من الامور الثابتة في حياتنا تلك الاهمية الكبرى التي تحوز عليها الصداقة بمعناها الذي يجب ان تكون عليه, فالصداقة لأهميتها يضعها الناس في منزلة عالية ودرجة سامية ويتعاملون معها على انها النموذج والمثال ولا يريدون أن ينتقص من هذا النموذج شيء وان كانوا في بعض الاحيان يدركون ان ذلك أمر بعيد المنال, فالصداقة في نظرهم هي حالة يجب ان تسودها الديمومة والاستمرار وان تتصف دائماً بالاعجاب والانبهار فهي صداقة نموذجية كما يريدون.
ان هذه النظرة نحو الصداقة هي وبلا شك نظرة متطورة ترقى بالصداقة الى حيث ينبغي ان تكون في هذه الحياة فالصديق هو بالفعل نموذج حياتي فريد ومتميز وخصوصاً في وقت يعز فيه وجود هذا الصديق بعد ان اختلطت كثير من المفاهيم وتداخلت كثير من المصطلحات حتى انك تجد ان كلمة الصداقة اصبحت تطلق على شؤون كثيرة مثل الزمالة في العمل والدراسة وحتى عندما تقف بعض الوقت عند احد البائعين او في الأسواق وطبعاً هذه تخلو من معنى الصداقة التي ننشدها.
وفي خضم هذه التداخلات في المعاني والاستخدام المتعدد في المصطلحات صارت الصداقة او الصديق الوفي ضرباً من المستحيلات في هذه الحياة حتى ابتعد الناس كثيراً عن فهم ما تعنيه الصداقة في الحياة وهي بذلك تخالف النموذج والمثال الذي وضعوه في خيالهم وطاف باحلامهم.
لقد فهم الناس الصداقة وفق النماذج التي رسموها بأنفسهم او خططوها في حياتهم فهم يقولون: الصديق وقت الضيق، وهم يقولون: صديقك من صدَقك لا من صدّقك وهم ايضا يقولون:
ان الصديق الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن اذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك |
وهكذا اخذت الصداقة تنحو الى سلوكيات اذا نظرنا اليها وجدنا فيها ما يفوق التعاون والنجدة والمساعدة حتى تصل الى حد تفضيل الصديق وتشتيت النفس من اجله,, فهل هذا هو المطلوب في الصداقة؟ الا يكفي ان تقف الصداقة عند الحدود التي قال عنها الشاعر:
صديقي من يرد الشر عني ويرمي بالعداوة من رماني؟ |
إننا في حاجة الى ان نفهم معنى الصداقة وان نذهب بها الى حيث تبرئتها من الاغراض وان نجعلها في الاساس ثابتة الجذور متينة الاركان، فالصداقة المتينة اقوى على الاستمرار مهما حاولت ان تصدعها او تنال منها تلك الامور الدنيوية المتغيرة، لان المتغيرات تتغير من زمان الى زمان، ومن مكان الى مكان، كما ان الانسان متغير الافكار والمشاعر والمصالح والمنافع اضافة الى العشم الزائد والحنين العائد الى الزمن البائد وقت ان كان الصديق كالاخ الشقيق.
ولذلك فقد حرص الاسلام على الصداقة الحقة وطالبنا بأن تكون خالصة في الله وقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقيمون صداقاتهم على هذا الاساس المتين بالخير فقد بشرهم بقوله: قال الله عز وجل: المتحابون بجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل الا ظلي , رواه احمد.
وهكذا فالصداقة القوية المتينة التي تقوم على اساس من الهدي الديني هي صداقة لها ثمراتها في الدنيا وتمتد آثارها الحسنة وثمارها الطيبة الى الآخرة فقد روى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل قال: قد حقت محبتي للذين يتحابون من اجلي وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من اجلي,, وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من اجلي,, وقت حقت محبتي للذين يتصادقون من اجلي رواه احمد والطبراني.
فهل نستيطع بعد ذلك ان نعيد حساباتنا في هذه الحياة لنحسن تفهم معنى الصداقة ونحسن ايضاً انتقاء الاصدقاء لتستمر صداقاتهم في الدنيا يانعة وفي الآخرة شافعة؟.
ام نقع في حيرة بين المبادىء والوقائع بين المثال وواقع الحال، بين المعيار وما يكال، بين ما نحلم به وما نستيقط عليه هذا الاضطراب يلزمنا بالبحث بجدية عن معنى السؤال: هل نسير خلف المثال ونسعى للكمال (الذي لا ينال) ام نقبل واقع الحال ونسمع ما قيل وما يقال ونرضى بما هو آل.
والله المستعان.