الغذّامي: من النقد الألسني إلى النقد الثقافي د, محمد الشنطي |
منذ البداية أود ان أشير الى أن هذه المقالة ليست تقييما لجهود الدكتور الغذامي النقدية، بقدر ماهي تذكير بأهم المحطات التي توقف فيها اسهاما في المناسبة الاحتفالية، ووفاء للدور الذي نهض به الناقد.
ويقتضي الحديث عن ناقد كالغذامي مناقشة القضايا التالية:
أولا: هل الغذامي نسخة مكررة من النقاد العرب البنيويين أو بمعنى أشمل الألسنيين، أم أنه قدم اضافة جديدة نوعية في هذا المجال وهذه القضية ظلت مثار جدل لعقد من الزمان او يزيد؟.
ثانيا: هل سار الغذامي منذ كتابه الاول الخطيئة والتكفير في اتجاه واحد ام طور موقفه النقدي واستجاب لضرورات المرحلة في وتيرتها المتسارعة؟
ثالثا: ما الجديد في النقد الثقافي الذي يتبناه الغذامي؟
رابعا: ما الأثر الذي تركه الغذامي في الحركة النقدية المحلية؟
بادىء ذي بدء أود ان أشير الى ان طروحات الغذامي الأساسية التي كان الاختلاف بشأنها مبدئيا متمثلة في موت المؤلف والاشارة العائمة وفكرة النموذج وغيرها من الطروحات قد نالت حظها من الحوار، ولم يعد الجدل حولها مجديا، ثم ان هناك ما يشير الى ان الغذامي قد تجاوز بعض طروحاته السابقة بحيث اصبحت مرحلة في تاريخه النقدي، ولكن لم يتم الغاؤها، فالتجاوز لا يعني الالغاء.
وفي اعتقادي ان كتبه الخمسة الاولى: الخطيئة والتكفير، وترشيح النص، والصوت الجديد القدي،م والموقف من الحداثة، والكتابة ضد الكتابة تمثل المرحلة الاولى التي تشكل القاعدة الأساسية لطروحاته النقدية التي لم يطرأ عليها تغيير ذو شأن، فقد كانت القضية المركزية المطروحة تتمثل في الخروج على النهج المألوف في الدرس النقدي سواء ذلك الذي يصطنع الواقعية او الانطباعي التقليدي والصدور عن النص دون غيره في قراءته وتحليله.
ولم يكن الغذامي ليسلم بما يقوله نقاد البنيوية وما بعدها تسليما بلا جدال، فهو ينتقد ياكوبسون مشيرا الى انه قد وقع في شيء من الميكانيكية العقيمة اغراقه الوصف الاسلوبي الذي يقوم على رصد احصائي شامل لكل ابنية النص النحوية والبلاغية، وكل تركيباته اللغوية مما جعل بعض دراساته مجرد بيانات احصائية لما يتضمنه النص من هذه التراكيب التي يفترض ياكوبسون انها تشرح لنا أسباب الابداع الفني.
وقد أشار الى ان هناك نقادا آخرين تصدوا لنهج ياكوبسون الوصفي منتقدين الاقتصار عليه واخذه كمسلمة مسبقة في ان الابنية تفسر سر الابداع ص 76/77.
وهذا الانتقاد ينفي عن الدكتور الغذامي تهمة الثناء على جميع النقاد الغربيين كما يقول الدكتور عبدالحميد ابراهيم في كتابه نقاد الحداثة حيث يقول: ويخرج القارىء في النهاية دون تعريف محدد للمدارس، والمؤلف يثني على الجميع ولا يفرق بين واحد منها، وكل كاتب يصبح مدرسة، وكل مدرسة تعتبر منحى في مسيرة النقد العالمي ص 50.
أما كتاباه تشريح النص والموقف من الحداثة فقد عرضت لهما في اكثر من موضع، وهما امتداد على نحو ما للخطيئة والتكفير وربما كانت مناقشة لمحمود أمين العالم في طروحاته محاكمة لاتجاه نقدي يمثله هذا الناقد وتأكيدا لافكاره حيث يريد ان يقول : ان الذين لا يؤمنون بالألسنية يضطرون الى استفهامها في تطبيقاتهم، ولكن دون نظرية تمتلك البوصلة التي توجههم الى الاسلوب الحق، لذا تورطوا فيما لا يعرفون، فهو يدين النقد الايديولوجي للعالم وان استثمر أدوات الألسنية او حاول ان يفعل دون ان يمتلك الاداة فاصبح ناقدا مرتدا في عرفه، فهو لا يفرق بين الهيكلية والبنيوية، وقد اضطر الى نقل فقرات كاملة من كتابه الخطيئة والتكفير لتوضيح ذلك.
وأود بداية ان أشير الى امر بالغ الأهمية وهو استفادة الغذامي من القراءة العميقة للمناهج الألسنية في مظانها الرئيسة وتقديمها في سياق متناغم الأسس باخراجها من عجمتها ورطانتها الاجنبية وتقريبها الى ذوق القارىء العربي واذا كنا نختلف مع هذه المناهج او بعض مقولاتها فاننا لا نستطيع ان ننكر ان صنيع الناقد معها، لم يكن مجرد نقل حرفي لها بل ثمة عرض منظم ومحاولة لصياغة نظرية متكاملة يؤكد فيها على اسبقية التراث في تقرير عناصرها، واذا كان مدار الحديث في نظرية البيان على تنحية المعنى بوصفه ناتجا نفعيا وظيفيا في حين تتحول الرسالة وفقا للمنظور النقدي العلمي الى نص يرتد الى سياقه ويتحول الى فعالية لغوية لها شفرتها الخاصة تضيف الى سياقها الذي هو جنسها الأدبي، وهذا هو مناط الوظيفة الادبية في نظرية الاتصال، فان حازم القرطاجني وفقا لما يستشهد به الغذامي قد ركز على الوظيفة الأدبية وعلى توحد النص مع سياقه حيث اللغة هي لب التجربة الأدبية، وقد التقط الناقد لفظ الأدبية كما ورد لدى المدرسة الشكلية الروسية، وكذلك الاسلوبية التي تركز على الشفرة ، وهي تركز بدورها على الاختيارات اللغوية لذاتها ثم انتهى الى مصطلح الشعرية التي يرى ان الشاعرية أول وأعم منها بوصفه دالا على تمايز الفن اللغوي واختلافه عن الفنون الأخرى، مناقشا مختلف المصطلحات الاخرى التي صاغها غيره من النقاد.
والجديد في الامر هو محاولة الغذامي تأصيل هذا المفهوم من خلال التراث فهو محاكاة وتخييل عند حازم القرطاجني ان القول في شيء يصير مقبولا عند السامع في الابداع في محاكاته وتخييله على حالة توجب ميلا اليه او نفورا عنه بابداع الصنعة في اللفظ واجادة هيئته ومناسبة لما وضع بازائه فالتخييل كما يتجلى عند القرطاجني مناط الادبية او الشاعرية كما يراها الغذامي لانها سبب الانفعال والتوجيه نحو الانبساط او الانقباض أي الأثر الذي يحدثه النص الابداعي, ويتوقف عند لفظة البيان كما وردت في الحديث الشريف ان من البيان لسحرا وكما جاء في تسمية الجاحظ لكتابه البيان والتبيين كما يشير الى مفهوم النظم عند عبدالقاهر الجرجاني في حين كان الفلاسفة النقاد كالفارابي وابن سينا وابن رشد ومعهم القرطاجني يؤثرون مصطلح التخييل .
واذا كان ثمة فروق واضحة بين هذه الالفاظ الاصطلاحية التي يحشدها الغذامي لتصب في نهر الشاعرية ولا تؤدي معناها على نحو دقيق، فالفكرة العامة التي تحكم الشعرية او الشاعرية كما يراها، الغذامي تتلخص في البحث عن القوانين العلمية التي تحكم الابداع، ولكنها في تراثنا لا تمتلك مقومات المصطلح عند الفارابي مثلا فهو يقول: التوسع في العبارة بتكثير الالفاظ بعضها ببعض وترتيبها وتحسينها، فيبتدىء حين ذلك ان تحدث الخطبية اولا ثم الشعرية قليلا قليلا بينما يعنى الفارابي بالشعرية السمات التي تظهر على النص بفعل ترتيب وتحسين معنيين اما ابن سيناء علل تأليف الشعر التي يحصرها بالمتعة المتأنية من المحاكاة وتناسب التأليف والموسيقى بمعناها العام.
فالشعرية وردت في النصوص القديمة، ولكنها لم تكن مصطلحا ناجزا محددا، وهذا امر طبيعي تنبه اليه الغذامي، ولكن المصطلحات الاخرى الرديفة كالتخييل والمحاكاة التي هي من صميم الاشارة الى جماليات النص لا تعطي المعنى الشمولي الذي تقضي به الشعرية بوصفها مصطلحا جامعا للخصائص الجمالية التي تمنح النص هويته الابداعية.
وقد عمد الدكتور الغذامي الى ضبط المصطلح وتحريره بعد ان صاغه مبررا هذه الصياغة على الوجه الذي يراه، وقد حدد المفهوم متكئا على ياكوبسون وتودروف موثقا ما يقول منتهيا الى تعريف محدد، فالشاعرية هي الكليات النظرية عن الادب نابعة من الادب نفسه وهادفة الى تأسيس مساره فهي تناول تجريد للادب مثلما هي تحليل داخلي له، وقد ميز بينها وبين الاسلوبية مبينا ان الاسلوبية تدرس الشفرة ولا تؤسس للسياق، بينما نظرية البيان التي يسعى الى تشكيلها تتكىء على التأسيس للسياق كوجود قائم وكاحتمال مستقبلي.
وينفذ من خلال الحديث عن الشاعرية ككلية نظرية الى شاعرية النص مشيرا الى مبدأ التوازن القائم على التعارضات الثنائية، مركزا على الطاقة الابداعية ممثلة في الايقاع الذي يلغي التجاور، كما يتجاوز المعنى الى التوازن، واذا كان ليفي شتراوس في مقارنته بين الاسطورة والموسيقى هو مرتكزه الاساسي في تأكيده مبدأ الايقاع الذي يفضي الى التوازن وتحويل الكلمة الى اشارة، فانه سرعان ما يستدعي القرطاجني فيضع التخييل مقابل الاشارة العائمة التي تشير اشارة اخرى الى توازنها او تعارضها وصولا الى مبدأ التوازن، حيث الاثر الاشاري الذي يحدثه النص في ذهن المتلقي عبر الصور الذهنية والأخرى التي يحدثها الانفعال اللاشعوري وينتهي الى تأويل نصوص القرطاجني الخاصة بالشاعرية الى انها فنيات التحول الاسلوبي واستعارة النص كتطور لاستعارة الجملة، حين ينحرف النص عن معناه الحقيقي الى معناه المجازي مستشهدا بقول المبرد والتشبيه اكثر كلامهم ، والعسكري الذي يقول:
الاستعارة أبلغ من الحقيقة ويصل الناقد الى تأصيل هذه الرؤية النقدية عبر استثماره لمصطلح سحر البيان كما ورد في الحديث الشريف، فالسحر تحويل للواقع وانتهاك له وكذلك الشاعرية انتهاك لقوانين العادة، وهو ما يقابل التخييل وفقا لما ورد عند القرطاجني اي تحويل العالم الى خيال.
وفي اعتقادي ان الغذامي بهذا فتح الباب واسعا أمام باحثين ونقاد عرب آخرين استهوتهم لعبة التأصيل هذه كما فعل حسن ناظم في كتابه مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الاصول والمنهج والمفاهيم حيث حاول التأصيل لمصطلح الشعرية فتتبع هذه اللفظة عند الفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، وعلى الرغم من تقريره ان لفظة الشعرية لا تمتلك مقومات الاصطلاح فهي غير مشبعة بمفهوم معين كما انها لم تكرس تماما في النصوص النقدية العربية بل انه افاد بأن نص حازم القرطاجني يثير الى معنى للفظة الشعرية يقترب الى حد ما من معناها العام أي قوانين الادب، وإن أصر على موقفه من أنها لم تكن مصطلحا ناجزا، ولم تكن ذات فعالية اجرائية.
وقد اشار حسن ناظم الى ان الغذامي قد جلّى عناصر الرسالة اللفظية، ثم اتكأ عليه في تأكيد مقاربة القرطاجني الشمولية للشعر مؤكدا امكان اشتمال الاقوال النثرية على شعرية ما من خلال حضور التخييل والمحاكاة، كذلك الاغراب على نحو ما قرره الشكلانيون الروس.
وهكذا كان التركيز على محاولات القرطاجني لاقامة علم للشعر فهو يقرر ان الشعر ليس طبعا فحسب وانما هو احاطة لقوانين يتأسس عليها علم الشعر، واذا كان كمال ابو ديب قد اشار الى نظرية النظم لدى عبدالقاهر الجرجاني بوصفها جذرا من جذور الفكر البنيوي فان الغذامي ربطها بالشعرية وسايره في ذلك حسن ناظم.
وينظر الدكتور الغذامي الى النقد في اطار شمولي كلي فهو ليس سوى خلاصات نظرية لعلوم شتى مثل النحو وعلم اللغة والعروض والصوتيات والبلاغة وكذلك علوم النفس والاجتماع والتاريخ.
ولذلك فانه يتحرك عبر التراث حركة حرة، فتنوع مصادره انطلاقا من فهمه هذا، ويرى ان الجهود التراثية متكاملة في كل علم، ولكن ذلك لا يؤدي الى ضياع هوية العلم او يلغي حدوده وينفتح في رؤيته التراثية، فلا يتعصب، ولا ينحاز، متبينا ما يقوله باختين من ان التفكير الانساني لا يغدو صحيحا ولا يتحول الى فكرة الا باحتكاك حي مع فكرة اخرى تتجسد في صوت الآخرين أي في الوعي الذي يعبر عنه الخطاب فالفكرة حدث يجري حتى نقطة التلاقي الحوارية بين وعيين او اكثر، ويرى ان هذه حتمية وجودية ينبني عليها نظام الحياة، وهي قضية واضحة في القرآن الكريم، فقد خلق الله من كل زوجين اثنين، وفكرة التزاوج تحقق أساس هذا التفاعل وهو غير المزيج، أي ان التفاعل القائم بين الثقافات لون من ألوان الاخصاب الذي ينجم عنه مولود جديد له ملامح جديدة ويضرب لذلك امثلة متعددة، فالنقد الادبي خلاصات نظرية لعلوم شتى مثل النحو وعلوم اللغة والعروض والصوتيات والبلاغة وكذلك علوم النفس والاجتماع والتاريخ، وكذا الحال في كل علم اصولي ذلك لان العلوم التي تستند على الكليات الشمولية لا يتحقق لها الكل الشمولي الا من خلال توظيف المفهومات التي تتسم بهذه السمات .
ويستدل على تكامل الجهود التراثية بما وصف به الدكتور حمادي صمود كتاب مجاز القرآن لابي عبيدة في كتابه التفكير البلاغي عند العرب من ان موضوعه قرآني ومنهجه لغوي وعنوانه والداعي الى تأليفه بلاغيان.
وينطلق من هذه الشمولية ليؤكد موقفا آخر من التراث يتمثل في مبدأ التفاعل بين الانا والآخر ، بين التراث والفكر الانساني المعاصر مستعيرا مبدأ الحوارية عند باختين ليؤكد مفهومه فالتفكير الانساني وفقا لما نقله عن باختين لا يغدو صحيحا ولا يتحول الى فكرة الا باحتكاك حي مع فكرة اخرى تتسجد في صوت الآخرين، فمسألة التمازج التي بها يحصل الارتقاء للعلوم والافراد كما يرى تتجاوز هذه الدائرة لتكون اشمل واعم.
ولعل حجر الزاوية في موقف الغذامي من التراث يتمثل في مقولته كما ان مستقبل الدراسات الانسانية يخبىء لنا نظرية نصوصية سيظفر بها كاتب ما، ويصوغها بلسان عربي مبين، وستكون زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية تستلهم بركتها من الشجرة القرآنية ونورها الخالد، وسوف يكون الجرجاني عبدالقاهر هو صويتم النظرية ولبابها ص 17.
هذه المقولة هي المدخل لفهم موقف الغذامي من التراث بل هي صويتم الموقف النقدي عنده بعامة فهو يستلهم هذا الموقف من تراثنا النقدي من خلال تواصل الفكر الانساني وتزاوجه وهو يرى ان جذور الفكر النقدي النصوصي موجودة في التراث على نحو ما ، ولهذا لا يقتصر على ميراثنا النقدي فحسب بل يتجاوزه الى مختلف فروع المعرفة وان كان يولي اهتماما اعظم لهذا الميراث، فالمفهومات النصوصية الحديثة في مسألة المعنى والاشارات ونظرية الاختلاف ودلالات الحضور والغياب موجودة في آثار الجرجاني، وادراك العلاقة بينها وبين ما جاء عنده ليس معضلة، ولهذا فهو دائم التنقيب عن هذه المفهومات منذ ان اصدر كتابه الاول الخطيئة والتكفير .
فعندما تحدث عن مبدأ العلاقة عند شتراوس وعن علامات التأليف وعلاقات الاختبار أكد ان الشيخ الرئيس ابن سينا قد سبق البنيويين الى تأكيد استدعاء الكلمة لمثيلاتها لتشابه صوتي بينهما في اطار محور الاستبدال، فقد سمى ابن سينا ذلك بالمشاكلة وقسمها الى اقسام مشاكلة تامة، ومشاكلة تامة مخالفة، فيما يتعلق بترتيب الحروف داخل الكلمة بزيادة حرف او نقصانه، ومشاكلة ناقصة فيما يتعلق بنظام الحروف داخل الكلمة وقد اسماه ابن سينا التشاكل في اللفظ، غير انه يستدرك مشيرا الى ان حديث ابن سينا عن هذا التشاكل في حالة الحضور، فهو اقرب الى علاقات التأليف، ولكنه استشهد بأمثلته واستعان بها لاستجابتها لدواعي الموضوع استئناسا منه بالتراث وتلمسا لكوامن جذوره مما يمكن تفسيره على المفهومات الحديثة ص 27.
ومن الواضح ان مسألة الاستئناس هذه التي اكثر من الاشارة اليها في كتابه الاول تعكس رغبة الناقد في ان يلتمس اواصر قربى بين المفهومات الحديثة ومفهومات التراث معترفا بان هذه الاواصر لا تقوم على التماثل بل على التعاطف وتتفاوت في درجات القربى.
وهو يعالج قضية التراث من خلال فكرة الحوار والتفاعل التي اشرت اليها في صدر حديثي السابق، حيث يرى ان العلوم والافراد يحصل لهم الارتقاء وتظهر فيهم الجدوى في كل حالة يتم فيها التمازج والتزاوج، ويضرب امثلة على ذلك جاستون باشلار الفيزيائي الذي تحول الى البحث النظري والفلسفة ومالك بن نبي الذي تحول من مهندس كهربائي الى مفكر متميز، وسيد قطب الذي تحول من الأدب الى الفكر الاسلامي نتيجة لهذه الحوارية بين مناحي الفكر والعلم.
وحينما تحدثنا عن ثقافة الاسئلة بوصفه يمثل انعطافه في تطور تفكير الغذامي النقدي فما اردنا ان نتحدث عنه اشارة الغذامي الى الوظيفة الانتباهية للغة غير انه كما اشار في المقدمة الى ان مقالاته في معظمها ومنها ما تضمنه هذا الكتاب كانت استجابة لاسئلة تتوارد عليه فقد صار مشروعه الثقافي مرتبطا بمنهجية نقدية واضحة المعالم تقوم على النقد الالسني او النصوصية معتمدا بذلك على ما يعرف بنقد ما بعد البنيوية، وهو نقد يأخذ من البنيوية ومن السيمولوجية ومن التشريحية منظومة من المفهومات النظرية والاجرائية تدخل كلها تحت مظلة الوعي اللغوي بشروط النص وتجلياته التكوينية والدلالية، وبذا فان تلك المقالات هي بمثابة شروح وهوامش واستتباعات على مجمل منهجيته النقدية المتمثلة في كتابه الخطيئة والتكفير وما جاء من بعده خاصة تشريح النص والكتابة ضد الكتابة .
ان ما اعتبرناه انعطافة في هذا الكتاب يتمثل في اشارة الدكتور الغذامي الى الوظيفية على الرغم من تأكيده على مبدأ أدبية الادب التي تتمثل في ان النص الادبي يقوم على بنية ذات نظام حيث يقوم النظام في هذه البنية على حركة العلاقات ما بين الدال والمدلول من جهة وما بين الدوال مع بعضها البعض من جهة اخرى، كسر واحدة من الثنائيات العنيدة ما بين أدبية الادب ووظيفته واشارته الى ان للأدب دورا في الفعل الانساني من جهة العلاقة المتولدة ما بين اللغة والانسان والعلاقة المتولدة ما بين اللغة واللغة النص والنصوص الأخرى وهو ما يعنيه بالجمالية الوظيفية التي يصفها بالفاعلة مؤكدا انه يريد بذلك ان يكون على قدر من الوضوح مع نفسه في ان ما كنا نفعله جميعا على مدى السنوات الخمس الماضية هو تأسيس لمرحلة آنية من الفعل الابداعي مرحلة ما بعد الحداثة .
وهو يشير الى ان ما اوصله الى هذا الوضوح النظري هو الانتفاضة الفلسطينية المباركة التي هي اعظم نص كتبه الانسان العربي المعاصر وقد تجسد هذا الوضوح في تحليله لقصيدة عابرون في زمان عابر لمحمود درويش حيث ركز على الوظيفة الانتباهية.
مؤكدا ضرورة الاحالة الى الركن الوظيفي في الفعل اللغوي فهذه القصيدة كما اشار تتحرك عبر الوظيفة الانتباهية التي تسعى الى اقامة الاتصال ما بين الفرد والجماعة.
وفي هذا الكتاب يناقش الناقد ايضا مسالة العلاقة بين النص والواقع، وهي من المسائل المفصلية في رؤية الغذامي النقدية، فهو يرى ان مبدأ الفصل ما بين النص والواقع الفعلي للكاتب طغى على توجهات نقدنا القديم، ويستدل على ذلك بان الحد لم يقم على شاعر لانه تعرض لاحد، كما ان شعراء الهجاء لم يهددوا في حياتهم او معاشهم، بينما كانت هذه العلاقة سؤالا كبيرا في النقد الغربي، وربما غاب عن ذهن الناقد ان عمر بن الخطاب قد سجن الحطيئة في بئر مظلمة نتيجة لهجائه وهدده بقطع لسانه، وان شعراء كثيرين قد تعرضوا للقتل نتيجة لجهرهم بآرائهم وخصوصا في العصور العباسية.
يتبع غداً
ويعرض الدكتور الغذامي لمسألة سبق ان طرحتها البنيوية التوليدية وصاحبها لوسيان جولد مان ولو بطريقة مغايرة وهي تلك التي تتعلق بالوعي الفعلي والوعي الممكن، حيث يرى ان قصيدة بطاقة هوية تقف عند حدود الوعي الفعلي فحسب بينما نص عابرون في زمن عابر يتجاوز المستوى الاول ليتحول الى مستوى اختراقي يداهم الآخر/ المخاطب ويعريه من الوجود ويمضي في تحليله للنصين على هذا الاساس مقارنة بين جملة احملوا اسماءكم وانصرفوا وجملة انا عربي انا اسم بلا لقب ويفرق في فصل تال بين النص والاثر استنادا الى ما قاله ابن سينا وكانت العرب تقول الشعر لوجهين: احدهما ليؤثر في النفس امرا من الامور تعد به نحو فعل او انفعال، والثاني للعجب فقط .
اما فيما يتعلق بالسؤال المفصل عن علاقة النص بالحياة والذي كان من دوافع تأليف الكتاب اصلا، وكان مثار جدل بين الدكتور البازعي والدكتور الغذامي، فان الدكتور الغذامي يرى انه من المحال ان نجد نصا يتخلص من الحياة، فالنص ليس الا شيئا من اشياء الحياة، ونحن نقول ان اللغة كائن حي مما يعني ان النص ايضا شيء حي، كذلك فان من المحال ان يخلو النص من الفن، فالفن هو للفن وللحياة معا حتى لو درس الادب دراسة بلاغية او شكلانية بحتة فان ذلك ضرب من الحياة لانه يقوم على حركة وتفاعل وعلى فعل واثر وعلاقات لذا يكون سؤال الفن للفن ام الفن للحياة.
وفي معرض شرحه لاسلوب تناوله للقصيدة وتأكيده الحاسم لرؤية النص كبنية حية يستدعي مقولة الحاتمي عن النص التي مفادها ان القصيدة مثلها مثل خلق الانسان في اتصال بعض اعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد من الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه وتعفّي معالم جماله، كما يستدعي الخليل بن احمد الذي اسس تصوره على فهم تركيبي يقيم مماثلة تامة ما بين النص والبناء من خلال تشبيه القصيدة بالخيمة ويؤيده بقول القرطاجني وقد اشار الى انه عزف عن ايراد افكار كولروج ورولان بارت مع ان لهما تصورات تفيد في مفهوم النص/ الجسد إذ يقول : ولكنني اكتفيت بما في تراثنا لاسبقيته وينتهي الى انه انما يفيد من ذلك كله في منهجه النقدي فيقول بعد طول شرح واستحضار لمقولات العرب مؤصلا لمنهجه النصوصي: ولذا فاني اسمي منهجي بالنصوصية او بالنقد الالسني، واسمي الاجراء بالتشريحية لان ما نفعله اجرائيا هو ممارسة التشريح فعليا من اجل الوصول الى سبر تركيبات النص وابنيته الداخلية، ثم نأخذ بتفسير العملية تفسيرا نصوصيا يقوم على مبدأ من تفسير القرآن بالقرآن ويعقد فصلا للتداخل النصوصي إذ يرى ان النصوص تدخل في شجرة نسب طويلة ذات صفات وراثية وتناسلية فهي تحمل جينات اسلافها كما انها تتمخض عن بذور لاجيال نصوصية تتولد عنها فالمعارضات الشعرية يستدعي بعضها بعضا وكذلك النقائض والاقتباسات والتضمينات والسرقات وما يسميه الجرجاني بالاحتذاء.
يؤسس لمفهوم التداخل النصوصي في التراث، وكل ذلك من المفهومات الاساسية في طريقة قراءته للنصوص كما يقول فالنص من وجهة نظره بنية مفتوحة على الماضي، وهو وجود حاضر يتحرك نحو المستقبل.
وفي دراسة للدكتور معجب الزهراني عن جهود الدكتور الغذامي النقدية وخصوصا في الخطيئة والتكفير ينسب اليه الريادة في مجال التعريف بالاتجاهات النقدية الالسنية الحديثة، وفي استثمارها وتطبيقها، وهو بهذا يستحضر النقد الجمالي الغائب او المغيب في الخطاب النقدي السائد في هذه المنطقة، وقد تعرض لثلاث قضايا محورية أثارها الدكتور في كتابه.
الاولى: الاطار المرجعي الذي يشكل قطيعة مع النمط السائد ومن ثم التمييز النسبي بين النقد الالسني الصارم والنقد الالسني المرن كما يقول.
الثاني: مناقشة طبيعة التجربة الجمالية التي تكتسب ادبيتها بمدى عدولها او انحرافها باللغة عن الاستعمالات النفعية من هنا تنصب المناقشة على كلمة الشاعرية .
الثالث: مناقشة جماليات التلقي، أي التحول الى القراءة الجمالية التي يباشرها المتلقي من حيث هو طرف رئيس في تجربة الكتابة.
يتبع غداً
وفيما يختص بسؤال المرجعية فانه ينسب جهود الغذامي الى التيار الألسني المرن ممثلا في انجازات باختن ورولان بارت وتود ورف وجو لياكر يتيفا وبيرزيما وريفاتير وجوناثان كولر اذ يدخل عنصر التأويل الحر الذي يعطي اهمية للذوق الفردي والفهم الذاتي للناقد، وفي سياق المرجعية العربية يقرنها إلى انجازات يمنى العيد وصلاح فضل وجابر عصفور وكمال ابو ديب وعبدالملك مرتاض ومحمد الماكري وسعيد ياقطين وفي اعتقادي ان هؤلاء النقاد ينتمون الى تيارات مختلفة وان جمعهم الاهتمام بجماليات النص، فثمة منزع ماركسي عند البعض وبنيوي محض عند البعض الآخر، واسلوبي عند غيرهم والدكتور الغذامي ألسني نصوصي لا يغفل التأويل ولا الوظيفة الانتباهية للغة، ولكنه يختلف عنهم اما استثماره لبعض تيارات الفكر الفلسفي الحديث كما يرى معجب الزهراني فاعتقد ان هذه التيارات تبدو عنصرا تكوينيا في بعض الاتجاهات الألسنية، وقد استثمرها من خلال مدخلها الادبي في تلك التيارات وليس بوصفها فكرا فلسفيا محضا كفكرة النماذج العليا عند كارل يونج مثلا.
اما فيما يختص بفكرة القطيعة مع التيارات النقدية التقليدية فهي على صحتها النسبية غير ان الغذامي يلتقي مع بعض عناصرها في محاولته استثمار المرجعية التراثية والتأصيل لمنهجه من خلالها.
اما طبيعة التجربة الجمالية فنحن نوافق الكاتب في انه كان مجتهدا بل ومبدعا في تأصيله لمسألة الشاعرية من خلال البيان والنظم والتخييل في تراثنا النقدي فهو يعيد انتاج المصطلح ويؤصله ولا يترجمه كما لاحظ الزهراني فالتركيز على أدبية الادب حيث النزوع الى مزيد من الترميز والتجريد والكثافة او العتامة وكذلك الحديث عن جماليات النص من منظور العلاقات الاخلاقية من النص غير الشاعري وكذلك مفهوم الانفتاح في النص الذي يتحول الى بنية دينامية تتعالق مع غيرها من النصوص وان شاعرية كل نص مرتبطة بما فيه من جمل إشارية حرة وهو ما لا يتوفر في كل النصوص الأدبية، وقد انعكس ذلك على ممارساته النقدية التطبيقية وفي الشكل التوضيحي الذي لخص فيه معجب الزهراني الفروق من بين ماهو شاعري وغير شاعري من حيث اللغة والخطاب والنص والجملة والكلمة ما يوضح اهم مقولات الشاعرية عند الغذامي.
اما فيما يختص بجماليات التلقي القراءة الشاعرية فتتصل بالشاعرية بأكثر من سبب، فهي تقوم على تأسيس الحكم الجمالي المبرر بالذائقة الفردية الخاصة والحرة حيث يتداخل مفهوم الأثر وسيطا بين الكتابة والقراءة كما يقول الزهراني، حيث القابلية للقراءات المختلفة فيحول الاثر الى مفهوم جمالي مركزي في سياق العلاقة بين النص والقارىء.
ويلاحظ الزهراني ان اهتمام الغذامي انصب على الشعر دون السرديات، كذلك تعلق الغذامي بحرية التفسير والتأويل، وتعامل الناقد بحرية ومرونة كبيرة جدا مع النظريات والاتجاهات والمفاهيم والمصطلحات النقدية الغربية فهو يعرضها ويحاورها ويوظفها ويعدل فيها وينقص منها ويضيف اليها، وبهذا يتفق مع عبدالله السمطي الذي يرى ان الغذامي يسعى الى الاستقلال عن المفاهيم النقدية الشائعة التي تطرحها البنيوية ونظريات النقد الحداثي وما بعده، فهو ينقطع معرفيا عن هذه النظريات بقدر ما يتصل.
وأيا ما كان الأمر فان الدكتور الغذامي قد سبق غيره في محاولاته التأصيلية لمنهجه الحديث من خلال الالحاح على الجذر التراثي ومراكمة المقولات والعمل على تطويعها على الرغم من وجودها في سياقات مغايرة، واذا كان غيره قد سبقه الى شيء من ذلك فانه لم يتوفر توفره ولم يعمل على المراكمة الدؤوب والملحاح من أجل هذا الغرض الذي كان هاجسا ملازما له.
النقد الثقافي:
يشير الدكتور الغذامي الى ان اول تجربة للتحرك في اتجاه النقد الثقافي كانت عام 1406ه في بحثه الموسوم نماذج للمرأة في الفعل الشعري عام 1406ه حيث حاول توظيف الاداة النقدية باتجاه استنباط الانساق الثاوية وراء النصوص، ومنذ تلك التجربة وهو في حيص بيص كما يقول مع سؤال نظري واجرائي وجوهري في تكاذيب الاعراب وفي اللباس بوصفه لغة وفي قراءة وجه امريكا الثقافي وفي انساق الذاكرة والراوي وفي اعماق سحارة عتيقة وفي خطابي الفحولة والتأنيث، وظل الامر حتى سمه باعلان موت النقد الأدبي وذلك من اجل البت في السؤال وتحقيق النقلة النوعية الحاسمة ويشير الى ان ما يعنيه بالنقد الثقافي هو شيء آخر مختلف عما يسمى بالدراسات الثقافية.
ويقرر الدكتور عبدالسلام المسدي في سياق حديثه عن النقد الثقافي انه لم يعد مستساغا ان يفحص النقد شؤون الادب ساعيا الى كشف الآليات الخفية التي اثرت في انتاج الصورة الشعرية او ساهمت في صناعة الحبكة السردية دون ان يكون ملما بأسرار الظواهر الثقافية السائدة في المجتمع وبنواميس الرواج المتحكمة في شيوعها، وبأدوات التسويق المسيطرة على اذواق المتلقين كافة ويميز بين الثقافة العامة والثقافة كعلم، والمقصود هنا الثقافة الخاصة قرينة العقل التأليفي ويشير الى ان مقولة موت النقد محض مجاز اعلامي.
ويتحدث عن مسار الفكر الانسان مجددا لحظتين شقيتين على حد تعبيره في رحلة هذا الفكر لاهثا خلف المعنى، مشيرا الى ان اللحظة الاولى تتمثل في تحديد الظواهر للمعنى، فبنية الظواهر هي التي تجسد وظائفها، والالمام بهذه البنية يقضي بتبين اجزائها ثم تحديد علائقها، فثمة طواف بين الجزء والكل، اما اللحظة الثانية فتتمثل في اكتشاف ان الجزء ليس هو المحدد للبداية، وهكذا بدأت رحلة تفكيك المعنى عبر تقويض نواة المعنى وتفجير العناصر المكونة لدلالته حيث مغامرة الابحار الى المتاهات العصية واليوم تتضح السبل أمام العقل التأليفي ليربط بين الادب والمضمون الحضاري دون الالتجاء الى جسر الايديولوجيات، ويحدد بعض اسئلة النقد الثقافي كيف يتلقى الناقد الأدب في زحمة الثقافة الحديثة المتحكمة وكيف يقرأ الاديب النقد تحت سيطرة آليات التواصل المسوقة لمقولات الثقافة الراهنة، كيف يتفاعل منتج النص الحديث مع علم الثقافة الحديث، ويرى ان هذه الاسئلة هي التي ينبغي على النقد الثقافي ان يجيب عليها، ويعرف الثقافة بأنها منظومة الانساق الرمزية الفاعلة في كل مجتمع انساني، في مقابل السياسية هي منظومة الانساق الاجرائية الفاعلة، وفي تمييزه بين النقد الادبي والنقد الثقافي لا يضعهما في مقابل بعضهما البعض، ولكن من خلال الوقوف على الجسر الواصل بينهما، فالنقد الأدبي يتناول النص معتمدا على الزاد الذي يمده به ما وراء النص، اما النقد الثقافي فيتناول النص مرتقيا على مدارجه الى فضاء ما وراء النص، فالنقد الادبي يقلب النص وفق مراتب متناضدة الشرح والتفكيك والتأويل واعادة البناء، مستنجدا بزاد ثقافي متنوع فاستثمر النقد الادبي المكون الثقافي لاغناء انجازاته، اما النقد الثقافي فغايته استكشاف المناخ الرمزي الذي ينشأ فيه النص، ورصد البيئة السيمولوجية التي تشكل على المستوى الذهني القوى الفاعلة الحقيقية في انساق الابداع وآليات التداول وجماليات التلقي حيث علاقة الادب بالثقافة فيما قبل الابداع، وينكر ان يكون النقد الثقافي بديلا عن النقد الأدبي، ويصفه بأنه ضرب من الهوس، فالنقد الثقافي والادبي ينتميان الى موقعين معرفيين مختلفين، مما يثير تساؤلا مهما حول علمية الخطاب الثقافي، وعلمية النقد الثقافي، ويرى انه اذا كان النقد الادبي قد اقترب من الموضوعية والعلمية فان النقد الثقافي اقرب الى ان يكون خطابا نضاليا في الدرجة الاولى بل انه ليطمح ان يقيم جسرا واصلا بين العلمية والنضالية ثقافة اليوم الرياض، الخميس 12/1/1420ه، العدد 266 النقد الثقافي والسؤال الجديد .
وقد حرصت ان الخص مفهوم النقد الثقافي لدى ناقد ومفكر وثيق الصلة بالدكتور الغذامي، ومن الواضح انه يختلف معه في مسألة موت النقد الأدبي، ويؤكد ان النقد الثقافي والنقد الادبي متواصلان، وان بدا ان الغذامي في مرحلة المراجعة وتشكيل الرؤية النظرية التي يرى انها مسألة مجالها قاعات الدرس وليس الصحافة، وبالتالي فان الامر ليس واضحا لدى قارئي الغذامي.
اما ما افضت به مقالة المسدي فيتمثل في ان ثمة عودة الى مربع النقد الذي يرتبط بمحيطه الثقافي، ولكن وفق رؤية جديدة تشق مع الرؤية العلمية التي تبحث عن الانساق والكليات وتعمقها وتستكشف آلية العلاقة بينها وبين الابداع، متخليا عن الرؤية الانعكاسية المباشرة او تلك التي تبحث عن البنى العميقة المرتبطة بالوعي الانساني لواقعه، فقد اصبحت الثقافة وسيطا بين الواقع وبين النقد، وتمت فلسفتها وعلمنتها اتساقا مع منحى النقد الجديد في تبنين الظواهر والمعطيات واستكشاف قوانينها، وبعيدا عن الايديولوجيات، وفيما نلمسه من حديث المسدي عن المهمة النضالية ما يؤدي الى العودة مجددا الى دور الادب في تغيير الواقع، وبهذا يكون ثمة ما يشير على استحياء الى هذا الارتباط الازلي، لقد بدأ النقد الجديد يطرح قضايا كانت محرمة في اوج المد الذي وصل اليه النقد الالسني، واصبحنا نبحث عما هو خارج النص وعن جذوره وفق منحى يلبس مسرح العلم بعد ان استعبدنا النص زمنا وحشرنا داخله، وجعلنا اسرى لتأويلات تنبع من مادته اللغوية.
على انه ليس ثمة ما يحدد هذا النقد الجديد، لان هناك من يرى ان من اهم سمات النقد الثقافي الكتابة عبر لغة نقدية شاملة لا تتقيد بالمصطلحات والمفاهيم النظرية بقدر ما تتصدر بهوية الموضوع نفسه، حيث يصطنع لغة تتسع بدائرة التلقي بحثا وتحتل البساطة والدهشة فيها مساحة واسعة من القراءة، مع كشف النسيج الذي يشكل خلفية النتاج الابداعي، واستثمار آليات المعرفة في قراءة الظواهر وتأويلها حيث يتحول الناقد الى مفكر.
المرأة والبحث عن أنوثة الكتابة عبدالله السميطي
النص الجديد، العددان السادس والسابع ذوالحجة 1417ه ص ,223
وهذا فهم مغاير لما طرحه المسدي، بل انه يقترب اكثر من النقد الذي يتناسج مع واقعه دون تجسد لهذا الواقع والتعامل مع افرازاته الثقافية في انساقها الخاصة فحسب، وفي اعتقادي ان الغذامي في كتبه التي تعتبر اكثر انتماء الى النقد الثقافي كان اقرب الى الفيلسوف، وهذا يتسق مع نزعته التأويلية التي برزت في كتاباته منذ البداية، فهو يعمد الى استنطاق الظواهر والمقولات ويشكل منها رؤيته، دون ان يعنى بفحصها فحصا علميا موضوعيا دقيقا انه يتعامل معها بمنطق الفيلسوف، وهذا ما يفسر حديثه عن التخلي عن الصرامة الاكاديمية في الحديث عن النقد الثقافي، ولربما كان ذلك سبب اتهامه بالاعتماد على المجازات واعتبارها مدخلا فكريا لانه يلج من خلاله الى قوانين الحركة الثقافية او الاجتماعية فالغذامي مولع بالتأويل بعقلية الاديب الفيلسوف وبذور ذلك منبثة في تحليلاته التطبيقية، انه ينطلق من النصوص، ولكنه يعوم مع الدلالات في فضاء واسع لا تحده حدود.
ولذلك فانه في كتبه المرأة واللغة يقرر ان عمله ليس بحثا في ادب المرأة وليس دراسة فنية جمالية، ولكنه بحث وسؤال عن التمفصلات الجوهرية في علاقة المرأة مع اللغة وتحولها من موضوع لغوي الى ذات فاعلة، ومن ثم يعزف على اوتار الفحولة والانوثة انطلاقا من هذه الرؤية الفلسفية التي هي نتاج التأمل في اللغة، وليس في الواقع، فهو ينطلق من مقولات، ولا ينطلق من وقائع، وهذا سر تعلقه بمقولة عبدالحميد الكاتب خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا واعتبارها مفتاحا لفهم العلاقة بين اللغة والمرأة، انه مع ذلك يركز على السياق الاجتماعي ولا يغرد خارج السرب الخاص به بل ينطلق منه، وضع المرأة في هذا السياق يحدد منطلقه للعلاقة بين المرأة واللغة، وليس في هذا تناقض مع ما سبق ان قررته عن نزعته التأملية، فهي ذات خلفية اجتماعية مركوزة في فكر الكاتب، المرأة لم تكن موضوعا لغويا فحسب بل كانت موضوعا في الحياة الاجتماعية، فهي ليست فاعلة بل منفعلة، ولكن الكاتب لا يريد ان يزحزح عنه قيود اللغة وينطلق خارجها ليستكمل بحثه، من هنا كان الاعتماد على اللغة فحسب سببا في تأكيد رؤيته التأويلية النصية.
وربما لا يكون من المنطقي استدراك ماهو مخالف في نظرنا للواقع، لاننا نصطنع موقعا غير الموقع الذي اختاره الناقد، فهو قد اختار اللغة، وبالتالي حلق في فضاء التأويل فكانت نماذجه قولية أدبية ألف ليلة وليلة فالمرأة تسعى من وجهة نظره الى تحرير اللغة من ذكوريتها، فهو لا يقحم نفسه في المسيرة النضالية للمرأة على المستوى الاجتماعي وانما يجعل من اللغة عالما كاملا ولهذا فان من اخذ عليه انه لم يلذ برؤية اكاديمية خالصة، ولم يعمق نظرته الى الموضوع المثار انما وضع على عينيه نظارة المقولة التراثية لعبدالحميد الكاتب فعبدالله السمطي في مقاله المذكور لم يقتنع بأن ذلك يتسق مع الحدود التي ارتضاها لنفسه، انه يشتغل على المجاز لانه من صميم اللغة، ولم يبحث في القوانين الاجتماعية او يستثمرها ونحن نسلم بان المجاز لا يصلح لصياغة قضية حقيقية، ولكنه ينفع لصياغة قضية أدبية نقدية من هنا كان تركيزه على بكارة المعنى وفحولة اللفظ وتتبعه لها، لذلك عمد الى تحليل الاعمال الروائية والابداعية النسائية التي تناولها من هذه الزاوية ومن هنا عزوف الكاتب الحديث عن الاسباب الاجتماعية والنفسية والبيولوجية، وليس بمجد مناقشة الناقد وحواره حوارا منطقيا حول الحكي والكتابة ونسبة الاول الى المرأة والثانية الى الرجل، اننا امام رؤية فلسفية لغوية وليس بحثا معرفيا اكاديميا خالصا.
اما تلك الرؤية المتشائمة التي ترى في تفجير قضية النقد الثقافي على الساحة الادبية مجرد اعلان صاخب مثير عن موت النقد الادبي اثر المحاضرة التي ألقاها الدكتور الغذامي في نادي الرياض كما فعل منذ البداية حول النقد الألسني في المحاضرة التي ألقاها في نادي الطائف، وبالتالي يستدل من ذلك على ان المشهد الثقافي يثبت عجزه عن التعاطي الجاد مع الفعل الثقافي بمقاصد او بوعي تراكمي مثير كما يرى الاستاذ الناقد محمد العباسي لانه يطمح الى ان يصل سؤال النقد الثقافي الى مناطق الثراء المتوخاة فاذا به ينحاز الى مداخلات احادية المنحى وتعليقات انطباعية يرصدها على النحو التالي: فبعد ان قرر الغذامي ان النقد الادبي وصل الى درجة التشبع تمنى السريحي ان يتلمس فيما طرح متكأ المشروطية الجمالية وافتقد ضمنها محمد الشوكاني مسألة التاريخانية، ورآها معجب الزهراني تجريبا لمقولة معرفية، ولم يجد محمد الفال غضاضة من مجاورة النقد الثقافي للنقد الادبي، واصر الهويمل على بقاء وثبات النقد الادبي واعتبر الدعوة مجرد فكرة في مرحلة التجريب واعتبر فائز أبا المسألة برمتها شوائب فردية وادعاءات ريادية عجيبة واعتبر العباس رغبة التحول الى النقد الثقافي عند الغذامي قدرة حقيقية على طرح الاسئلة مبعثها دينامية معرفية، وانها تشير من ناحية اخرى الى استجابة مزاجية مردها موازين القوى الاجتماعية والسلوكية والعرفية القائمة، وان الغذامي صار اميل الى صيغة الناقد المفكر، ويطرح العباس جملة من الاسئلة المهمة كيف يمكن ان يكون شرف المحاولة فعلا تواصليا يستهدف بجد ومثابرة اضافة حقائق معرفية لا مظهرا من مظاهر الترف الفكري او الاستنساخ او الهروب الى الامام وأين موقع النص الادبي فيه ويرى ان النقد الثقافي نشاط ابداعي قديم يصعب تخيل الظاهرة الثقافية والانسانية عموما بدونه كحاضن معرفي وذوقي، فالمناهج النقدية الغربية استندت اساسا في تقعيدها على جانب هام من المذاهب الفلسفية، كما استرفد النقد العربي القديم جهود العقلانية الاعتزالية لكنه كممارسة قصدية ومنهجية لم يتبلور ويدرج مدرسيا الا في نهاية القرن الحالي مشيرا إلى ان إدوارد سعيد الذي أتقن مشابكة المخيلة بالتاريخ، والحرية بالوقائع من خلال الوقوف على العلاقة بين السرديات والتاريخ لفضح المنظومات الفكرية وامراضها على ارضية الثقافة ذاتها، وذلك استنادا الى النص كمنتج انساني ينطلق منه الناقد ويعود به الى الظاهرة.
ويشير الى السياق واصفا انجازاته بأنها مجرد تنويهات لا تتعدى تطارح الفكرة واغواءاتها المعرفية، كمناداة محمد بنيس في حداثة السؤال بعدم الاكتفاء بالحفر الادبي داخل النص، وضرورة تجاوزه الى النقد الشامل ودعوة محمد الاسعد في بحثا عن الحداثة الى أهمية الاتكاء على النقد الثقافي كحل لكساح الاداة النقدية وقصورها المزمن عن فض النصوص الادبية وما وراءها، وفي السياق المحلي معجب الزهراني في قراءته نيويورك في ثلاث قصائد محلية .
وفي تقييمه لدعوة الغذامي يرى ان المنطلق الذي نبعت منه الاشكالية لها صلة بفضفاضية المصطلح وليونة حوافه فقد تعامل مع البلوت على انه نص بمعناه اللغوي دون اتكاء على حضور بنائه الرمزي في النصوص الادبية كبنية تحتية، مما جعل الامر يبدو وكانه استقصاء اجتماعي لعادة سلوكية رغم الاقتراب من نسقية وجماعية البلوت كنص، الامر الذي قد يؤدي الى ملاشاة النص لصالح النقد الاجتماعي، والتأكيد على انفتاح النص الادبي كمخزن فكري وشعوري للنزعات والمفاهيم والرغبات يزداد رسوخا ضمن النقد الثقافي الذي لا ينبغي ان ينقطع عن النص الادبي ولا يكون الناقد وارثا للفلسفة والفكر وبالتالي يتحول الى عالم اجتماع كما يقول, الرياض، ثقافة اليوم الخميس 18 جمادى الآخرة 1419ه العدد 16062 .
وهذا يعود بنا الى ما سبقت الاشارة اليه من رسوخ النزعة الفلسفية لدى الدكتور الغذامي واقترابه اكثر من التأمل في اللغة من خلال البعد الاجتماعي، واذا كنا قد لمحنا تحولا في توجهات الناقد من مرحلة الى اخرى فان هذا التحول لا يبعد به عن المنطلق النظري الاول الذي يترسخ في الكليات، ولا يعنى بالوقائع انسجاما مع سعيه الدؤوب الى التبنين والتقنين، فالغذامي منذ البداية يرى النقد فلسفة ونظرية، وليس مجرد اداة للتعامل مع النصوص، بل هو يعمد الى توظيف النصوص في خدمة النظرية، فقد استغرق النقد الادبي زمنا طويلا في خدمة الابداع وجمالياته والآن يريد له الدكتور الغذامي ان يستريح من هذا العناء لذا فهو يعلن موته ليخلفه نقد آخر يتعامل مع النص اللغوي الكلي,>كتاب قرأته
|
|
|