بعد سقوط الدولة الاموية وقيام العباسيين بملاحقة افراد البيت الأموي تمكن احدهم ويدعى عبد الرحمن الداخل بن هشام، ان يعبر البحر ويقطع القفر ويدخل بلداً أعجمياً منفرداً بنفسه فأقام ملكاً عظيماً بحسن تدبيره وشدة بأسه وطول مراسه ففتح الثغور وقتل المارقين واقام العدل وشيد المدن والقصور والمساجد والجسور,, وحسبنا في ذلك قصر الزهراء,, واشبيليا والحمراء,, فحفظ التاريخ صقر قريش - هذا الاثر النفيس.
* كيف وصل الأندلس ومن هو دليله وخليله:
بعد معركة الزاب في 11 جمادى الآخرة 132ه وبعد النهاية المفجعة التي تم القضاء فيها على آخر فلول الامويين الا عبد الرحمن الداخل الذي افلت من يد العباسيين ولاذ بالفرار مع اخيه الاصغر الى احدى القرى القريبة من الفرات مختبئاً عند احد اصدقائه الذي كان حريصاً على حياته وراحته.
وكان عند هذا الصديق فتاة جميلة في مقتبل العمر فوقعت عيناها على عبد الرحمن الداخل ذي الطلعة البهية وراحت ترقبه في الذهاب والاياب وهي تقوم بأعمالها المنزلية في غياب ابيها الذي كان يزاول مهنة الصيد على ضفاف الفرات.
وذات يوم خرجت هذه الفتاة لجلب الماء مثل كل بنات العرب فتراءى لها اعلام سوداء قدرت انها طلائع العباسيين الذين يجوبون البلاد للقضاء على ما تبقى من بني أمية، فشعرت بخطر يهدد من تهوى وتحب واسرعت لتنبيهه الى هذا الخطر الداهم لكنها احست ان من وراء هذا التنبيه خطراً آخر على حبها وحرمانها لها واستجلاء لذاك الحبيب ومحياه.
عندها لجأت الى الحيلة كي لا تخسر هذا الحبيب وان ترافقه في هربه وتقاسمه آلام الفرار ومشاق الاسفار, وبدا لها من جهة اخرى بأنه لن يقبل ان ترافقه فتاة لحمايته وهو يملك العزيمة القوية وشدة الباس والمراس فقررت في نفسها ان تتستر بلباس الرجال ولا يبقى له من عذر.
فخلعت عليها لباس ابيها وهرولت الى غرفته لتعرض عليه اصطحابها في هروبه ولتكون له دليلاً في الصحراء والبوادي.
ونجحت الحيلة وكم فتق الحب حيلاً، وخرجت معه واخيه الصغير مع غروب الشمس وعند حافة النهر القوا بأنفسهم وبلغوا بر الامان في حين لم يستطع اخاه الاصغر من متابعة السباحة وخشي من الغرق كمن هرب من الغرق الى الموت لتطاله سهام العباسيين ولم يبق الا عبد الرحمن ورفيقة دربه (زبيدة) فاجتازوا قفار الشام وجبال لبنان وفيافي فلسطين وصحراء سيناء شريدين تائهين يظهران في الليل ويتستران في النهار حتى بلغا مصر وجاوزا القيروان وهناك كانت سيوف العباسيين جاهزة لأن تنالهما وقد اوصلت عيون الراصدين خبر الشريد الطريد للحكم العباسي وانما قدر الله ان يفلت هذا البطل وتابعوا سيرهم حتى بلغوا المغرب ونزلوا عند بعض اعوانهم من البربر ومن هناك بدأ يعد العدة للدخول الى اسبانيا فأرسل زبيدة ومن رافقها وهو لا يزال يظنها رجلاً الى الاندلس والى المقيمين على الولاء لبني امية فلبت دعوته وعرفت بذكائها وحنكتها كيف تستجلب القلوب الى من كان قلبها يحبه ويهواه وان تزرع في قلوب الجيش الذي هو من اصل شامي المحبة والولاء لآخر رجل من بني أمية ليتربع على العرش هناك.
وفعلاً استقام له الأمر وتغلب على اعدائه ومنافسيه ووصل قرطبة في العام 138ه فاتحاً واعلن نفسه اميراً على الاندلس وقطع الخطبة للخليفة العباسي ابو جعفر المنصور الذي كان يهاب جانبه وهو الذي لقبه بصقر قريش وعرف منذ ذلك الوقت بعبد الرحمن الداخل .
لكنه لم ينس وهو في سدة حكمه وعزة شأنه من شاركه في آلامه ومعاناته زبيدة فرفعها الى مرتبة الوزراء ووقتها حان موعد المصارحة وخلعت ثيابها واذا بفتاة تتراءى امام عينيه روعة وجمالاً وقواماً فازداد شأن هذه الفتاة عند ذلك الرجل الذي عرف كيف يستعيد مجد آبائه ولم يعرف ان يقرأ ما في عيني هذه الفتاة من الغرام والهيام.
ودعا عظماء قادته ورجال جيشه ليفاخر بها فارساً عظيماً لكن زبيدة لم تكن لتهجر وطنها وبيت ابيها طمعاً بالشهرة والسمعة ولا الجاه انما الحب وحده الذي حملها على جناحيه فقطعت الصحارى والفيافي لتنعم يوماً وتحظى بحبيب عمرها ولم يبد ذلك جلياً في عيني عبد الرحمن فأصابها الاحباط وتمثلت قول الشاعر:
أعلل النفس بالآمال ارقبها ما اضيق العيش لولا فسحة الامل |
وباتت ترقب ساعة اللقاء بالرغم من انصراف عبد الرحمن الى تأسيس امارة اموية في الجناح الغربي من ديار الاسلام وكان همه رفع مكانة هذه الامارة اما حنينه الى وطنه ومسقط رأسه كان قوياً وجياشاً ومما نظمه من الشعر في هذا المجال قوله:
أيها الراكب الميمم أرضي أقر مني بعض السلام لبعضي ان جسمي كما تراه بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض قد قضى الدهر بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي |
ولما افضى الى صديقته زبيدة بما يجول في خاطره وقد عزم على رد الجميل والوفاء لها بأن يعقد زواجها على احد قادته الذي قبل هذا العرض شاكراً مسرورا.
طرحت نفسها على قدميه وعيونها تترغرغ بالدمع وقالت الامر والارادة لك يا مولاي فقامت الافراح وتجلت الانوار احتفالاً بزفاف زبيدة لكن قبل اتمام الزواج بحثوا عنها فلم يجدوها,,,!!! بل وجدوها في غرفة الأمير عبد الرحمن تذرف الدموع وتتأوه وعندما بلغ الأمر حضر اليها وإذا به امام الفتاة المسكينة وهي تسلم الروح,.
فنظر اليها بعد ان زالت الغشاوة عن عينيه وعرف ما كان يجب ان يعرفه منذ زمن بعيد بأن زبيدة لم تشاركه ألم الغربة ومشاق السفر الا لأنها تحبه وعلى أمل الوصال به.
فانكب عليها يقبلها واخذ يضم رأسها على صدره بعد ان لفظت نفسها الاخير وهي ترقد على القلب الذي لم يفطن الى ذلك الخبر الا بعد ان توقف قلبها عن الخفقان,.
وتساقطت دموع البطل العظيم الذي وضع قبلة اخرى على جبينها وتذكر قوله:
قد قضى الدهر بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي |