عنوان الفصل الثاني من كتاب الشيخ عبدالعزيز هو عبدالعزيز عند أبيه وهو بدون هوامشه ست صفحات, وبقدر ما جاء الفصل الأول ضعيفا جاء هذا الفصل الثاني رائعا في سبكه، ناطقا بقدرة كاتبه على حسن الصياغة, وهو في جميع انطلاقاته التساؤلية والتعبيرية أشبه ما يكون بتأملات شاعر يتفلسف أو فيلسوف يحاول ان ينظم شعرا, على ان من انطلاقاته وتساؤلاته ما لا ينطبق مع الحقائق التاريخية.
بعد بضعة سطور من بداية كتابة الشيخ عبدالعزيز ص 66 لهذا الفصل تصور خلالها لقاء بين الملك عبدالعزيز وابيه قال:
لاشك أن الأب الحكيم ذهل من هذا التطور المبكر عند ولده، فأذن له بطرح افكاره,, الخ.
عندما انطلق الملك عبدالعزيز من الكويت كان عمره في أرجح الروايات ستا وعشرين سنة, صحيح أنه كان شابا، لكن من كان في مثل هذا العمر في ذلك الوقت كان يعد ناضجا, فما بالك برجل مثل عبدالعزيز ينحدر من أسرة حكم، وعائلة مرت بتجارب فاحصة، اضافة الى ما كان يتحلى هو به من صفات ذاتية متميزة, وكانت قيادته لفرقة من الجيش القادم من الكويت ونجاحه في دخول الرياض قبل ذلك اللقاء المتصور بسنه من اكبر البراهين على انه لم يكن في عام 1319ه ذلك الشخص الذي يذهل من طرحه ما تصور انه طرحه من أفكار وهواجس.
نعم كان نجاحه، وهو في ذلك العمر، محل اعجاب الكثيرين, فعندما دخل عنيزة، سنة 1322ه، ومعه أتباعه من العارض، اضافة الى آل سليم وأعوانهم وآل مهنا وأعوانهم الذين كانوا في الكويت، قال الشاعر ابراهيم بن محمد القاضي:
جاك وادي حنيفة يصطفق كله والبحر جهز اللي به وجا ماشي جوك يتلون من يثقل على الحلة أشقر مخلبه من ناش ما عاش تو سنه صغير وبان فعل له قب واعول هدير له وهو حاشي |
لكن أن يكون أبوه الامام عبدالرحمن قد أذهله ما وصل اليه من فكر فأمر ليس من المسلم به, والذي هو أبعد من هذا هو ان يظن بانه كان في حاجة الى أن يعرف من أبيه من هو الخصم ومن هو الصديق ص 67 , ذلك اني اعتقد انه عرف خصمه قبل ان تضطر أسرته الى الخروج من الرياض قبل استعادتها على يديه بعشر سنوات.
ولقد قال الشيخ عبدالعزيز في تصوره: ان عبدالعزيز قال لأبيه: معي ايماني بالله، ثم بحقي التاريخي، ومعي أيضا شريعة الله وعدله .
وهذا الكلام جميل, لكني أظن ان من المهم تذكّر ما للأسرة السعودية من رصيد شعبي عند أغلبية أهل نجد.
عندما بدأت الدولة السعودية الأولى كانت النزعة الاستقلالية عميقة في نفوس أمراء البلدان النجدية، اذ مرت على نجد عدة قرون مفككة لم تعرف فضائل الوحدة, ولهذا لم تستطع تلك الدولة توحيد نجد الا بعد أربعين سنة من الكفاح المستمر, وبعد أن ذاق النجديون ثمار الوحدة على أيدي قادة الدولة السعودية الأولى، أمنا واستقرارا، أصبحوا على استعداد للانضواء تحت راية آل سعود وذلك ما يفسر دخول جميع امارات نجد تحت دولة الامام تركي، بدون قتال الا ما ندر بعد سنتين فقط من اجلائه بقية حاميات محمد علي من نجد, وهذا العامل المهم مضاف، بطبيعة الحال، الى ما كان يتحلى به ذلك الامام من صفات قيادية.
ولذلك فان القول بأنه لم يكن مع الامام تركي الا سيفه قول يتجاهل المعطيات التاريخية, ولو تأمل الشيخ عبدالعزيز قليلا فيما كتبه لما قال عنه ص 73 : انه لما رعى الغنم وتزوج ابنة مضيفه كان شابا حالما, كيف يقال عنه بعد تخريب الدرعية : انه كان شابا حالما وابنه فيصل كان في طليعة المدافعين عن الدرعية قبل سقوطها في يد ابراهيم باشا؟
وقد أورد الشيخ عبدالعزيز في هذه الصفحة هذا البيت من الشعر العامي:
يا الله يا للي حطيت لهو يدية بيت انك ترد هويدية في غنمها |
وهو منكسر وزنا, ويبدو ان صحته:
يا الله يا اللي حط لهو يديه بيت انك ترد هو يديه في غنمها |
وكذلك ورد البيت الذي ذكره ص 68 من قصيدة الامام تركي المشهورة مكسورا، اذ سقطت من أول كلمة من , وصحته:
من يوم كل من خويه تبرا حطيت الاجرب لي خوي مباري |
وعندما انطلق الملك عبدالعزيز من الكويت لاستعادة الحكم السعودي كان يملك الصفات القيادية، وكان امامه المخزون الكبير من الشعبية لأسرته, وبالاضافة الى ذلك فان أهم البلدان النجدية كانت متضايقة من حكم آل رشيد مما سيجعلها تقف مع من سيخلصهم منه.
ومضى الشيخ عبدالعزيز في تصوراته وتساؤلاته، مشيرا الى حوار تصور انه جرى بين المندوب البريطاني والشيخ مبارك بن صباح, وكان محور ذلك التصور رسالة سعود بن عبدالعزيز، الحاكم الثالث من حكام الدولة السعودية الأولى، التي ارسلها الى السلطان العثماني في أواخر عهد أبيه عبدالعزيز، وما تثيره تلك الرسالة من خوف في نفس ذلك المندوب لو نجح الملك عبدالعزيز في خطوته الأولى نحو الرياض عام 1319ه.
ومن الثابت تاريخيا ان اهتمام بريطانيا في المنطقة كان منصبا على منطقة الخليج، وانها اتخذت مواقف معينة من الدولة السعودية الأولى التي تمكنت من مد نفوذها الى جهات متعددة من تلك المنطقة، وكانت الدولة السعودية الثانية قد نجحت، أيضا، في مد نفوذها على كثير من تلك الجهات, والحوار المتصور بين المندوب والشيخ مبارك، بجعله رسالة سعود نقطته الأساسية، لا يأخذ ما ذكر مأخذ الحقيقة, أما بريطانيا في عهد الملك عبدالعزيز فلم تهتم بأمره اهتماما جادا الا بعد استعادته منطقة الاحساء والقطيف الى الحكم السعودي بحيث شمل نفوذه جزءا من منطقة الخليج, وما نسب من كلام حذر به الشيخ مبارك الملك عبدالعزيز قبيل انطلاقته من الكويت امر مستبعد الوقوع, ذلك ان حاكم الكويت كان حينذاك في موقف يحتم عليه ان يشجع عبدالعزيز ويبعث فيه الثقة كي ينطلق، أملا في ان يكون في عمله ما يخفف من خطر الأمير عبدالعزيز بن رشيد على الكويت، ولعل من أدلة ذلك ان مباركا أمد عبدالعزيز ببعض المعونة عند انطلاقته.
وفي حديث الشيخ عبدالعزيز عن معركة الصريف، سنة 1318ه قال ص 74 : من مكان في الصحراء يقال له الشوكي انشق عبدالعزيز عن جيش مبارك وذهب الى الرياض لاحتلالها , والشيء الذي ليت احد جلساء الملك عبدالعزيز سأله عنه لماذا خرجت عن جيش مبارك؟.
قد يفهم من عبارة انشق عبدالعزيز عن جيش مبارك ان تحركه لم يكن باتفاق مع قيادة الجيش العليا التي كان على قمة هرمها الشيخ مبارك, والذي يبدو من سياق الحوادث التاريخية ان تحركه كان ضمن خطة تلك القيادة, ولم يكن تحرك عبدالعزيز وحده في تلك الخطة, فقد ذهب آل سليم، الذين كانوا مع جيش مبارك، ودخلوا بلدتهم عنيزة، وذهب آل مهنا، ايضا، ودخلوا بريدة, ولما علم هؤلاء واولئك بهزيمة جيش مبارك في الصريف انسحبوا من البلدتين تماما كما انسحب عبدالعزيز من الرياض عند علمه بتلك الهزيمة.
وبعد ان رتب الشيخ عبدالعزيز المسرح لاخراج روايته التي كان بطلها الملك عبدالعزيز، رحمه الله، في تحركه الفعلي لعملية توحيد البلاد انتقل الى كتابة الفصل الثالث الذي هو بعنوان:
عند الصباح حمد القوم السري , وما كان هذا الفصل ببعيد عن سابقه من حيث الصياغة الرائعة, وهذا، فيما يبدو، من أهم العناصر التي حرص الشيخ علي ان تكون متوفرة في روايته, ومع ان دخول الملك عبدالعزيز الى الرياض كان تحت جنح الظلام ليلة الخامس من شهر شوال فان الشيخ، في غمرة اندياحه في اسلوبه الجميل الرائع، رأى ان يصف تلك الليلة ص 77 بأنها كانت مقمرة, وكما جاء هذا الفصل مشابها لسابقه، صياغة، جاء مشابها له طولا، اذ لم يتجاوز مع هوامشه سبع صفحات.
اما الفصل الرابع، الذي عنوانه، ضجر العدالة في قلب عبدالعزيز من جور السفية عليها ، فمثل الفصل الثالث روعة سبك، وهو في معظمه سؤالات مطروحة عما كان يفكر فيه الملك عبدالعزيز من انطلاقته الأولى الى اتمام توحيده للبلاد, وهي سؤالات جميلة تغوص، احيانا، في اعماق التاريخ العربي الاسلامي، وتنهال، أحيانا أخرى، على مسرح تاريخ الجزيرة العربية الحديث, ومن المرجح جدا انه كان من بين تلك السؤالات الأساسية التي كانت تدور في ذهن الملك حينذاك: كيف يستعيد الحكم الى الأسرة السعودية؟ وهذا أمر أشار اليه الشيخ عبدالعزيز في صفحة 101 , وهذا الفصل من أجمل فصول الكتاب في جزئه الروائي الأدبي، ربما لانه أقلها ذكرا لأمور قد لا يوافقه عليها من يبحث عن الحقيقة التاريخية المجردة.
على انه قد ورد في هذا الفصل ما يأتي:
لا ادري ماذا حصل في قصر صاحب مدينة حائل حين بلغه الخبر, قيل : انه قال عن عبدالعزيز لقومه : لا يهمكم انه أرنب جاحر .
هذه الرواية ذكرها الريحاني، وان كان أكثر دقة من الشيخ عبدالعزيز، الذي يفهم من عبارته ان خبر دخول الملك عبدالعزيز الرياض قد وصل الى الأمير عبدالعزيز بن رشيد وهو في قصره بحائل، مع انه حينذاك لم يكن في قاعدة امارته, وردد تلك الرواية آخرون غير الريحاني, ولأن المؤرخين كثيرا ما تحاملوا على المهزوم فان التحامل على ابن رشيد لم يكن بدعا عند الريحاني وأمثاله.
من المحتمل ان الأمير عبدالعزيز بن رشيد قد قال ما قال، محاولا اظهار عدم الاكتراث بالخصم الجديد وان كان في قرارة نفسه قد أدرك خطره، والدليل على انه كان مدركا لذلك الخطر انه قد حث الأتراك على الوقوف ضد الملك عبدالعزيز قبل انتزاعه الرياض مما أدى الى اجراءات تركية جعلت كثيرا ممن انضموا اليه يتخلون عنه, فهل من المعقول ألا يهتم بامر انتزاع الملك عبدالعزيز الرياض وهو الذي أبدى اهتمامه به قبل ذلك الانتزاع.
على ان ابراهيم القاضي، المؤرخ المعاصر، الذي نظم العديد من القصائد ضد ابن رشيد، قد ذكر بأن هذا الأمير حين بلغه وهو قرب حفر الباطن خبر دخول الملك عبدالعزيز الرياض استشار كبار قومه، فأشاروا عليه بأن يرجع الى حائل فيجهز للحرب من جديد لأنهم كانوا قد ملوا البعد عن أهليهم وأعمالهم في بلدهم، وقالوا له: لا داعي للعجلة فان ابن سعود في الرياض أرنب جاحر, ورواية المؤرخ القاضي المؤيدة برواية مقبل الذكير تبدو أكثر منطقية وأقرب الى الصحة.