تأملات في الجائزة معالي, د, أحمد محمد علي رئيس البنك الاسلامي للتنمية |
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبي الهدى والفرقان، خير الخلق أجمعين، محمد بن عبدالله، وعلى آل وصحبه الطاهرين.
أدرك المسلمون منذ اللحظة الاولى التي جاءهم فيها القرآن الكريم، ما كان فيه من اسباب شفاء الصدور، وصلاح الحال، ورفعة الشأن امام الذات وامام الآخرين قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين الا خسارا) وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)، فانكبوا عليه كل بحسب مقدرته وإمكاناته، حتى غدا عندهم منبع العلوم ومحفز الهمم، يأخذ الفقيه منه ما به يوجه الناس الى حلول أمور دنياهم، وإلى آياته يعمد المفسر مقربا مضمونها الى عامة الناس وطالبي العلم، واليه يرد اللغوي والنحوي مستنبطا مقعدا او مقننا للغة وقواعد دراستها وتدريسها، والى ما فيه من صور بيانية رفيعة يسعى البياني والبلاغي مبيانا مكامن الفصاحة والبيان وحسن السبك والنظم، هذا فضلا عن ان كلا من المسلمين، الشادين والعلماء كانوا يتبارون في حفظ آياته يتقربون بها زلفى الى الله، يرددها كل واحد منهم في الدنيا ليرتقي بها في الآخرة سلم الرقي الحقيقي بقربه من خالقه، فامتلأت قلوبهم بقيمه، ثم فاضت على جوارحهم، يعكسها سلوكهم وتصرفاتهم، فاستقرت به النفوس، وارتفعت بما فيه الهامات، وبه اصبحوا اصحاب حضارة عالمية تسطر في التاريخ لأول مرة حقوق الانسان كاملة غير منقوصة، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على ابيض، ولا لغني على فقير، ولا لإنسان على إنسان إلا بمقدار تحقيق المبادئ السامية والقيم القويمة التي جاءت في الدستور الالهي, فذاقوا حلاوة هذه الحضارة، وادركوا ان عليهم مسؤولية حمل هذه الرسالة الى غيرهم، والدعوة اليها بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يستحقوا ما وصفهم الله به: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، فأوصلوا فكرهم بقوة إيمانهم الى مختلف الأمم الذين اصبحوا اخوة لهم بعد أن كانوا بالأمس يكيدون لهم ويناصبونهم العداوة.
وان من يتتبع تاريخ العلوم في الأربعة عشر قرنا الأخيرة، يجد ان علماء المسلمين قد ابتكروا فيها ما سيبقى نبراسا يهتدي به كل باحث عبر الزمن، في العلوم الشرعية، واللغوية: الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية، وفي التفسير والفقه والتجويد، وفي الاقتصاد، وفي علوم الفلك، وفي السياسة، وفي العلوم الاجتماعية والانسانية كلها,, وقد كانت هذه العلوم وغيرها تنتظم في تلاحم وتداخل لا يملك من يدرس منها شيئا في زماننا هذا إلا ان يشيد بإعجاب بدرجة الاتقان الرفيعة، وبالموسوعية التي حققها العلماء المسلمون وبخاصة في القرون الخمسة الأوّل.
وقد قيض الله في كل عصر نخبة من المسلمين الأتقياء لخدمة كتاب الله الكريم وتدارسه، ونشر تعاليمه، انطلاقا من إيمانهم بان القرآن الكريم كتاب الله الذي وعد بحفظه الى يوم الدين: (إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون)، وانه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ونبراسهم ما جاء في حديث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده)، فلعلي لا ابالغ ان قلت بأن حلقات تدارس القرآن الكريم، والجهود التي تصرف لها في كل عصر من العصور، وندوات حفظ القرآن الكريم وتحفيظه والارشاد الى المنهج التربوي القويم في السير على ضوئه وتعاليمه، لتعد من اهم وسائل حفظ كتاب الله العزيز، ومن اهم سبل الرقي بالروابط الإنسانية الى معناها السامي في الأمة التي أراد الله لها ان تكون خير أمة اخرجت للناس، ووضع فيها رسالته, يقول علي بن ابي طالب رضي الله عنه اعلموا ان هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدِّث الذي لا يكذب,, وما جالس هذا القرآن احد إلا قام عنه بزيادة او نقصان: زيادة في هدى، او نقصان من عمى).
وان مما لا ريب فيه ان القرآن الكريم، كما كان الحافز الأول والأساس في نشأة العلوم والدراسات في القرن الثاني الهجري وما تلاه من قرون، فقد كان ايضا العامل الأول في ضبط السنة الناس واستقامة لغتهم بعد ان انتشرت اسباب اللحن في اللغة,, وهذا يذكرنا بالاسباب الحقيقية للنشأة الأولى لعلم النحو العربي في صرفه وتراكيبه، وكذلك لنشأة علم المعجم، إذ إنها نشأت كلها لمقاومة اللحن في تراكيب اللغة ومعاني مفرداتها, وما كان دافع العالم او العلماء الحراص الذين نهضوا لهذا الامر العظيم إلا من واقع حرصهم على كتاب الله، ورغبتهم في سلامة اللغة التي اصبحت بنزول هذا الكتاب بها موضع شرف اصحاب البيان، والسائرين على دربهم من المتعلمين, فقد ادركوا ان سلامة اللغة تكمن في حفظ كتاب الله، وفي كثرة تلاوته، لتتكون بذلك في أذهانهم الاطر اللغوية التي تحكم سلامة الأداء اللغوي عند النطق، من ارفع مصدر واقواه لما يسميه علماء اللغة باللغة العالية, ولعل في ذلك ما يشير بوضوح الى ان الموجهين الذين كانوا حراصا على توجيه الناشئة من الاجيال المتتابعة من السلف الصالح في هذه الأمة قد اهتدوا قبل علماء اللغة المعاصرين الى ما يسمونه الآن (بالكفاية اللغوية) التي تحكم (الاداء اللغوي) وتوجهه, وان من يرجع بالذاكرة الى سنوات قليلة سيتذكر التأثير الإيجابي القوي لحلقات حفظ القرآن الكريم (الكتاتيب) في استقامة لغة الدارسين وقدرتهم على التعبير السليم نطقا وكتابة,, ولعله ليس من المبالغة ان يقال أن العامل الرئيسي والأقوى لمقاومة اسباب ضعف اللغة العربية في ألسنة الناطقين بها، ان يعود الدارسون الى مزيد من حفظ آيات الكتاب العزيز، والى مزيد من مطالعته وتلاوته وتدبر معانيه، فتستقيم لغتهم وتتسع مداركهم، وينضبط سلوكهم على ضوء ما يتلون ويتدبرون, فإذا عادت الأجيال الى ذلك فإنها ستحقق غايتين هامتين استقامة اللسان ورفعة الخلق، فقد قالت عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، (خلقه القرآن), وان احوج الناس في هذه الايام الى لغة القرآن والى خلق القرآن، هم الشباب، لما اخذت تحيط بهم من اسباب الانصراف عما تدعو اليه مابدئ الدين الحنيف، فالقرآن هو العدة الحقيقية، والزاد الذي لا يضعف آخره ولا يتضعضع، مهما كانت قوة التيارات التي تهم به او تحيط, ولعلي اضيف صوتا آخر الى الاصوات التي ما فتئت ترتفع في كل حقبة من تاريخ المسلمين، ان قلت: ان في إقامة مسابقات حفظ القرآن وتلاوته وتدبر معانيه، وفي حلقات تحفيظه، لدعوة الى الآباء والأمهات لتحصين فلذات اكبادهم، والعناية بأعمدة المجتمع، ورعاية من هم رأسمالهم الحقيقي، ليتشحوا بوشاح القرآن، وليتسلحوا بسلاحه القوي، فينشأوا كما نشأ سلفهم الصالح، علماء وفرسانا وارباب أُسر سليمة معافاة من شوائب العصر، ومن ظلمات الأفكار الفاسدة فيه, قال تعالى: ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا ,, فبالقرآن وحفظه تتحقق هوية المسلم وتستقيم على درب الحق خطاه,, وبه تستقيم لغته ويرتفع بيانه، ويدرك حقيقة انتمائة وموضع اعتزازه، وبذا تصلح الأسر فيعرف كبيرها حق صغيرها، ويقتدي صغيرها بكبيرها، كل يعمل في تكامل مع الآخر لبناء الفرد الصالح، والأسرة المتينة النقية، والمجتمع القوي السليم، محققين بذلك خلق القرآن كما كان رسول البشرية المبعوث رحمة للناس كافة.
وإن المسابقة المحلية التي تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وتخصص لها جائزة الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود يحفظه الله لتعد حلقة هامة في السلسلة المتصلة التي ترعاها المملكة العربية السعودية للعناية بكتاب الله ووضعه سليماً في قلوب الناشئين من البنات والبنين، فيكون نبراساً يسيرون على ضوئه في سلوكهم، وهادياً يهتدون به في توجيه حياتهم، ومصدر تشريع يحتفظون به ليقدم الحلول لما يعترضهم من عقبات ومشاكل، فتلتحم هذه الحلقة من المسابقات بغيرها من حلقات سلسلة المسابقات المحلية والدولية، لتسهم بقوة في تربية هذا الجيل الذي يعوّل عليه كثيراً في حمل أسس التربية الإسلامية القويمة المستقاة من نبع القرآن الصافي، في عصر كثرت فيه أسباب الاختلاط الثقافي والحضاري، حتى أصبح من لا يستقي قيمه من هذا المعين الصافي عرضة للقلق والانحراف والضياع, وانها لتعد حقاً مناسبة ثمينة في حقل يعد الأساس في التربية الحصينة، والبناء الفكري القويم.
وما هذه الحلقة التي تعقد تحت رعاية سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز يرعاه الله إلا واحدة في سلسلة جهوده السابقة في رعاية مصالح المسلمين في كل مكان، وإن جهوده يحفظه الله في رعاية مصالح الشعب الفلسطيني وجمع التبرعات لهم، وكذلك تقديم التبرعات السخية لشعب البوسنة والهرسك، ولمحتاجي الشعب الصومالي، وللفقراء المعوزين من الشعب الأفغاني، لأمر يعرفه المسلمون بوضوح, وإن مما يشرق ساطعاً في جهود سموه الكريم وقفته الدائمة القوية لاغاثة الشعوب الاسلامية التي تلم بها الكوارث الطبيعية، فيكون دائماً صاحب مبادرة قوية، يرعى ذلك بنفسه، ويؤديه بيده ضارباً بذلك مثلاً في حمل المسؤولية نحو المسلمين قاطبة, وإن نظرة سريعة إلى مركز معالجة أمراض الكلى الذي عمل سموه جاهداً لتشييده في مدينة الرياض، وإلى ما يقدمه هذا المركز من رفع الآلام أو تخفيفها بالمعالجة، أو بالزراعة، للمواطنين والمقيمين في هذا البلد المعطاء، تبين شيئاً من جهوده في تخفيف آلام المسلمين ومنحهم, فنسأل الله أن يجزي سموه خير الجزاء، وأن يعطيه خير أعماله، وأن يجعلها دائماً في ميزان حسناته.
والله أسأل ان يكلأ هذا البلد بعين رعايته، وأن يبارك في جهود القائمين عليها، وأن يوفقهم لكل ما من شأنه ان يسهم في انشاء جيل من الجنود المخلصين لكتاب الله، الأوفياء لسنة نبيه الطاهرة، وأن يجزي بحسن الجزاء وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد وعلى رأسها معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد إبراهيم آل الشيخ، وكل من يسهم في هذه المسابقة.
والله نسأل السداد في القول والعمل.
|
|
|