Saturday 19th February,2000 G No.10005الطبعة الاولى السبت 13 ,ذو القعدة 1420 العدد 10005



الرياض عاصمة الثقافة,, عاصمة المكان
(2-3)
عبد الله الماجد

لقد ازدهرت في حِمى العارض الذي يشبه سوراً عظيماً، به فجاج للطرق والمراقبة, حضارة مزدهرة, فكما وفر الحماية، وفر بروافده مجموعة من الأودية العظيمة لعل اهمها الوادي العظيم الذي أخذ اسمه من الجبل نفسه، فأمسى يُعرف باسم العرض عرض بني حنيفة، الذي اشار إليه الأعشى في بيته السالف (ألم تر ان العرض اصبح بطنه نخيلاً وزرعاً نابتاً وفصافصاً) وهو عرض بني حنيفة الذي يعرف اليوم باسم الباطن وعلى ضفافه تنتشر معظم مدن وقرى اليمامة المشهورة والجبل نفسه كان اسمه القديم العارض معترضاً في وسط الجزيرة العربية، أصبح يُعرف باسم طُويق لأنه يشبه طوق الحمامة تماماً، وفي هذا الاسم دلالة حية على انه يطوق البلدان التي تقع في مهابطه .
وفي حضن الجبل والوادي كما هي القاعدة نشأت حضارة قائمة، ولعل أهم مايلفت الانتباه فيما خلفته هذه المدينة الحضارية تحصين مدنها وبناء الاسوار، وقد توارثت المدن على مر أعقاب التاريخ هذا الفكر الدفاعي بالرغم من وجود خطط اخرى للدفاع.
ومما حفظته لنا كتب البلدان العربية، إشارات لامعة، عن حياة لامعة للمدن التي قامت في مهابط العارض من الشمال الى الجنوب مما ساهم في تأسيس طرق التجارة القديمة بينها وبين غيرها في أطراف الجزيرة العربية، ومما يلفت نظر الباحث أن حضارة طسم وجَديس، التي نشأت في المنطقة نفسها، قد قامت على انقاض حضارة سابقة لها، وعادة تبدأ كتب البلدان بذكر هذه الحقبة لتوفر نصوصها لدرجة أنه صيغت عليها حكايات ضافية تشبه الاساطير, لكن كتب البلدان المتأخرة في القرن الثالث الهجري والرابع وما بعدهما، تذكر تلك الإشارات اللامعة عن بلدان هذه المنطقة, فمثلاً في جنوب العارض حيث تقع بلاد قبائل بني كعب، بنو قُشير، وبنو جَعدة يشير الهمداني في صفة جزيرة العرب عن نشوء مدينة عربية لبني قُشير اسمها الهيصمية (1) في منطقة (الفلح) الافلاج الآن، وهو عالم جغرافي من جنوب الجزيرة، ولكنه ينقل عن ابناء المناطق نفسها التي تحدث عنها يقول:
الهيصمية، من بني قشير، وهي مدينة حصينة يركض على جدارها اربع من الخيل، وجهد الغالي بالسهم ان ينال رأسها، وسوق الفلج عليها ابواب الحديد، وسمك سورها ثلاثون ذراعاً ومحيط به الخندق وهو منطق بالقضة والحجارة والشاروق قامة وبسطة، خوفاً أن يُحصر او يرسل العدو السيوج عليه, وفي جوف السوق مائتا وستون بئراً, ماؤها عذب فرات يشاكل ماء السماء ولا يغيض واربعمائة حانوت .
ولعل أول انطباع، يقفز الى الذهن بعد قراء هذا المقتطف من نص الهمداني، أن تلك المدن، ومنذ ما سجلته النصوص المتداولة من عهد طسم وجديس، كانت في رباط، هاجس الدفاع من الهجوم عليها تُفصح عنه هيئة بناء مدنها: الاسوار العالية، الخنادق, حتي ان احد امراء القبائل في هذه المنطقة نفسها وهو حماد الجميلي شيد قصراً في أواخر القرن العاشر الهجري اسمه قصر سلمى على هيئة ما بناه أسلافه في الهيصمية (2) .
الجبل، الوادي، الماء، المرعى, هذه الرباعية، وبترتيبها، كل منها يفضي الى الآخر فتشكل معاً محفزات اساسية لقيام الحياة إذا ما أضفنا إليها خامسها المهم وهو البشر (السكان).
إن هذه الرباعية، هي التي قادت بني حنيفة على يد زعيمهم عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة ليؤسس سُكنى بني حنيفة في اليمامة, الجبل يوفر الحماية للوادي, والوادي مجرى الماء الهابط من أعلى الجبل ومن فجاجه، والمرعى نتيجة طبيعية لكل ذلك، وفوق كل ذلك فالمكان بطبيعته الطبوغرافية مستودع للماء، عيونه متفجرة على سطح الارض وسيوحه تجري, إن مكاناً بكل هذه المعطيات، لابد ان يكون موئلاً للسكني والحياة.
إن قصة استيطان عبيد بن ثعلبة الحنفي وقومه وادي العرض، عرض اليمامة، أشبه ما تكون بالنصوص المطرزة بمحسناة النص, رغم شهرتها في كتب البلدان الكبيرة المعروفة, ولكن أهميتها في النهاية تؤكد معطى تلك الرباعية التي تؤسس لنظريات حديثة في تضاعيف نظرية اهمية المكان الجبوستراتيجية، وأهميتها الضاربة بأعماقها في جذور التاريخ، فكما كانت حجر مدينة اليمامة وام قراها فالرياض اليوم هي مدينة المدائن وقاعدة هذا الكيان الكبير، ولنتدبر أحد تلك النصوص التي وردت في قصة اختيار هذا الموقع مدينة لليمامة وأماً لقراها إنه النص الوثيقة، بالرغم من محسناته القصصية, في مادة حجر, ينقل ياقوت الحموي في مجمعه عن ابي عبيدة معمر بن المثنى ما يلي:
خرجت بنو حنيفة بن لُجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل يتبعون الريف ويرتادون الكلأ حتى قاربوا اليمامة على السمت الذي كانت عبد القيس سلكته لما قدمت البحرين، فخرج عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة منتجعاً بأهله وماله يتبع مواقع القطر حتى هجم على اليمامة فنزل موضعاً يقال له قارات الحُبل، وهو من حجر على يوم وليلة، فأقام بها اياماً ومعه جار من اليمن من سعد العشيرة ثم من بني زبيد، فخرج راعي عبيد حتى اتى قاع حجر فرأى القصور والنخل وارضاً عرف ان لها شأناً وهي التي كانت لطسم وجديس فبادروا كما يذكر، إن شاء الله تعالى، في اليمامة، فرجع الراعي حتي اتى عبيدا فقال: والله إني رأيت آطاما طوالاً واشجاراً حساناً هذا حملها، واتى بالتمر معه مما وجده منتثراً تحت النخل، فتناول منه عبيد وأكل وقال: هذا والله طعام طيب! وأصبح فأمر بجزور فنحرت ثم قال لبنيه وغلمانه: اجتزروا حتي آتيكم، وركب فرسه وأردف الغلام خلفه وأخذ رمحه حتى أتى حجراً فلما رآها لم يحُل عنها وعرف أنها ارض لها شأن فوضع رمحه في الارض ثم دفع الفرس واحتجز ثلاثين قصرا وثلاثين حديقة وسماها حجراً وكانت تسمى اليمامة، فقال في ذلك:

حللنا بدار كان فيها أنيسها
فبادوا وخلوا ذات شيد حصونها
فصاروا قطيناً للفلاة بغربة
رميماً، وصرنا في الديار قطينها
فسوف يليها بعدنا من يحلها
ويسكن عرضاً سهلها وحزونها
ثم ركز رمحه في وسطها ورجع الى اهله فاحتملهم حتى انزلهم بها، فلما رأى جاره الزبيدي ذلك قال: ياعبيد الشرك ! قال : لا بل الرضا، فقال: مابعد الرضا إلا السخط فقال عبيد: عليك بتلك القرية فانزلها، القرية بناحية حجر على نصف فرسخ منها، فأقام بها الزبيدي اياما ثم غرِض فأتى عبيداً فقال له: عوضني شيئاً فإني خارج وتارك ما ههنا، فأعطاه ثلاثين بكرة، فخرج ولحق بقومه، وتسامعت بنو حنيفة ومن كان معهم من بكر بن وائل بما اصاب عبيد بن ثعلبة فأقبلوا فنزلوا قرى اليمامة وأقبل زيد بن يربوع عم عبيد حتى اتى عبيدا فقال: انزلني معك حجراً فقام عبيد وقال: والله لا ينزلها إلا من خرج صلبي، يعني اولاده، فلم يسكنها إلا ولده، وليس بها إلا عبيدي، وقال لعمه: عليك بتلك القرية التي خرج منها الزبيدي فانزلها، فنزلها في اخبية الشعر وعبيد وولده في القصور بحجر، فكان عبيد يمكث الايام ثم يقول لبنيه: انطلقوا الى باديتنا يريد عمه، فيمضون يتحدثون هنالك ثم يرجعون، فمن ثمّ سميت البادية، وهي منازل زيد وحبيب وقطن ولبيد بني يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة، ثم جعل عبيد يُفسل النخل فيغرسها فتخرج ولا تخلف، ففعل أهل اليمامة كلهم ذلك، فهذا هو السبب في تسميتها حجراً (3) .
وعلى الرغم من ان المصادر المعروفة لم تحدد على وجه التحديد التاريخ لهذا الحدث، إلا ان بعض المصادر تشير الى ان غزو الملك اليمني حسان تُبع لقبيلة جديس التي أيدت بدورها طسم كان في اوائل القرن الخامس الميلادي (4) وفي الشعر المنسوب لعبيد بن ثعلبة الحنفي إشارة إلى ذلك، في قوله:

حللنابدار كان فيها أنيسها
فبادروا وخلوَ ذات حصونها
الهوامش
(1) عن الهيصمية، قاعدة الافلاج القديمة، انظر عبد الله الماجد مجلة العرب ج.
(2) انظر وصفاً لهذا القصر في كتاب تاريخ الافلاج ، عبد الله المفلح، ص 69، الرياض 1992م.
(3) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج2، مادة حجر، ص 221، 222.
(4) محمد الفهد العيسى مجلة العرب ج،س 1386ه ص143.


رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved