نشرت الجزيرة في عددها الصادر بتاريخ 23/10/1420ه مقالا للكاتب الصحفي الأستاذ محمد أحمد الحساني، بعنوان حتى لا تندثر الأوقاف أو تذوب إثر ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية , وقد عرض فيها واقع الأوقاف وما تواجهه من معضلات ومشاكل، في غيرة محمودة على رعاية الأوقاف وحقوق المستحقين فيها، والتي هي الغاية العظمى من الوقف والتي يجب أن يتركز الاهتمام على تعظيمها وتنميتها إدارة وتثميرا وتعميرا وتطويرا.
والواقع أن الأوقاف قد اندثرت، وذابت، ولم يتبق منها إلا النذر اليسير، فهناك أوقاف ضخمة في العالم الإسلامي تقدر بمليارات الريالات أو الدولارات للحرمين الشريفين، والأعمال الخيرية، ولكن لم يؤدِ الأحياء ما بذمتهم للأموات، الذين توفاهم الله وكانت نية الخير والعطاء متوفرة لديهم.
وهناك الأوقاف داخل المملكة وهي أيضا معرضة للتعدي والاستيلاء، فضلا عن أن إدارتها لم تؤد ما عليها في إيصال إيراداتها، حسب شرط الواقف إلى من يستحق.
غير أنه يوجد مثل شعبي يُضرب لكل شيء مهمل، أو في طريقه إلى الاندثار والزوال بقولهم هو مثل بيت الوقف فهل الحل الذي يريده الكاتب الكريم أن تبقى الأوقاف على هذا الحال؟
ومن أمثلة الأوقات التي اندثرت، وذابت وكانت في مكة المكرمة:
مدرسة الأرسوفي,, في الجانب الغربي من المسجد الحرام، التي يرجح أنها أُوقفت سنة 571ه.
مدرسة الأمير الزنجبيلي,, في الجانب الغربي من المسجد الحرام، التي أوقفت سنة 579ه.
مدرسة طاب الزمان الحبشية عتيقة المستضيء العباسي، وهي قريبة من دار زبيدة التي أُوقفت سنة 580ه.
مدرسة أبي النهاوندي,, في الجانب الشمالي من الدريبة، التي أوقفت آخر القرن السادس.
مدرسة أبي طاهر المؤذن في الجانب الغربي من المسجد الحرام، التي أوقفت سنة 632ه.
مدرسة ابن الحداد المهدوي,, في الجانب الغربي من المسجد الحرام، التي أوقفت سنة 638ه.
مدرسة الأمير فخر الدين الشلاح,, في الجانب الغربي من المسجد الحرام، التي أوقفت سنة 641ه.
مدرسة دار العجلة,, في الجانب الشامي، التي أوقفت قبيل سنة 670ه.
مدرسة الملك المجاهد صاحب اليمن,, في الجانب الغربي من المسجد الحرام، التي أوقفت سنة 739ه.
مدرسة الملك الأفضل,, في الجانب الشامي، التي يرجح أنها أوقفت سنة 770ه.
مدرسة غياث الدين صاحب بنجالة، في الجانب الغربي من المسجد الحرام التي أوقفت سنة 813ه.
وغيرها من الأوقاف الخيرية التي أوقفت على المسجد الحرام من بداية العهد الإسلامي الأول، فأين هذه الأوقاف الآن,,؟ لقد دمرت، وذابت.
إن المحاكم لا تحتفظ بصكوك أقدم من 220 عاماً سواء أكانت صحوك أوقاف، أم أملاك، وعليه فإن الضبط والربط لهذه الأوقاف الخيرية، التي كانت تحيط بالمسجد الحرام غير متوفر، فضلا عن وجود أوقاف أخرى تعتبر مصحات لعلاج الناس، وتسمى بالبيمارستانات في تلك العهود.
فهل وضع الأوقاف الحالي، أو في عهدها الغابر حفظها من الذوبان والاندثار,,؟ فلا هي موثقة في صكوك، أو شركات، وليس لها أي بقاء، أو وجود، وكتب التاريخ تشهد على ذلك.
إن الجهة الرقابية للوقف الآن تنحصر بين الناظر، ومن يفوضه ولي الأمر (القاضي)، وما يأمر به القاضي يتم سواء في تقدير العقار المشترى في حالة الاستبدال، أم في تعيين الناظر، أو عزله، وخلافه.
يعترض الكاتب على وجود الوقف كأسهم في الشركات، وأنه بذلك عرضة للضياع، ونود ان نؤكد أن الوضع الحالي لم يحظ فيه الوقف بالاحتفاظ بموارده، واستثماره، والبقاء بكيانه، وصرفه حسب شروط الواقفين، إلا في النذر اليسير لأسباب كثيرة منها:
أولاً: المركزية في الإدارة.
ثانياً: عدم توفر الجهات الرقابية.
ثالثاً: عدم تعاون الجهات المختصة في الكشف عن الأوقاف الضائعة.
فالحلول المقترحة هي:
وجود جهات رقابية أكثر، وضوابط إدارية أكثر، مع المرونة في العمل، وذلك يتوفر في نظام الشركات المساهمة، وإن خير دليل على ذلك مساهمة الأوقاف الخيرية الموجودة منذ مئات السنين في موقع شركة مكة للإنشاء والتعمير أمام المسجد الحرام من الجهة الجنوبية، والتي كانت مهلمة، وفي طريقها إلى الاندثار، ومنها لا يدر إلا القليل، ومنها خرائب لا تدر شيئا، كلها لا تدر أكثر من 2,6 مليون ريال سنوياً، ولو حسبت مصاريف الإدارة والاستهلاك، لكان إيرادها لا يزيد على 1%، وعندما أدمجت في شركة مكة للإنشاء والتعمير، أصبحت تدر 20,5 مليون ريال صافي الربح، بعد خصم مصاريف الإدارة والاستهلاك، والصيانة، والزكاة، أي ثمانية أضعاف ما كانت تدره قبل الدمج كمتوسط عام، ومنها ما يدر أكثر من عشرة أضعاف، وحتى نهاية العام المالي 1419/1420ه بلغت أرباح الأوقاف 58% من قيمتها، مع بقاء الأصل كما هو.
وكمثال آخر فقد كان هناك وقف يعرف باسم وقف كوشك، كان مساهما في الشركة بعدد 1,142,029 سهماً، ثم آثر الانفصال عن الشركة والاستقلال بوقفه، وقد بلغت مجمل إيراداته من تأجير أعيان الوقف بعد الانفصال مبلغ 3,156,500 ريال دون حساب الاستهلاك، والمصاريف الإدارية، طبقا لما جاء في إعلان ناظر الوقف المنشور بجريدة الندوة بتاريخ 23/12/1417ه, ولو أن هذا الوقف استمر في الشركة لبلغت عائدات أسهمه مبلغ 13,704,348 ريالاً عن عام 1418/1419ه.
ونعتقد أن نظام الشركات، يجعل الجهات الرقابية أكثر، فهناك الجمعية العمومية، وهي تمثل المستفيدين من الوقف، فهي جهة رقابية.
ثم تنتخب الجمعية العمومية مجلس الإدارة، وهو جهة رقابية أخرى.
ثم هناك محاسب قانوني، وهو جهة رقابية ثالثة.
ثم نشر الميزانية العمومية على الجمهور، وهو جهة رقابية رابعة.
وهكذا فإن الوضوح والشفافية، وإظهار كل شيء على الملأ، يعتبر من اكبر الجهات الرقابية، وإن البيان عن الأوقاف التي ساهمت في شركة مكة للإنشاء والتعمير، وكيف كانت، وكيف أصبحت، ليعطي صورة واضحة، ومشرقة لعائدات الوقف تحت ظل الشركة المساهمة، فقد وصلت أرباحه 12% سنويا، فيما كان الوقف قبل الاندماج في الشركة لا تزيد عائداته على 1%، وهذه أمثلة واضحة مشرقة,, نرجو أن يكون فيها كفاء وإقناع.
وللحقيقة والتاريخ فإن مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير قد خضع لدراسات شرعية واسعة انتهت إلى أن المشروع يحقق مصلحة الوقف، ولا يعرض رقبته للضياع والاندثار على المدى القريب أو البعيد، وهو ما شهد به أصحاب الفضيلة قضاة محكمة التمييز بمكة المكرمة الذين أذنوا أن تكون البنايات الدامرة من الأوقاف الموجودة بالموقع أسهما مشاعة في عقار الشركة، على أن يحتفظ السهم بكيانه فلا يباع ولا يشترى إلا بإذن الحاكم الشرعي، ويجرى عليه ما يجرى على بناية الوقف الأصلية من الحقوق والضوابط الشرعية.
كما يشير الكاتب الكريم إلى أنه إذا كان الوقف قائما بهيكله، وأنقاضه، وبنائه، فإن هذا أبقى لذكر الواقف، أي يقال (هذا وقف فلان، وهذا وقف فلان).
ومما يؤسف عليه أن الأوقاف على الطبيعة غير موجودة كما يتمنى الكاتب الفاضل، فالأفضل أن تكون مدمجة في كيان باق، ومثمر، يؤتي أكله كل عام، وفي ذلك خير كثير من بقائه مهملا، معرضا للتلف والاندثار، وفي ذلك خير أيضا للوقف ألف مرة من ان يبقى أثراً بعد عين, نسأل الله أن يلهمنا طريق الخير والصواب.
د, مجدي محمد حريري
نائب رئيس مجلس إدارة
مركز فقيه للأبحاث والتطوير