الغذامي يختلف، لهذا,, يصنع الأصداء وتلسعه الأعقاب عبدالله سعد اللحيدان |
يُعلن بعض المبدعين والنقاد عن نياّتهم في تجاوز ما انتهى إليه الجنس الكتابي الذي يمارسونه، والسياق الذي يشتغلون على أعرافه، والتراث الذي يقولون في اعلاناتهم إنهم يتكئون عليه, ويتعدى الاعلان عن التجاوز إلى التصريح بالرغبة في أو بتحقيق اضافة هامة إلى مدونة النوع الذي يكتبون فيه، واختراقه بعد خلخلة عناصره ومكوّناته وبُناه وإعادة انتاج إبداع جديد هو حصيلة كل ما في الذاكرة الفردية والجمعية، فيما هو مختلف تماماً ويُغاير ويُخالف ويُضاد كل ما في هاتين الذاكرتين من تراكمات وتصفيات، رؤى ومواقف واشكالاً تتمظهر فيها هذه الرؤى والمواقف في جدلية تشترط ذاكرة ملأى ومنسية، وحاضرة وغائبة، ضائعة وموجودة، ولا يمكن فهم وإدراك آلية تجسّدها أثناء الخلق الإبداعي.
هذا ما يُعلنه بعضهم ممّن يملك القدرة على مثل هذا النوع من الحديث والمفردات وهو ما ينجح فيه المبدعون النادرون، وما يفشل فيه الكثيرون حتى وان توافرت لديهم النيّات الساذجة أو غير الساذجة، وإن ملأوا الدنيا وشغلوا الناس فيما لا يستحق الدخول إلى حوزة الخلود أو المجد أو البقاء بعد وفاتهم جسدياً أو معنوياً ، حتى وإن ملأوا الأرفف كتباً والصحف مقالات وصوراً، وساندهم من ساندهم من أصدقاء وأصحاب مصالح ومؤسسات ثقافية أو اعلامية يُديرها اصدقاؤهم أو من تتوافق مصالحهم من مصالحهم, وبعضهم يحاول دون معرفة بالتراث ولا مدركاً لأساليب قراءته ومجادلته وهضمه وتمثله أولاً ثم تجاوزه والاضافة إليه، لأن من لا يعرف الشيء لا يمكن له تجاوزه أو تمثلّه أو الاضافة إليه، والذي لا يعرف المدينة جيداً,, وأسوارها,, لا يستطيع اختراقها، والذي لا يعرف المحلية من حيث هي الانطلاق مما هو مشترك بين أفراد المجتمع الانساني وتحويل ما هو ذاتي وخاص إلى مشترك انساني عام,, بما أن معاناة الإنسان واحدة، وفي كل زمان ومكان لا يستطيع تجاوز حدوده واقليميته إلى كلّ من يشاركه الهوية اللغوية أولاً ثم إلى العالمية بآفاقها المفتوحة.
عبدالله الغذامي، في هذا الجانب، بدأ حياته النقدية قبل عشرين عاماً، وبمواكبة إعلامية خدمه فيها الخصوم أكثر مما خدمه فيها الأصدقاء والتلاميذ والمبدعون الشباب الذين كرّستهم المرحلة الغذاميّة الأولى , بدأ غربياً في الخطيئة والتكفير ، واقتحم الساحة برطانة جديدة لم يألفها شيوخ الأدب والنقد في هذه البلاد، ولم يجد حتى، في المبدعين، آنذاك من يمكن أن يصلح لأدواته النقدية واختباراتها، واضطر وهو يعمل على أكثر من جانب إلى إيجاد جيل من المبدعين الجدد,, تكون نصوصهم صالحة بالضبط للاشتغال عليها غذامياً ولأنهم جاءوا من الفراغ عادوا إليه وبنفس السرعة عندما انتقل الغذامي من النقد الأدبي الشعر بالذات إلى مختبر ابحاثه ومعمل دراساته محاولاً الربط بين ما جاء به من نظريات غربية وبين ما في تراثه من أقوال متفرقة تحمل وجه شبه أو أكثر مع شيء أو أشياء مما في هذه النظريات، وربما لخيبة أمله في من عوّل عليهم، عاد إلى التراث أكثر من ذي قبل، قبل أن ينزل إلى الشارع بنفسه ودون تلاميذ أو وسطاء ليمارس النقد الثقافي الاجتماعي مُجدداً دور بعض الفلاسفة القدامى، ومعتمداً على نفسه فقط في ايصال رسالته، بعد أن انتهت صلاحية من توهّم فيهم خيراً.
في عودته إلى التراث ليس عند الجرجاني الذي ارتبط به من قبل كثيراً ولكن إلى التراث بشموليته كبُنى وأنساق، حاول في كثير من كتاباته اثبات ان بعض ما جاء به الغرب من نظريات ومفاهيم حديثة قد سبقهم إليها بعض النقاد العرب القدامى.
هذه النجاحات اللافتة، ليست سوى جزء بسيط من النجاح العام الذي حققه رائد النقد الجديد في بلادنا بامتياز واستحقاق، وبخاصة، أنه أكثر وعياً من غيره بأهمية الإعلام ودوره في العصر الجديد.
من النجاحات التي لا يمكن للحديث هنا تجاوزها، خروجه من الأُطر المحلية الإقليمية الضيقة التي يدور في فلكها كلّ مثقفينا، كتّاباً ومبدعين ونقاداً، عدا أسماء نادرة ولا تعد على الأصابع,, من أهمّهم عبدالله القصيمي وعبدالرحمن منيف، حين استطاع تجاوز الحدود إلى المنتديات الثقافية والإبداعية العربية مُسجلاً تواجداً لم يسبقه إليه أحد من أبناء هذه البلاد المقيمين فيها، حتى الرواد الذين كتبوا في النصف الأول من القرن العشرين والنصف الأول من نصفه الثاني,, وكان انتاجهم هائلاً من ناحية الكمّ وتقليداً للآخرين من ناحية المحتوى، إذ تميّز عنهم الغذامي بأنه لم يكن صدىً لأدباء العراق والشام ومصر، ولم يكن مقلداً مثلهم,, كان جديداً وفريداً في حضوره وفي شكله ومضمونه، وأثبت ان باستطاعة من يملك الإرادة اختراق الحدود وإثبات الوجود وتحقيق الحضور الإعلامي في المحافل الثقافية العربية التي ما زالت تُمارس مع مثقفينا ومبدعينا التهميش والتعالي والإلغاء,, فيما نشجعهم على ذلك، الارادة التي تتجاوز النيّات والإعلان إلى دعم الموهبة بالثقافة والخبرة والتجريب والمثابرة، المثابرة التي تستهلك العمر سنةً سنةً وعقداً عقداً، دون كلل ولا ملل وبتحفز دائم، التحفز الدائم الذي لا يمكن لغير صاحب الرسالة والأهداف ان يمتلكه,, فيما هو لا يُشترى ولا يُستعار، ومهما كان شكل ومضمون هذه الرسالة والأهداف,, إذ المهم هو الإيمان بها والسعي إلى تحقيقها دون كلل أو ملل أو استسلام.
النجاح الذي حققه الغذامي في تعامله مع النقد، ومع الإعلام، وفي تمكنه من التراث قبل ادعاء تجاوزه أو اختراقه أو الاضافة إليه وفي تجاوزه المحلية الضيقة الى المجال العربي الأكثر رحابة واتساعاً، يضاف إليه نجاحات لا تقل أهمية على مستوى الانجاز وعلى مستوى الحضور الاعلامي عربياً وفي مجاله ، والذين حصلوا على جائزة سلطان العويس قبل الغذامي فيهم من يقلّ عنه قيمة، بنسبة أو بأخرى، ولذا فإن الجائزة هي التي فازت به ولم يفز بها كما لم يكن يسعى إليها، وليس تكريس اسمه كرمز ثقافي وقامة محلية تطاول القامات العربية الأخرى في مجال النقد سوى احد هذه الانجازات.
أما مواقفه من الازجال العامية ومن تكريسها عندنا ومن قصيدة النثر والنصّ والإبداع الجديد، فتستحق وقفة وأكثر من مقال، فيما لا يتسع لها المجال هنا .
وهو يستحق، لقاء هذا الحضور اللافت، وما أنتج من كتب ومؤلفات ومقالات، وما صنع من تلاميذ، وعلى مدى عشرين عاماً، أكثر من جائزة وأكثر من تقدير، ويستحق من تلاميذه الذين وضع خطاهم على الطريق، ومن الذين لم يشجّعهم ولم يضع خطاهم على أي طريق,, وأنا واحد منهم، يستحق الثناء والتقدير والاشادة، من الفئة الأولى لفضله عليهم ومن باب رد الجميل ولأن في الاشادة به إشادة بهم، ومنيّ,, لأنه علمني في لقائنا الوحيد الاعتماد على النفس، ولأنني، وعند احتدام المباهاة بيني وبين بعض المثقفين والاعلاميين العرب لا أشير إلاّ إلى القصيمي ومنيف والغذامي.
عبدالله الغذامي، الذي أعرفه جيداً، ومباشرة، معرفة دقيقة تمّت في زيارة وحيدة قُمت بها إليه، زيارة لن أنساها ولم أستطع نسيان كلمة واحدة مما دار فيها، وكانت في منزله في اسكان جامعة الملك سعود منذ عقد أو أكثر، وامتدّ الحديث فيها عدّة ساعات، دار معظم الحديث حول الخطيئة والتكفير ، والفرق بين الشعر والنثر، والفرق بين الشفوية والكتابة، زيارة تاريخية بالنسبة لي لرجل سجله التاريخ في عداد النجوم التي أضاءت يوماً ما في سماء هذه البلاد.
نجاحه نجاح لنا جميعاً، من اختلف معه ومن اتفق، من رضي هذا النجاح ومن أباه, فإلى مزيد من النجاح والإضافة والتجديد والحضور، وإلى العالمية التي تستحقه وتتمناه.
|
|
|