حين تنبأتُ بفوزه,,! د, خالد الدخيل |
في نهاية عام 1996 طلب الي من جريدة الحياة ضمن استفتاء سنوي، ان أكتب عن أهم ثلاثة كتب قرأتها في تلك السنة, وكان كتاب المرأة واللغة للدكتور عبدالله الغذامي أحد هذه الكتب التي اخترتها في مشاركتي تلك.
واختياري للكتاب جاء بناء على أن موضوعه مبتكر، وعلى انه يمثل المحاولة الأولى التي تؤذن بتحول منهجي لدى المؤلف، يخرج به من الحدود الضيقة للنقد الأدبي، الى رحابة ومردودية ما يسميه هو بالنقد الثقافي, ولا بد من التأكيد هنا على أن كون الموضوع مبتكرا لا يكفي في حد ذاته لأن يكون جديرا بالاعتبار والإعجاب, لكن موضوع المرأة واللغة، وبالطريقة التي تم تناولها في الكتاب، يكشف عن حيوية كامنة في طبيعته, وعن خطورة ينطوي عليها لأنه يتعلق بسيرورة المجتمع وبنيته الاجتماعية والثقافية، أي حركته التاريخية.
ان كتاب المرأة واللغة وكما هو الحال مع المشروع الذي ينتمي إليه ليس كتابا في التاريخ، او في الاجتماع، او في سوسيولوجيا المعرفة انه كتاب ينتمي من حيث الهوية الى مجال الدراسات الأدبية, لكنه من حيث المنهج الذي يقوم عليه ينتمي الى فضاء معرفي جديد على الدراسات الأدبية المحلية والعربية فالمنهج المستخدم في الكتاب, وفي المشروع ككل, يتجاوز محدودية اداة النقد الأدبي التي لا يتعدى اهتمامها حدود جمالية النص، وذلك هو منهج النقد الثقافي, ومن هنا نجد المؤلف في هذا الكتاب يخضع مجموعة من النصوص اللغوية والأدبية للكشف, ليس عن جماليتها الصورية والتعبيرية وإنما عن دلالاتها الثقافية بالمعنى السوسيولوجي، ومن ثم إزاحة الستار عن النسق الثقافي الذي ينتظم هذه النصوص مع غيرها جميعا, وفي كل ذلك يحاول الكاتب ان يتعرف على العلاقة بين ثلاثة أبعاد: النص، والنسق، الثقافي الذي ينتمي اليه والذاكرة, والمعنى الذي يحمله مفهوم الذاكرة هنا هو الذاكرة الجماعية للمجتمع التي توجه جميع صيغ السلوك من فعل, وكتابة وتعبير,,, إلخ.
بهذا المعنى يتشكل النسق (الثقافي) داخل الذاكرة ومن ثم تحكم الذاكرة بعد ذلك الشكل والمضمون اللذين يتميز بهما النص باعتباره شكلا من اشكال التعبير, ولأن النسق الثقافي الذي يحكم اللغة (العربية هنا) هو نسق ذكوري، فإن ذلك يعود في الأساس كما يقول المؤلف، الى ان ذاكرة هذه اللغة لما تزل ذاكرة مشحونة بالفحولة، يرتكز فيها اللفظ المذكر بالمعنى الذكوري (ص207) ومن ثم يصبح من الجلي ان تأنيث اللغة أو في الأقل أنسنتها لن تتحقق إلا بعد ان تكتنز الذاكرة الثقافية بالمعنى المؤنث والأنوثة (ص 235), في هذه الحالة لا يعبر النص عن ذاته فقط, او ذات كاتب النص، وإنما يعبر عن النسق الثقافي الذي ينتمي اليه النص.
ولا بد من الإشارة الى ان فرضية المجتمع الذي يسيطر عليه الذكر ليست فرضية جديدة في حد ذاتها, لكن الجديد في كتاب الغذامي هنا هو محاولة الكشف عن تحقق وتجسد هذه الفرضية داخل الثقافة العربية.
لا يمن القول بأن الغذامي تخلى لافي هذا الكتاب, ولا في المشروع الذي ينتمني اليه الكتاب, عن البنيوية كمنهج لأن النقد الثقافي في هذا المشروع يتحرك داخل مجموعة, او شبكة من العلاقات التي تشكل فيما بينها بنية ثقافية محددة, وفي هذه الحركة يعمل النقد هنا على استنطاق النصوص للكشف عن دلالاتها, وعن العلاقات التي تنتظمها, ومن ثم عن النسق الثقافي الذي تنتمنى اليه, ليس هناك في هذه البنية سبب ونتيجة, او عامل مستقل وعامل تابع.
على العكس هناك بنية حيوية متكاملة تتحرك بكل عناصرها ومحتوياتها, وتمارس فعالياتها على كل عنصر ينتمي اليها, انها بنية لها صفة الهيمنة والاستبداد, ولعله ينبغي التذكير هنا بأن النسق الذي يمثل الهدف الذي يسعى مشروع الغذامي للوصول اليه وتشخيصه داخل الثقافة العربية هو في نهاية الأمر بنية ثقافية تحكم وتوجه كل من ينتمي اليها.
لعله من الواضح اذاً بان مشروع عبدالله الغذامي هو محاولة جريئة للخروج بالدراسات الأدبية من مأزق التقوقع داخل عملية البحث عن جمالية النص بمعزل عن الفضاء الاجتماعي والثقافي الذي ينتمي اليه, وهو في ذلك ينتمي الى تيار معرفي لا يزال يكتسب قوة وتأثيرا داخل الأوساط الثقافية والأكاديمية في العالم وهو ايضا مشروع يعمل على التعرف على تاريخنا وثقافتنا والكيفية التي بها تشكل كل منهما, والكيفية التي بواسطتها تشكلت الأنساق التي تحكم سلوكياتنا وأذواقنا, ويكفي ذلك لأن يكون مشروع الغذامي مستحقا للفوز, ومستحقا للاحتفال به.
بقي ان اقول انني بدأت هذه المشاركة القصيرة بذكر اختياري لكتاب المرأة واللغة كواحد من أفضل الكتب التي قرأتها في عام 1996م, لسبب بسيط وهو ان مشاركتي هنا بالاحتفال بفوز الدكتور الغذامي بجائزة العويس العربية ليست وليدة اللحظة، وإنما سبق لي ان احتفلت بباكورة المشروع الذي فاز بالجائزة منذ سنوات، ومن ثم فإن فوز الغذامي هنا لم يكن مفاجئا لي على العكس كان مناسبة للفرح مشاركةً لصديق عزيز وكاتب جدير بما فاز به, ولكنه ايضا فرح بأن رؤيتي وتقديري لباكورة المشروع الفائز تحققتا على يد لجنة تحكيم الجائزة.
|
|
|