما في غبطة تجف ص 11
نشوة للهزيع ص 58,, وشارع
قلبنا الممدود ص 69
او لعنصر آخر مخالف,, وليوجد سبباً
في السياق الشعري,, بحيث يكوّن
ذاتا ,, متفرعة,, يتوجه اليها الخطاب
وتكرس بوجودها في الصنيع الشعري
معادلاً تفكيرياًً للشاعر,.
يتحدد بها تقييم جزئي لإمكانات المضمون,.
وطاقاته التعبيرية,, ومواءمة ابعاده
الدلالية لأحدهما,, كما في نص رئة المدينة
تزدحم بالخيبات ص 39.
حيث يتجزأ على أكثر من موقف,, تخسر
في عناوين جانبية، تأخذ تسلسلاً رقمياً
يراتب عناصرها,, توالياً تعبيرياً,, تنزاح
مقوماته صياغياً الى مشاهد عابرة بلا
رابط سياقي مشاهد بين عناصرها
ظاهرياً,,!
***
بينما تكوّن في دلالتها المضمرة وتفاصيل
علائق بنيتها الداخلية وحدة ذهنية
في خط بيني,, محرض على التأمل, وحتمية
استقاء ترابط عضوي بينها,.
وتفصح في الآن ذاته - عن حس انفعالي بديع يعكس حالة انقضاء الصدمة
المشهدية الاولى,, الى التحليل الذهني المتأني
وتهجئ سادر في تتبع مكامن الشعرّية
- التفرد في الصورة ذاتها,,؟
إذ تترقى اللحظة الشعرية بتكوينها
المباشر,, ووضعيتها الأولى:
من مرحلة الحضور الابتدائي,.
الى الاحساس بتفاصيل المشهد/ الحالة,.
إلى استيعاب حدودهما,, ومن ثم تخزينه
وإعادة تحديده شعرياً كما تمليه قدرات
الشاعر:
ولأن المسافات آخذة في تلاشي عيون
تتوق انعتاقاً الى مثلها
كم تظل ورود الكلام مجففة
فوق ارض المدرج في خيبة,,
***
** كما يتخذ الشاعر من تقنية المجاز
عنصرا يعزز طاقات النص دلاليا
حيث يبادل بين اجزاء الصورة
إحلالاً بانتقاء بعض اجزائها
كتفريع يكثف التنويع على سياقه
بغية استرداد هيبة الفرع
وحقنه بالاشعاع الدلالي المنبعث
من العنصر الاصل
واستنفاد طاقته الدلالية المتكوّنة
ذهنيا في الصورة الفرعية,, والتي ينسق
لها سياق النص، لتصبح الاكثر تبدياً
في تكوين السياق الشعري الجديد:
,, عظيم هو البحر
لكنه الآن يغرق في شبر عينيك حتى النهاية
معنى الجمال الذي يلبس الارض بهجتها
كم يظل احتمالا شريداً تعلق في غفوة
نصف حالمة منك بالخيلاء
ووحدك من يسلب الليل أقماره.
حين تغفو على رمشك الحر طفلا
من النهاوند المهاجر .
***
** ولعل البساطة في اجتذاب التقنيات
المتاحة للشاعر في رسم صورة متكاملة
لشاعريته، يعطي هذه المجموعة
قيمتهاالحقيقية ! عوضا عن تعقيد بنيتها
بالايغال في التجريب اللغوي,, والصياغي
والذي بدا هماً يسعى شعراء
هذه المرحلة لتحقيقه,.
إذ تبدو عملية الإبدال في عناصر
التراكيب اللغوية في المقطع السابق
منسجمة في تقاطعاتها,, الى تعميق
مفهوم واع لامكانات شعرية علي الحازمي
والتي تدخل حيز المشهد الشعري
الحديث وثائقيا بهذه المجموعة!
هوامش:
* خُسران المجموعة الشعرية الاولى لعلي الحازمي دار شرقيات القاهرة 2000م
1 د, محمد مفتاح , تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص ص 69 المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء الطبعة الاولى 1985م.
|
|
|