** نزولا عند رغبة الأخ العزيز الأستاذ خالد المالك رئيس التحرير سيكون لي ابتداء من هذا الأسبوع اطلالة مع القراء في مساحة اخترت لها عنوان من ملفات تاريخنا الوطني حيث لمست من خلال تعاملي مع هذا الموضوع لقرابة ما يزيد على ثلث قرن دارسا ومدرسا وباحثا ومحللا بأنه ومع أهميته القصوى وشغف واهتمام القراء، بل كل مواطن، بمعرفة تفاصيل هذا التاريخ إلا أنه ما زال دون الحد الأدنى من اهتمام الباحثين ومن اهتمام القائمين على مراكز البحوث العلمية في هذا المجال.
ولذا فسأحاول من خلال هذه النافذة ان أطل على القارىء الكريم بما اعتقد انه جديد في هذا الباب إما بتقديم مادة مصدرية غير معروفة مثل وثيقة أو مخطوطة أو نقش أو صورة أو خارطة أو غير ذلك من المصادر الأولية لتاريخ هذه البلاد أو تقديم كتاب أو تعريف به أو تحليل نص ورد في مصدر ووضع في غير موضعه أو تعريف بشخصية أسهمت في تاريخنا الوطني ولم تحصل على ما يليق بها من تقدير, أو تناول حدث من أحداث تاريخ بلادنا تجاهله المؤرخون أو مروا عليه مر الكرام.
وسأحاول ما استطعت أن أقدم ما سأقوم بتقديمه بلغة سهلة ومباشرة بعيدة عما تعارف عليه بلغة الأكاديميين ما عدا ما يقيدنا به نص لا مناص من الالتزام بحرفيته, وما حفزني على الاستجابة لدعوة أخي خالد المالك هو ايماني بأن المعرفة التاريخية والوطنية منها بشكل خاص حق للجميع ولأن الجميع هم صناع التاريخ وهم الذين يصنعون البطل وقد يكون للتاريخ أوجه كثيرة ولكن الحقيقة لها وجه واحد وهذا ما سأحاول البحث عنه, **
لست في حاجة للتدليل على ما عرفت به هذه البلاد حكومة وشعباً من وفاء وتقدير لكل من قدم خدمة أو خدمات كثيرة أو قليلة لهذه البلاد, ولست في حاجة للاطالة ولا في ضرب الأمثلة فهي كثيرة ولا تحصى، ولست في حاجة للتذكير بهذه الشمائل فهي ميزة متأصلة يورثها الأجداد للأحفاد.
واذا ما ذكر الوفاء في أجلى معانيه وارتبط اسمه ومعناه بشخصية بعينها فلن يكون غير الملك عبدالعزيز مؤسس كيان هذه البلاد طيب الله ثراه، الذي فاق كل من سبقه من رجالات التاريخ بمن هو في وزن عبدالعزيز، في مجال الوفاء والتقدير للرجال الذين وقفوا الى جانبه في أشد وأحلك الظروف اثناء مسيرة توحيد البلاد وبناء الدولة العصرية الحديثة.
استذكرت هذا وأنا أطالع جريدة الشرق الأوسط في عددها 7756 بتاريخ يوم الثلاثاء 22/2/2000 في صفحتها الرابعة صورة مهيبة للرحالة والمستكشف والمؤرخ البريطاني السير ويلفرد ثيسفز الذي تجاوز التسعين عاما من عمره وآخر الرحالة والمكتشفين الكبار الأحياء من مكتشفي الربع الخالي وهو يتسلم وسام الاستقلال أعلى وسام في الدولة من الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان وزير الدولة الاماراتي للشؤون الخارجية، تقديرا لما قام به من اكتشافات في الجزيرة العربية وأهمها عبوره الربع الخالي في عام 1945م والتي جعلت ثيسفز في مصاف المكتشفين والرحالة الكبار.
ثم استذكرت أيضا ما ناله السيد ديكسون المعتمد البريطاني في الكويت لفترة طويلة من تقدير من لدن حكومة الكويت تعداه التكريم الى زوجته التي تسمت بزهرة والتي عرفت في الكويت بأم سعود والتي كادت ان تحتل مكانة السيدة الأولى في الكويت وليس بالمعنى الأمريكي للسيدة الأولى أو من تشبه بها من بعض الدول، ولكن بمعنى آخر مرتبط بالاحترام والتقدير لما قدمته هذه السيدة وزوجها للكويت من خدمات أجلها كتابة تاريخ الكويت بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والبيئية، وأصبح بيتها وبيت زوجها أحد معالم الكويت التراثية والتاريخية واحتل السيد ديكسون وزوجته مكانة مرموقة في تاريخ الكويت ونفوس أبنائها والى اليوم.
ثم عادت بي الذاكرة الى أول زيارة قمت بها الى الفردوس العربي المفقود الأندلس والى مدينة غرناطة على وجه التحديد وذلك منذ ما يقارب عشرين عاما حينما لفت انتباهي فندق ملاصق لجانب من أسوار قصر الحمراء يحمل اسم واشنطن أرفينج إنه اسم غريب على الأسماء الأسبانية فقيل لي ان هذا الواشنطن رحالة أمريكي قدم الى اسبانيا في بداية القرن التاسع عشر وأفتتن بجمال قصر الحمراء فأقام له بجانبه هذا المنزل الذي تحول الى نزل فندق يحمل اسمه وكتب أروع ما كتبه مؤرخ أوروبي عن قصر الحمراء وعن تاريخ العرب في الأندلس فحتل بهذا مكانة في تاريخ اسبانيا وأصبح نزله مزارا لأنه من أوائل من نبه الى أهمية هذا الأثر الخالد على التراب الأسباني فأصبح قبلة السواح الأمريكان قبل غيرهم بفضل ما كتبه أرفينج.
تذكرت كل هذا وأنا أتلقى ردود الأفعال من قبل من سمع محاضرتي في نادي الرياض الأدبي عن السيد عبدالله فيلبى أو قرأها منشورة في جريدة الجزيرة أو استمع اليها مبثوثة من اذاعة الرياض.
وتألمت لأن الكثيرين ممن تحدث اليّ أو هاتفني كأنهم يسمعون عن السيد عبدالله فيلبي لأول مرة، وأكثر ما آلمني أن البعض من أولئك منهم في عداد المثقفين والبعض يسأل كيف تجرأت على الحديث عن هذه الشخصية التي أنقطع الحديث عنها منذ عدة عقود والبعض يسأل هل فيلبى كان حقا مسلما؟ وهل فيلبى كان كذا وكذا؟,, ولماذا أهمل فيلبى وأهملت كتاباته وأهملت الدراسات عنها؟ وهو فعلا بهذه القامة العملاقة أسئلة كثيرة عن شخصية مهمة حفرت لها وجوداً وحضوراً في تاريخ هذه البلاد من خلال ما تركه من مؤلفات تاريخية غطت كل أوجه الحياة في تاريخ بلادنا وأصبحت كتاباته ومؤلفاته ووثائقه المعين الأول لكل مؤرخ صادق لمهنة كتابة التاريخ.
ولكن الشيء المهم الذي أسعدني كثيرا سماعه هو رأي سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز عندما قرأ نص تلك المحاضرة منشورة في جريدة الجزيرة فأثنى عليها مرتين مرة عند سلامي على سموه الكريم في قصر العامر حيث يلتقي بكل المواطنين في اثنينيته الكبرى ومرة أثناء تناول العشاء على مائدة سموه حيث تحدث بصوت مسموع عن عبدالله فيلبى وما يعرفه سموه حفظه الله عنه وخاصة قصة هدم بيت فيلبى الذي ورد له ذكر في تلك المحاضرة والذي لم يكن هناك من بد من هدمه لتوسعة واحد من أكبر شوارع الرياض في أول عهدها بالتطوير في أواخر الخمسينات الميلادية وكان سمو الأمير سلمان هو أمير الرياض حينذاك حيث شهدت المدينة بدايات التطوير في عهد امارة سموه لها.
ثم في لقاء آخر مع سمو الأمير سلمان تحدث حفظه الله عن ضرورة جمع كل أوراق فيلبى وكتبه وترجمتها وتحقيقها وجعلها ميسورة متاحة لكل قارىء حيث انها في مجملها وهي كثيرة سوى الكتب المطبوعة أو التي لا تزال مخطوطة أو الأوراق الخاصة تتمحور جميعها حول تاريخ وجغرافية وآثار بلادنا وتسلط الضوء على حقيقة الأدوار التي قام بها خدمة لهذه البلاد ولم يتبجح بها.
وهذا الرأي الذي يقترحه سمو الأمير سلمان يصدر من رجل هو الأول من رجالات هذا البلد البارزين اهتماما بتاريخ المملكة الأكثر متابعة وحرصا على تقدير وتكريم كل من أخلص لبلادنا حتما سيكون موضع التنفيذ ولاسيما وكل الامكانات متاحة أولها وأهمها الدعم المعنوي والاشراف المباشر من لدن سموه.
بقي نقطة مهمة وهي التي أريد الوصول اليها على ضوء ما سبق من أمثلة وهي النقطة المتعلقة بتكريم السيد عبدالله فيلبى بما هو جدير به من تكريم لقاء ما كتبه من أعمال رصدت بشكل يكاد يكون متكاملاً لتاريخ هذه البلاد وهي أعمال لم يسبقه اليها أحد ولم يصل الى مستوى ضخامتها وأهميتها أي عمل من أعمال من جاءوا من بعده, ثم أن فيلبى أغضب بلاده وترك العمل السياسي بحكومته لمواقفه المبدئية المؤيدة للملك عبدالعزيز وآثر أن يكون مواطنا سعوديا ويعتنق الدين الاسلامي على طريقة أهل السلف ويعيش أكثر من ثلاث وأربعين سنة من حياته في موطنه الجديد المملكة العربية السعودية مخلصا لقضاياها متفانياً في خدمة مليكها ومات وهو لا يملك شيئا.
ولعلنا ونحن ما زلنا نعيش أجواء المئوية نغتنم هذه المناسبة بتكريم هذه الشخصية البارزة الذي كان له مكانة خاصة عند الملك المؤسس عبدالعزيز يرحمه الله.
وتكريم السيد فيلبى يتعداه الى شخص زوجته السعودية وأبنائه السعوديين المقيمين في مدينة الرياض الذين لا يعلم إلا الله وحده بظروفهم وأحوالهم وما تكريمهم وتكريم ذكرى والدهم بعزيز على سلمان بن عبدالعزيز، وليكن من باب البر والوفاء لصديق أخلص في خدمة الملك عبدالعزيز، وقدم له ولهذه البلاد مالم يقدمه غيره، وفي هذا المجال يتبادر الى الذهن المقترحات الآتية:
1 ترجمة كافة كتب السيد عبدالله فيلبى وأوراقه الخاصة ومنح حقوق هذه الترجمات لأبنائه وزوجته ليستفيدوا مما خلفه لهم والدهم من تراث أدبي حيث أنه لم يترك لهم شيئا ماديا لانشغاله في خدمة بلادنا.
2 منح عائلته وسام الملك عبدالعزيز ليكون التقدير مرتبطاً باسم عبدالعزيز العظيم.
3 تسمية أحد شوارع الرياض باسمه لأن ما قام به من أدوار يتجاوز آخرين سميت بعض شوارع الرياض بأسمائهم.
4 عقد مؤتمر دولي حول كتابات فيلبى عن المملكة يتناسب مع مرور أربعين عاما على وفاته التي ستصادف هذا العام.
* أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر.
- جامعة الملك سعود .
- عضو مجلس الشورى .