تَعبُر بالقارئ بعض العبارات دون أن يقف إليها,.
وتأخذ أبعادها معها، دون أن يتوقّف عندها,.
وحين يحدث أن يقف القارئ، عند العبارة كي يُلقي التحية العميقة إلى أبعادها، فإنه سوف يتعرَّف إليها,, سوف يلمسها,, سوف يأتيه وهجها,, ولسوف يتعارفان ويتآلفان,.
فالوقوف عند الكلام,, ليس فيه هدر، ولا عنه ندم,,، والكلام يحضن القارئ فكراً، بمثل ما يحضن المرء الآخر حسب علاقتهما ,, ذلك لأن الكلام محضن ، فكيف يربِّي محضنُ الأم العاطفة الدافئة الصادقة ذات النقاء والصفاء، يفعل ذلك الكلام وكيف يشيع الاطمئنان والسكينة والنشوى محضن الحبيب، يفعل الكلام ، ذلك لأن الإنسان يتعلم عن طريق الكلام، ويسلك عن طريق الكلام، ويتخذ خطواته العملية عن طريق الكلام,, وهو بناء على ذلك محضن الفعل والموقف عنه.
والكلام قولٌ،,, فهل فكَّر الإنسان في بدء فعله كيف ينشأ؟! إنه عن طريق القول وليد الكلام,, المشتق من الكلمة ,.
أول توجيه سماوي للإنسان على الأرض كان دعوة الله تعالى لآدم أن يغادر الجنة إلى الأرض، ويقطن الأرض ويعمِّرها,, فجاء ذلك الأمر كلاماً ثم فعلاً أدّاه آدم وزوجه,,، وأول ما غادر ابليس الجنة كان بعد أن رفض السجود لآدم وكان الأمر بفعل ذلك منه، وقد تلقَّاه كلاماً ربانياً اسجد قال: كيف أسجد,,, ولم يفعل,,، ولأنه رفض أداء الفعل,, طُرد من الجنة قولاً فعملاً,.
والمرء كل الذي يفعله يتحقق بدءاً من الكلام منطوق النية، والعمل تحقيقها,,، لذلك كان الكلام محضناً للنية، مؤدياً دافعاً للعمل.
لكنه يقف أمام عظمة الله تعالى موقفاً غير الذي يقفه أمام البشر.
فالله تعالى بحكمته ورحمته لا يؤاخذ المرء بقوله عندما ينطق عن نية سيئة وذلك امعاناً في رحمة الله تعالى، وتأكيداً عملياً على قدرته تعالى لمعرفة سرائر الإنسان، لأن النية مكانها القلب أو الصدر أو العقل أو,,,, دون أن نلج في التحليل العلمي لوظائف العقل الذي يُدرك، والنفس التي تَرغب والقلب الذي ينبض، فتتشكّل الرغبة وتتحدَّد وتُخصص في مجالها عن طريقهم ثم تخرج مصاغة في محضن الكلام الذي يحملها من مهدها الداخلي إلى بسطها فعلاً ملموساً خارجه,.
أما الإنسان فيُعقَد أمره على قوله مع الانسان، ومن ثم يبدأ فعله، حيث هناك أقوال بين الإنسان والإنسان لا تُحل إلا بفعل آخر,,، فالذي يرغب في الزواج، ويتخير زوجه من بين النساء، ويذهب إلى وليِّها كي يقترن بها، لا يمكنه أداء فعل الزواج ما لم يتحقق منطوق قوله أرغب في الزواج من ابنتك,, على سبيل المثال ويأتيه الرد زوَّجتك ، ويشهد على هذا المنطوق الحامل لرغبته من القول شاهدان، عن طريق أدوات استقبال الكلام السمع ,, ومن ثم يأتي زوجه، وتحِلُّ له بما لم يكن قبل هذا القول؟,, وعندما يرغب في أداء فعل الحلِّ من هذا الزواج لا يتحقق له ذلك دون اتخاذ الاجراء ذاته بقوله: طَلَّقتُ ,, فيفعل فعل القول من الابتعاد الذي يُقصيه عملياً عنها,,، ولا يتحقق فعل الكلام موافقة أو رفضاً أداءً أو تركاً بين البشر بمثل ما يحدث عند الله تعالى,, ذلك لأن الإنسان لا يملك أمر العفو المطلق أو الأجر أو العقاب، أو النهاية الكونية في خلودِ نعيم أو شقاء إلا الله تعالى,, وحده الذي يملك ذلك.
فالقول كان بنية سالبة أو موجبة، خيّرة أو شريرة بين المرء والآخر له معاقد الفعل ولا يتحلل منه الواحد إلا في حالة الصفح على الوجهين منه سالبه وموجبه.
من هنا جاءت المرتبة العليا في وصف أخلاق الإنسان الذي يُلزم نفسه عند قوله ويصدُق فيه، والعكس تماماً عند من لا يلتزم بكلامه، وذلك في حالة الايجاب في الكلام.
أما عندما يكون الكلام سالباً، يمثل الألفاظ الجارحة أو القول البذيء أو الوجه الداكن، فإنه ينزل عن المرتبة العليا، فيما يرتفع الآخر الموجَّه إليه إلى مستويين من مراتب الأخلاق فهو إن رد القول بمثله فهو من باب القصاص وكلاهما في ميزان واحد, أما إن تحمّله وصفح عنه وكظم غيظه الذي بعثه ذلك الكلام فإنه يأخذ مرتبة عليا من الخلق، ولا يقف عند هذه المرتبة بين البشر، بل عند الله تعالى يتحقق له مثلها,, ونعم أجر الصابرين .
فالكلام لا يُطلق على عواهنه,, فله ضوابط وآثار ونتائج,, لا تقف عند حد التعامل البشري ارسالاً واستقبالاً,,، وإنما تتخطّى آثاره إلى نتائج مصير في الكتاب المحفوظ عند الذي خلق الخلق ووضع لهم بنوداً واضحة,, أرسل لها الرسل، ووضع من أجلها الكتب، وبلغَتهم كلاماً وطُلب إليهم عنه أداء الفعل المناسب لها كي تسجل النتائج للإنسان أو عليه.
من هنا جاء الوقوف عند القول الذي ينطقه الإنسان شفاهة أو كتابة، وجاء أمر الوقوف عند عباراته,, وأبعادها,, كي يلقي التحية لها,, مُدركاً دلالاتها، لاحقاً بأبعادها,, فيعرفها, ويلج إلى محضنها,,،
أو هو يَعبُر بها دون أن يفعل.
و,, من جملة العبارات المحاضن، أقوال المفكرين وشعرهم ونثرهم، والحكماء والعلماء والمربين، والإنسان ذي التجارب الناطق بها,.
ولعل في السطور السابقة ما يستدعي للولوج إليها,, والتعرُّف إليها,, والتآلف معها,, ذلك لأنها جاءت عفواً,, كي ترسل تحايا عميقة لكل من يقرأها.
|