كأس الملك عبد العزيز: كأس البطل المؤسس خالد الطويل |
(1)
لم أكن أعرف ما كنت اريد أن اكتب بمناسبة إقامة مسابقة رياضية تحمل اسم البطل المؤسس الموحد الملك عبد العزيز رحمه الله، فالمناسبة كبيرة وغالية، وهي عن أسد الجزيرة ومؤسس البلاد وموحدها وباني نهضتها الحديثة، لذلك حارت بي الأفكار حول اتجاه كتابتي وأخذت الحيرة تجتاحني حول ما ساكتبه احتفاء بهذه المناسبة.
قررت في البداية ان اقرأ في تاريخ البطل الذي تحمل المناسبة اسمه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله وغفر له وكلّي أمل أن أجد في سيرته العطرة شيئاً يمكن كتابته عن الحركة الرياضية في عهد التأسيس، قرأت العديد مما كتب عن الملك عبد العزيز سواء من رجال عاصروه سعوديين أو غيرهم, وما كتبه المؤرخون بعد ذلك وصولاً الى عصرنا الحاضر، امتدت القراءة في النهاية الى البدايات، اي بداية ظهور دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب واحتضان الامام محمد بن سعود لها ودفاعه عنها وما قام به هو وانجاله واحفاده من تمسك بالدعوة السلفية والدفاع عنها، الأمر الذي ادى الى غزو خارجي تكرر مراراً محاولة من الغزاة لقتل هذه الدعوة السلفية وتشتيت شمل هذه الأسرة السعودية التي حملت لواءها.
تركت عندما انهيت قراءاتي فكرة ان اكتب عن الرياضة او اي شيء يتعلق بالحركة الرياضية، حيث قررت أن أعرض ما قرأته على القارىء وأن اشركه فيما قرأت مستخلصاً اهم العبر في تاريخ دولته عبر دولتها الاولى والثانية وصولاً الى الدولة السعودية الثالثة التي قام بتأسيسها وتوحيدها البطل المؤسس والموحد الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له.
ما سيقرأه القارئ في هذه المقالة يجب ألا يعتبر محاولة مؤرخ عرض الاحداث، ويجب ايضاً ألا يعتبر محاولة محلل يستعرض الوقائع ويحللها، بل هو أولاً واخيراً رواية قارىء اراد ان يشرك قراءه معه فيما قرأه مستعرضاً فيها مسيرة دولته كما قرأه منذ البدايات وصولاً الى هذا العهد الزاهر أدامه الله.
***
(2)
ظلت الجزيرة العربية فترة طويلة من الزمن بعد انتقال الخلافة إلى دمشق بعيدة عن مركز الأحداث وصناعة التاريخ، ولولا وجود مكة المكرمة والمدينة المنورة بصفتهما مدينتين مقدستين واستعمال الحجاج المسلمين للطرق المؤدية لهما سواء من أعالي نجد أو بمحاذاة الساحل الشرقي للبحر الأحمر، لأمكن القول أن هذه المنطقة من العالم قد طويت نهائياً من صفحة التاريخ.
التاريخ نفسه لم يكن غائباً عن أرض الجزيرة العربية فهي الأرض التي قيل فيها الكثير من الشعر الجاهلي حتى أصبحت مواضعها ووديانها وهضابها مشهورة شهرة ساكنيها، وهي الأرض التي احتل رجالها مركز الصدارة في كل أخبار وأساطير ومكارم وشهامة ونبل التاريخ العربي قبل الإسلام ثم كان رجالها هم القوة الأساسية التي نشرت الإسلام من الصين إلى جنوب فرنسا.
هذا الغياب التاريخي المقفر كان له انعكاساته مع مرور الأيام والزمان على حياة أهل الجزيرة العربية، فالمسافات البشرية في عرض وطول هذه الجزيرة عاشت في عزلة تامة عما يحيط بها من أحوال الأمم والشعوب وأصبحت أراضيها بالتالي مليئة بالخوف والفقر والجهل، بل كان هذا الثالوث المخيف يملأ أرضها بالآلام والمآسي حيث كان الترحال سواء لطلب الرزق أو لأداء فريضة الحج يتحول إلى تناقض من كل شيء كضرورة لابد منها وكهم قد يصيب في مقتل، وحتى على المستوى الاجتماعي تبدلت الأحوال، فالطاعة والولاء اللذان كانا يقدمان لإمام المسلمين وقائدهم تحولا مع هذا الفراغ التاريخي إلى طاعة وولاء يقدمان لشيوخ القبائل أو لزعماء القرى الصغيرة التي تناثرت هنا وهناك.
كانت القبائل تعيش أيضاً حالة تاريخية مختلفة فهي كانت تنتظر تلك اللحظة التي تفتك فيها ببعضها البعض عن طريق الغزو والسلب والنهب والاقتتال على الماء والمرعى حيث كان هم القبائل هو الحصول على القوت بالقوة ممن كان يملكه، وتراوحت حالة هذه القبائل بين واقعين أولهما يتمثل في الهرب من قساوة الصحراء إلى مجاورة القرى الصغيرة أو الواحات عندما تنقطع الأمطار وتجف المراعي طلباً للماء والعيش، والواقع الآخر يتمثل في العودة إلى الصحراء عندما تهطل الأمطار وتزدان المراعي حيث يكون الرعي هو النشاط الأساسي، وهو ما يمثل واقعاً آخر لأهل القرى حيث يصبحون بدواً ينتشرون في الصحراء طلباً للرزق، هذا الأمر كان في حد ذاته يمثل خطورة سجل التاريخ صفحات أحداثها لأن التداخلات التي كانت تتم بين مراعي القبائل المختلفة كانت تحدث اشتباكات خطيرة قد تصل إلى إعلان الحرب بينها، ولذلك اعتاد أهل الجزيرة على اعتبار عام الجدب وانقطاع الأمطار عاماً للإغارة والنهب والسلب حيث يكثر القتل والسرقة والاعتداء على الناس خاصة القوافل التجارية لأهل القرى التي كانت تضطر حينها إلى دفع ضريبة تسمى اخاوة لشيوخ القبائل المختلفة من أجل تسهيل المرور عبر أراضيها منعاً لما قد تتعرض له القوافل من مخاطر البادية وقطاع الطرق.
حالة القرى الصغيرة التي تفرقت في أنحاء الجزيرة العربية والتي استوطنها أناس قلائل كانت لاتختلف في ذلك عن حالة القبائل في الصحارى فالجهل كان سيد الموقف والمرض والفقر كانا اللاعب الأول في ملعب كبير ملأته تناقضات من كل شيء، وكان أغلب زعماء هذه القرى مستبدين حقيقيين لهم الأمر والسلطة والقوة والنفوذ، وإليهم تعود الضرائب والمكوس والجبايات، ولهم تعود الكلمة في طرد من يعارضهم من أهل القرية إلى خارجها لاجئاً في قرية أخرى تقبل به للعيش ضمن حدودها، ولم تكن هذه الحدود شيئاً يمكن مقارنته بالمفهوم السياسي المعاصر لمفهوم الحدود، بل اقتصرت حدود كل قرية على سور دائري يحيط بها من أجل حمايتها ممن قد يحاول غزوها، وكانت لهذا السور بوابات مختلفة تغلق تماماً عندما تغيب الشمس وتفتح مرة أخرى مع بزوغ شمس نهار اليوم التالي.
***
(3)
لم يكن وسط هذا الركام المتخلف من الفراغات الصحراوية أية نشاط مدني منظم أو سلطة مركزية أو شبه مركزية تؤول لها الأمور وتستطيع ضبط حركة مجتمعها وتطوره، لذلك كان التعليم ترفاً لا يتوفر وظل أمراً يدخل في خانة الرفاهية التي ملكها أفراد قلائل في ذلك الوقت، وكانت الحالة الاقتصادية وهي لب أي مجتمع ومحرك نشاطه أسوأ من أن توصف، ففي ظل الانعدام الكامل لأي نشاط إنتاجي ظلت المجاعات تفتك بالناس ولم يملك إلا القليل منهم حينها من الثورة إلا النخلة وبعضاً من الماشية، ولذلك كان على أجدادنا غفر الله لهم السفر والترحال طلباً للعيش والرزق عبر القوافل التجارية المتجهة إلى مناطق الازدهار الحضاري آنذاك، وكان على كل فرد من افراد هذه القوافل كتابة وصيته قبل المغادرة واقتحام صحراء المجهول.
الوضع الصحي الذي يعتبر مؤشراً له دلالته في تقرير تطور الأمم لم يكن بعيداً عن هذا كله بل كان نتيجة رئيسية له بسبب انتشار التخلف والعزلة والفقر والفتن وحالة الحروب التي كانت لا تنتهي، وكانت الأدوية المتوفرة آنذاك بسيطة بساطة حياة الناس في الجزيرة العربية، فهي لم تكن تتعدى الحبة السوداء والمر والصبر والحلتيت والحلبة، وكانت العمليات الجراحية المتوفرة كعلاج للتخلص من الأعراض المرضية المختلفة تتمثل في الحجامة والكي، ولم تكن النظريات الغذائية التي أثبت العلم الحديث أن لها ارتباطاً وثيقاً بصحة الإنسان تتعدى النظرية الشهيرةالتمر مسامير الركب فهو العلاج الغذائي الذي ينصح به لكل الأمراض والعلل، كل ذلك في ظل تفشي الأمراض مثل السكري والسل والجدري والحصبة، ولذلك كان لطابع الحياة المرير الذي كان سائداً في الجزيرة العربية أثره على أسماء السنين، فهناك سنة للرحمة سميت بذلك لكثرة المتوفين من الأوبئة التي كانت تفتك بالناس، وهناك سنة للجوع سميت بذلك لأن الناس لم يجدوا فيها شيئاً ليأكلوه.
عل المستوى الديني المتمثل بالالتزام بالتعاليم الإسلامية التي ظهر شعاع عقيدتها الطاهرة من أرض الجزيرة العربية، كان لمرور الأيام وظروف الحياة القاسية وغياب سلطة مركزية أو شبه مركزية آثاره العكسية على تخلف الوعي الديني وظهور بعض الممارسات التي لا تتفق مع تعاليم الإسلام، ولم تكن هذه الممارسات واقعاً محلياً فقط بل كانت تعم العالم الإسلامي بأكمله.
***
(4)
كان لابد لحركة التاريخ أن تتغير بعد أن عانى الناس سنوات طويلة وسط الفتن والمحن والقلاقل والجوع والفقر، لذلك فإنه مع الاقتراب من سنة 1153ه 1740م ظهر في مدينة حريملاء بأواسط نجد مصلح ديني اسمه محمد بن عبدالوهاب، كان حريصاً منذ صغر سنه كما تقول الروايات التاريخية على السفر والترحال إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة والأحساء وغيرها من أماكن طلب العلم للتفقه في الدين، كما كان حرصه واضحاً في الاطلاع على كتب أهل العلم فكان يطلب الكتب ليستفيد منها في زيادة علمه وكان ملماً بمعظم أمور الشرع في عصره، ولذلك عندما استكمل الشيخ محمد بن عبدالوهاب دراساته ومنطقه وحججه دعا أمير إحدى القرى في نجد للدعوة السلفية التي استجاب لها هذا الأمير فترة قاربت الثلاث سنوات، ثم تلقى الإمام محمد بن سعود وابنه وولي عهده الإمام عبدالعزيز بن محمد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الدرعية سنة 1157 ه 1744م، فأكرموا وفادته ثم عقدوا معه البيعة على نصرة الإسلام بتعاليمه الصافية الخالدة وعلى نشر الدعوة السلفية السمحة، أي الإسلام بأنقى صوره تلك العقيدة التي تأخذ تعاليمها وأسسها من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وعقيدة السلف الصالح، حيث دعت الدولة السعودية الأولى وإمامها محمد بن سعود وشيخها محمد بن عبدالوهاب إلى فهم صحيح لتعاليم الإسلام، رغم أن هذه الدعوة ظهرت في أواخر قرون التخلف التي كانت تعم العالم الإسلامي بأكمله، حيث حملت تلك القرون تحريفات وتشويهات للعقيدة الإسلامية الصافية مثل تعظيم الأوثان والأشجار والتبرك بالقبور والاعتقاد بالأنبياء ومن اصطلح العامة على تسميتهم جهلاً بالأولياء وجعلهم وسائط بين المسلم وبين الله عز وجل، وجاء ظهور هذه الدولة السعودية التي اختارت عقيدة السلف الصالح مصطدماً بمؤسسات استفادت حينها من الوضع الديني القائم مثل الطرق الصوفية ومستثمري زيارة القبور وتجار إبراز القبور وتزيينها، وكانت أولى خطوات إصلاح الوضع الديني الذي هو أساس صلاح الناس واستقامة أحوالهم البدء في نشر الدعوة السلفية وما تبع ذلك من هدم للقباب التي أقيمت على بعض القبور وقطع الأشجار التي يتبرك بها الناس وإنقاذ حدود الله ثم نشر الوعي الديني المطلوب بين الناس عن طريق تعليمهم مبادىء دينهم ولغتهم العربية وقراءة القرآن الكريم وتفسيره واسترجاع سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إضافة إلى دراسة بعض الكتب في الفقه والتوحيد وما يعنيه كل ذلك من هجر العصبية والقبلية والفوضى والدمار والحروب والفتن التي كانت سائدة آنذاك إلى الدين الإسلامي بمبادئه وتسامحه ورحمته ومحبته حيث يعيش الناس في مجتمع جديد في قيمه ومسلكياته وعلاقاته، ولم يكن الشيخ محمد بن عبدالوهاب حين بدأ مهمته الدعوية يدعو إلى مذهب معين ولم يكن متكلماً أو متصوفاً أو درويشاً أو ادعى نفسه إماماً من الأئمة، بل كان مصلحاً دينياً ومجدداً عقيدته هي عقيدة السلف الصالح حيث جاء في ظل ظروف مأساوية فعقد البيعة مع الإمام محمد بن سعود على نصرة الإسلام ونشر الدعوة صلاحاً للدين والدنيا.
توفي الإمام محمد بن سعود رحمه الله سنة 1179 ه 1766م بعد أن حكم لمدة 40 سنة بدأت خلالها آثار نشر الدعوة الإسلامية الصحيحة والسليمة تؤتي أكلها، فأصبح أهل الجزيرة ينضمون لمبادئها تطهيراً لهم من العبث الذي هم فيه وعودة إلى التمسك بالدين الإسلامي الحنيف الذي انطلق شعاعه من أرضهم الطاهرة، وتولى الحكم بعده ابنه الإمام عبدالعزيز لمدة 38 سنة حيث توفي رحمه الله سنة 1218 ه 1804 م، ثم تولى الحكم بعده ابنه الإمام سعود الذي توفي رحمه الله سنة 1229 ه 1816 م، ثم بعد ذلك ابنه الإمام عبدالله الذي اعتقل سنة 1233 ه 1820 م بعد محاصرة الدرعية ودك حصونها بالمدافع بعد أن اجتاحت جحافل الغزاة أرجاء الجزيرة لاقتلاع هذه الدولة السعودية ومبادئها الإسلامية الصافية، فكان أن امتدت الدولة السعودية الأولى من الشام إلى حضرموت ومسقط، ومن الخليج العربي إلى البحر الأحمر، في جهاد متواصل لتوحيد الناس تحت راية واحدة وتحت ولاء واحد على أساس وحدة متينة أساسها العقيدة الإسلامية، وكان الناس المنضمون للدعوة المؤمنون بمبادئها والمجاهدون تحت رايتها كما وصفهم المؤرخ عبدالرحمن بن بشر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد يتكونون من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك .
***
(5)
لم يكن عبور أرض الجزيرة العربية بجيوش أرسلها الوالي العثماني على مصر محمد علي باشا وتحمل مجاهل الصحراء وأخطارها إلا نتيجة لبروز ردود فعل مضادة للدعوة السلفية ولهذا البيت السعودي الذي حمل رايتها، وكان رد الفعل هذا مصدره كل من تضرر من قيام الدولة الواحدة التي أعادت الأمن والأمان وأقامت الدين والدنيا سواء من زعماء محليين انتهى عهد استحصال أتاواتهم من سكان قراهم، وتبعهم في ذلك فئات كانت تستفيد من وضع التجزئة القديم الذي انتهى مع وضع الوحدة الجديد مثل تجار مزارات القبور وأصحاب الطرق الصوفية ومقاولي بناء مزارات الأولياء، وكذلك زعماء بعض القبائل الطامحين إلى دور مشابه لدورهم قبل قيام الدولة الواحدة التي أبطلت السلب والنهب وأقامت الأمن في عرض هذه الجزيرة وطولها وأمنت الطرق والسبل، إضافة إلى أن دخول القوات السعودية إلى مكة المكرمة وإلى المدينة المنورة شكل أمراً أقلق الوالي العثماني في اسنطبول الذي كان يهمه الولاء الإسلامي لهاتين المدينتين المقدستين والتي لولاهما لما كان يسمى بحامي حمى الحرمين.
بعد انتهاء الحملة الفرنسية على مصر 1798م 1801م وبين سنة 1220 ه 1805م إلى سنة 1240 ه 1825م استطاع محمد علي وهو ضابط ألباني أسس العائلة الخديوية أن يسيطر على ولاية مصر العثمانية بذبحه للمماليك وإبعاده للقيادات الوطنية المصرية، وكان لهذا الوالي الذي منحته الدولة العثمانية لقب باشا أطماعه التوسعية سواء في الحجاز أو في الشام أو جنوباً نحو السودان، وكان لابد له من أجل تحقيق ذلك أن يقدم أصناف الولاء إلى أسياده في اسطنبول الذين أصدروا له أمراً في سنة 1222 ه 1807م بالتوجه إلى الجزيرة العربية لإنهاء هذه الدولة السعودية الناشئة التي أثارت أخبارها الضجة والأمل والتفاؤل في العالم الإسلامي، وكان السعوديون قد دخلوا إلى مكة المكرمة سنة 1218 ه 1804 م بعد أن منعهم شريفها من الحج بسبب دعوتهم السلفية، فكان أن أرسل الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد رسالة إلى الخليفة العثماني، الذي كان يسمى آنذاك خاقان البحرين وسلطان البرين وحامي حمى الحرمين، حضرة صاحب الدولة والسعادة والعطوفة والرأفة، عالي الهمم، كريم الشيم، سلطاننا، أفندينا رسالة تخلو من عبارات الإطناب أو التزلف وتتسم بالعزة والبساطة، وكان نصها من سعود إلى سليم، أما بعد فقد دخلت مكة في الرابع من محرم سنة 1218 ه ، وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقاً، وثبت القاضي الذي وليته أنت طبقاً للشرع، فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء بالمحمل والطبول والزمور إلى هذا البلد المقدس فإن ذلك ليس من الدين في شيء، وعليك رحمة الله وبركاته ، ثم دخل السعوديون المدينة المنورة سنة 1220ه 1806 م حيث يقول في ذلك المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي أشهر علماء الأزهر انذاك في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار ولم يحدثوا بها حدثاً غير منع المنكرات وهدم القباب ما عدا قبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما يقول الجبرتي في كتابه عند ذلك أمنت السبل وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال ، ثم قامت القوات السعودية التي تحمل راية الدعوة السلفية بالجلاء بعد أن وصلتها أنباء الاستعدادات لضربها بحملة عسكرية، وذلك بعد أن وافق شريف مكة على الخضوع للدعوة السلفية البعيدة عن البدع على أساس، كما ذكر المؤرخ الجبرتي في كتابه،منع المنكرات والتجاهر بها وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى، وبين الصفا والمروة، وبالملازمة على الصلوات الجامعة ودفع الزكاة وترك لبس الحرير والمقصبات، وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا قد خرجوا على الحدود في ذلك حتى أن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة أو عشرة بقدر حاله، وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقدر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات، وعلى البائع وعلى المشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم فيكون الشخص من سائر الناس جالساً في داره فما يشعر على حين غفلة منه إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها ويقولون سيد الجميع أي الشريف محتاج إليها فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر، فتعهد الشريف على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص في التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة التابعون والأئمة المجتهدون ، ثم عندما لم يلتزم الشريف ببعض تعهداته منعت الدولة السعودية كل من يأتي للحج بالبدع والمنكرات التي لا تتلاءم مع هذه الشعيرة المقدسة، وفي ذلك يقول المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي الذي كان يقيم في القاهرة في ذكره لأحداث سنة 1223 ه 1809م، عما أشاعه محمد علي لتبرير حملته على الدولة السعودية من انقطاع بعض الحجاج بسبب منعهم من الحجوالحال ليس كذلك فإنه لم يمنع من الحج من أتى على الطريقة المشروعة، وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع مثل المحمل والطبول والزمر وحمل الأسلحة، وقد وصلت طائفة من الحجاج المغاربة وحجوا ورجعوا هذا العام وما قبله ولم يتعرض لهم أحد بشيء .
***
(6)
انطلق طوسون بن محمد علي باشا إلى ينبع سنة 1226 ه 1812 م قائداً لحملة عسكرية كبيرة جهزت بالمدافع والأسلحة المتطورة كان قوامها الروم الأتراك كما كان يسميهم المؤرخ ابن بشر، وضمت الحملة عدداً كبيراً من الأرناؤوط والبربر والترك كما يذكر المؤرخ الجبرتي فاستولت علىالمدينة المنورة سنة 1227م ثم مكة المكرمة سنة 1228 ه ، ثم انضم لها محمد علي باشا بنفسه قائداً لإمدادات جديدة عاد بعدها مباشرة إلى القاهرة، مرسلاً ابنه ابراهيم باشا سنة 1231ه محله على رأس حملة جديدة تمت مقاومتها ببسالة من القوات السعودية ولكنها حققت تقدماً في مسيرتها بفضل الأموال الوفيرة التي كانت تحملها، ثم بفضل الأسلحة الحديثة التي لم تكن تعرفها أرض الجزيرة وفرسان حربها، فكان لكل ذلك أثره في نجاح مسيرة الجيش الغازي في الأراضي السعودية ومحاصرته للقرى ودكها واحدة بعد الأخرى والتنكيل بأهلها وارتكاب المجازر الوحشية، فتوغلت الحملة إلى الطائف ورنية وبيشة وتربة ثم إلى الرس وعنيزة وشقراء وضرماء، وفي جمادى الأولى سنة 1233 ه وصل ابراهيم باشا إلى الدرعية محاصراً لها حيث واجهت وقاومت ببسالة رغم حصارها ودكها بالمدافع لمدة ستة أشهر، حيث اضطر الإمام عبدالله بن سعود إلى مفاوضة إبراهيم باشا، واتفقا كما يذكر المؤرخ عبدالرحمن بن بشر على ألا يضر أحد من سكان الدرعية وألا يخربها، فوعده بتلبية ما طلبه منه وكان ذلك في شهر ذي القعدة لسنة 1233 ه 1818م، فسلم نفسه هو وعدد كبير من أفراد الأسرة السعودية وعلماء الدعوة وفرسان فتوحاتها التوحيدية الذين بلغ عددهم كما ذكر المؤرخ الجبرتي الأربعمائة أرسلوا بأولادهم وأرسلوا إلى القاهرة، ثم أرسل الإمام عبدالله إلى اسطنبول حيث أعدم هناك رحمه الله، ثم قام الجيش الغازي بهدم الدرعية مخالفة للاتفاق وهدم أسوار القرى المهمة في طريق انسحابه ثم عاد إلى القاهرة في شهر صفر لسنة 1235ه 1820م، لتعود البلاد بعدها إلى حالة الفوضى والتشرذم والقلاقل حيث اختل الأمن وعادت الضغائن بين الناس نظراً لافتقاد سلطة مركزية قوية مثل تلك التي استمرت من سنة 1157 ه 1744م إلى سنة 1233 ه 1818م.
***
(7)
في سنة 1236 ه 1821م عاد إلى مرك ز الأحداث في الجزيرة العربية الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود حيث قابلته الجموع بالولاء والطاعة عندما فتح الرياض واتخذها قاعدة لحكمه، ولم تكن هذه العودة لتبعث الراحة في نفس الوالي العثماني محمد علي باشا الذي خاف من قيام دولة سعودية قوية تكون خطراً على أطماعه التوسعية، حيث أرسل جيشاً بقيادة حسين بك إلى نجد وانظم له في القصيم جيش آخر يقودهأبوش آغا حيث حاصرا الرياض، غير ان الإمام تركي بن عبدالله استطاع ان يهرب من الحصار الذي كان يهدف إلى اعتقاله متجهاً إلى مناطق جنوب نجد، واعقب ذلك فترة من القلاقل عاث فيها الجيش الغازي فساداً في البلاد مرتكباً الأعمال الوحشية مثل القتل والتعذيب ومصادرة الأموال، ثم انسحب الجيش الغازي تاركاً حاميات صغيرة في كل من الرياض، منفوحة، ثرمدا، عنيزة، وتجددت بعد انسحابه الاضطرابات المحلية والقلاقل والنزاع على السلطة، ثم وصل الإمام تركي إلى عرقة القريبة من الرياض سنة 1238ه 1823م لمواصلة جهاده ضد الجيش الغازي وحامياته، وهناك قدم إليه مؤيدوه من الوشم وسدير حيث قادهم ضد الحامية الموجودة في الرياض محاصراً لها، واستطاع في أواخر سنة 1239ه 1824م أن يطرد هذه الحامية بعد اتفاق على ان تجلو بأسلحتها وقواتها، فكان أن أقام الإمام تركي في شقراء لمدة شهر واحد مرت القافلة في نهايته أمامه في طريق رحيلها، وقدم إليه خلالها امير عنيزة الذي بايعه على الانضمام للدعوة السلفية في دولتها السعودية الثانية، ثم تم ترحيل كافة الحاميات، ووفدت عليه في الرياض وفود بلدان نجد كلها مبايعة على السمع والطاعة، وعاد إلى الرياض سنة 1240ه 1825م الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب من مصر حيث كان من ضمن من رحلوا إلى القاهرة، كما عاد من هناك سنة 1242ه 1827م إلامام فيصل بن تركي ليكون بجانب والده، وانضمت الأحساء في نفس السنة إلى الدولة السعودية وبدأت مسيرة الدولة تسير على خطى الدولة الأولى في نشر الأمن والأمان وإقامة الدين والدنيا.
سادت الفتنة والفوضى في أواخر سنة 1249ه 1834م إثر مقتل الإمام تركي بن عبدالله، غير ان الإمام فيصل بن تركي عاد إلى الرياض في أوائل سنة 1250ه 1834م بعد أن كان خارجها على رأس جيش مجاهد واستلم زمام الأمور، ليواجه حملتين عسكريتين أرسلهما محمد علي باشا إحداهما بقيادةإسماعيل بك والأخرى بقيادةخورشيد باشا وذلك في أوائل سنة 1253ه 1838م، حيث عاث الجيش الغازي فساداً في البلاد معتقلاً الإمام فيصل ومرسلاً إياه إلى محمد علي باشا في القاهرة، لتعود البلاد بعدها إلى حالة الاضطراب والفتن والقلاقل نتيجة لغياب سلطة مركزية تنظم أحوال العباد والبلاد، غير ان الإمام فيصل بن تركي ينجح في الهرب من القاهرة ليدخل الرياض في أوائل سنة 1259ه 1844م مستمراً في تأسيس الدولة ونشر الدعوة الإسلامية إلى أن توفاه الله في أواسط سنة 1282ه 1867م، ليبايع الناس ابنه الإمام عبدالله بن فيصل، غير ان الاضطرابات الداخلية والفتنة عادت إلى الظهور مرة أخرى، ثم عاد الإمام عبدالرحمن بن فيصل إلى الرياض سنة 1291ه 1875م حيث حل محل أخيه الإمام سعود بن فيصل الذي توفي خلال هذه الفترة ثم تنازل لأخيه الإمام عبدالله بن فيصل، غير ان الفتن والاضطرابات عادت إلى الظهور مرة أخرى حتى سنة 1307ه 1892م، ثم تلاه في سنة 1308ه دخول حاكم حائل إلى الرياض حيث خرج الإمام عبدالرحمن ومن معه من عائلته إلى المناطق الواقعة بين واحة يبرين وبين الأحساء ثم إلى البحرين فالكويت، فسادت الاضطرابات المحلية وتفشى الجوع والقلاقل والفتن نتيجة غياب سلطة مركزية، وكانت القاهرة حينها قد تخلصت من الحكم التركي لتسقط تحت الاحتلال البريطاني سنة 1298ه 1882م، وكان بطل التوحيد ومؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود قد ولد سنة 1293ه 1876م.
***
(8)
جاء الملك عبدالعزيز رحمه الله ليؤسس الدولة السعودية الثالثة ويقود الدعوة السلفية وسط أجواء محلية واقليمية ودولية صعبة بعدما ساد العالم بأسره فراغ روحي وانهيار لكل القيم والثوابت، حيث كانت المناطق العربية تقسم والثروات تجمع والمستعمرات تنهب عن طريق الحماية أو الاحتلال المباشر أو الانتداب الدولي، بحيث كشفت كل هذا الممارسات زيف كل ما يقال عن الحرية والإخاء والمساواة التي جاء يبشر بها المستعمر الغربي.
جاء هذا المؤسس البطل في المراحل الأخيرة من تصفية الدولة العثمانية التي تكالبت عليها القوى العظمى آنذاك روسيا، ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا، فرنسا واستولت على أراضيها تحت مسمى الاحتلال أو الانتداب أو السيطرة أو الحماية، وكانت أغلب الأقاليم العربية ترزح تحت الاحتلال، فسوريا ولبنان والجزائر وتونس سقطت تحت الاحتلال الفرنسي ، وفلسطين ومصر والسودان والعراق وإمارات الخليج وعدن تخضع إما للاحتلال أو للحماية أو للانتداب البريطاني في حين توغلت ايطاليا في ليبيا، وتقاسم أراضي المغرب كل من فرنسا واسبانيا، وكانت المملكة العربية السعودية التي أسسها ووضع لبناتها الملك عبدالعزيز رحمه الله الدولة العربية الوحيدة التي كانت تتمتع بالاستقلال المباشر دون حماية أو سيطرة أو وجود اجنبي، كما كانت المملكة التي أسسها البطل الموحد واحدة من خمس دول إسلامية كانت مستقلة آنذاك بالإضافة إلى اليمن وتركيا وإيران وافغانستان، بل انه حتى الثلاثينات من هذا القرن لم يكن يتمتع بالاستقلال من الدول العربية إلا المملكة واليمن.
حاول الملك عبدالعزيز أثناء وجوده في الكويت محاولته الأولى لاسترداد الرياض سنة 1318 ه 1901م وكاد أن ينجح ولكنه خرج من الرياض بسبب ما أفرزته نتيجة معركة الصريف بين أمير حائل وأمير الكويت من احتمالات، غير أن العزم لم يثنه عن أن يكرر المحاولة في السنة التي تليها مستعيداً حكم آبائه وأجداده في مسيرة توحيد سعودية لم يرفع خلالها هذا البطل الموحد راية انجليزية أو فرنسية او تركية بل رفع راية السعوديين التي لم تتغير خلال ثلاثة قرون وشعارها لا إله إلا الله محمد رسول الله ومنهجها عقيدة السلف الصالح لا يزيغ عنها إلا هالك.
غادر الملك عبدالعزيز الكويت في النصف الأول من سنة 1319 ه أواخر عام 1901 م وهو ش اب لم يتجاوز السادسة والعشرين ومعه رجاله متجهاً إلى الجهات الجنوبية الشرقية من نجد لكي لا يلفت الأنظار إلى تحركاته، ثم في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 1319 ه انطلق البطل المؤسس والموحد الملك عبدالعزيز إلى الرياض التي وصلها ليلة الخامس من شهر شوال، حيث وضع خطة محكمة مقسماً رجاله إلى ثلاث مجموعات ثم قاد المجموعة الأولى إلى أحد البيوت القريبة من المصمك حيث قضى فيها ليلته إلى شروق اليوم التالي، ثم هجم ومعه رجاله على المصمك في معركة كان لها أثر كبير في تغيير مجرى التاريخ، حيث نادى المنادي بأن الحكم لله ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بعد أن عاد عليه رحمة الله إلى قلب جزيرته موحداً يملؤه الفخر والعزيمة حيث توافدت الجموع بالولاء والطاعة وسارت خلفه لتوحيد الجزيرة العربية في إطار صلب ومتماسك وحد الغرب مع الشرق والشمال مع الجنوب.
بدأت المسيرة التوحيدية الضخمة للبطل المؤسس من الرياض سنة 1319 ه 1902 م واستمرت في جنوبي نجد سنة 1320 ه والوشم وسدير والمحمل والشعيب سنة 1321 ه ثم القصيم سنة 1326 ه والإحساء والقطيف سنة 1331 ه وتربه والخرمة سنة 1337 ه وحائل والقريات والجوف ووادي السرحان وتبوك وخيبر وتيماء سنة 1340 ه وعسير ونجران سنة 1341 ه والطائف ومكة المكرمة والليث والقنفذة ورابغ سنة 1343 ه والمدينة المنورة وجدة سنة 1344 ه وجازان سنة 1351ه ، لتكون النتيجة لؤلؤة جميلة اسمها المملكة العربية السعودية في وحدة صلبة أساسها الإسلام الذي شع شعاعه الطاهر من أرض الجزيرة وصلبها أهل الجزيرة العرب الأشاوس.
***
(9)
هذا العمل التوحيدي الضخم لم يكن انشودة اعلامية يرددها القائد الشجاع، بل كان أساس برنامج عمل متين لمشروع حضاري أحال المملكة العربية السعودية، تلك البقعة التي سادها الجوع والفقر والتخلف والمرض والفتن والقلاقل، إلى واحة مطمئنة مليئة بصخب البناء ورغد العيش والأمن والرخاء، في ورشة عمل ضخمة أحالت الصحاري إلى واحات تضج بحياة مطمئنة يحفها السلام والاطمئنان.
مسيرة التوحيد التي قادها البطل المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله وغفر له لم ترافقها اسقاطات ثورية غريبة ظللنا نشاهدها لدى غيرنا، ولم يكن اسلوبها شاذاً أو ممقوتاً أو مصحوباً بالمجازر أو بزوار الفجر، بل كان اسلوباً سلساً ومؤثراً وتجربة تاريخية لا تنسى، قامت ببناء الإنسان السعودي وبناء مؤسساته الحضارية دون التنازل عن مبادىء هذا الإنسان الأصيلة التي ظل متمسكاً بها رغم الخوف والفقر والجوع والمرض التي اندثرت جميعها باندثار التجزئة وقيام الوحدة، وفي هذا يقول فيلبي في كتابه العربية السعودية إن الجزيرة يسودها الآن سلام لم تعرفه طوال تاريخها، إذ يستطيع الإنسان ان يتجول فيها بسيارة أو بجمل دون مخاطر، وحتى الحجاز الذي كان أكثر المناطق مخافة وأخطاراً، أمن فيه الحجاج على حياتهم وأموالهم، ومع ذلك يصعب أن نرى قوات أمن أو شرطة مم ن اعت دن ا ع لى رؤيتهم في البلاد التي تتمتع بهذا الأمن .
كان للملك عبدالعزيز رحمه الله قدرته الفذة على معرفة الرجال والتعامل معهم، وتعامل بحكمة مع واقع وجود البريطانيين والأتراك في المنطقة دون أن يكون لهذا التعامل أثر على استقرار الدولة الناشئة وهو هدف عملت له هاتان الدولتان، ولعل الملك عبدالعزيز كان زعيماً مختلفاً عن الزعامات الثورية التي جاءت بعده في بعض البلدان العربية، حيث لم يكن يعرف الانتقام فكان فارساً في التوحيد وفارساً في الوحدة، أليس الملك عبدالعزيز هو من أصدر الأمر المنشور في الصحف السعودية بتاريخ 26/9/1371 ه أي بعد اثنين وخمسين عاماً من دخوله الرياض، الذي جاء نصه على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه، أن يتقدم إلينا بالشكوى، وأن يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا، وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا، ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي، وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه مهما تكن قيمتها، أو حاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها، أننا سنوقع عليه العقاب الشديد ، ثم أعقب رحمه الله هذا الأمر بتعميم للمشرفين على البريد جاء فيهكل شكاية ترفع لنا عن طريق البريد أو البرق، من أي شخص كان، يجب أن ترسل لنا بنصها، ولا يجوز تأخيرها، أو إخبار المشتكى منه سواء كان أميراً أو وزيراً أو أدنى من ذلك أو أكبر ، وهو الذي يقول عنه أمين الريحاني مؤلف كتاب ملوك العرب لقد قابلت أمراء العرب كلهم، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل في مصافحته وفي ابتسامته وفي كلامه وفي نظراته، رجل يعرف نفسه ويثق بعد الله بنفسه .
لم يكن ظهور الملك عبدالعزيز ومسيرته لتوحيد المملكة العربية السعودية في ظل ظروف عربية وإسلامية وعالمية مختلة خافياً عن العالم، وكان حرصه رحمه الله وسط هذه الظروف على مصلحة أمته العربية والإسلامية علامة بارزة، حيث بايع الملك عبدالعزيز وأقر بزعامته العديد من المسلمين مثل تلاميذ محمد عبده والأفغاني في العالم العربي وعشاق الخلافة الإسلامية من مسلمي الهند ومحمد علي جناح مؤسس باكستان وثوار ليبيا وقادة الحركة الإسلامية الفلسطينية المسلحة والوطنيين في سوريا والعراق، وأحرار العرب من كل جنسية، لما وجوده في الملك عبدالعزيز من حنكة ورأي ولما أمدهم من عون ومساعدة، ولعل أحد الأمثلة الكثيرة في هذا المجال هو أن أحد مستشاري الملك عبدالعزيزمحمد أسد كان يقوم بنقل الرسائل بين الزعماء الليبيين اللاجئين في المملكة وبين الشهيد عمر المختار خلال السنوات الأخيرة من المقاومة الليبية ضد المستعمر الأجنبي.
***
(10)
لم يكن البطل الموحد الملك عبدالعزيز زعيماً عشائرياً ولم يكن كفاحه ومسيرته لتوحيد المملكة يدفعهما حلمه بالسلطة، ولكنه كان كفاحاً لبناء المعطيات الحضارية للإنسان السعودي من إرساء المؤسسات ونشر التعليم وتنظيم شؤون الدولة المالية والإدارية والقضائية وإقامة الأمن والاطمئنان وإيجاد الفرص للناس من أجل الكسب الحلال، ولم يكن اسلوبه رحمه الله في الحكم اسلوباً غريباً على أهل الجزيرة العربية فهو لم يستمد اسلوبه من تجارب خارجية مستوردة بل استمده من منهاج تاريخي صحيح لبناء دولة عصرية تحافظ على دينها وعلى عروبتها وعلى مصالح أمتها المتمثلة في جعل مصلحة الوطن لها الاولوية على المصالح القبلية والمناطقية التي كانت سائدة قبل توحيده للمملكة، بحيث أصبح يحل محلها مصلحة التعاون والاندماج والتآخي مما ولد الانضباط المطلوب لبناء دولة عصرية تفرض النظام العام وتوفر التعليم والصحة وفرص العمل.
كان لاكتشاف البترول دور كبير في برنامج الملك عبدالعزيز الحضاري، حيث كان لاكتشافه أثر في توفر التمويل لبرنامج تنموي ناجح بدأ عليه رحمة الله بوضع لبناته قبل ذلك بفترة، إلا أن دخل البترول الذي بدأ يزداد أدى إلى دعم برنامج التنمية، حيث اكتشف البترول سنة 1355ه في أول بئر بإنتاج وصل إلى مائة برميل في اليوم وعلى أثره بدأ بناء ميناء الخبر بجانب قرية الدمام على الساحل الشرقي ثم اكتشف البترول بكميات تجارية سنة 1357ه ليتم تصدير الشحنة الأولى خارج المملكة سنة 1366ه ، ثم ارتفع الإنتاج إلى مائتي ألف برميل سنة 1367ه ، وبعد الانتهاء من إنشاء خط التابلاين سنة 1370ه ارتفع إنتاج المملكة إلى ستمائة ألف برميل، وكانت أول ميزانية رسمية للمملكة قد رصدت سنة 1368ه وقدرت وارداتها بإجمالي قدره 214,586,500 ريال.
على المستوى التنظيمي الإداري الذي يعتمد على المؤسسات المتخصصة، وعلى الأنظمة التي تنظم أحوال العباد والبلاد بما لا يخالف الشريعة الإسلامية، كان للملك عبدالعزيز رحمه الله اسهاماته العديدة، ففي سنة 1343ه صدر العدد الأول من جريدة أم القرى وهي الجريدة الرسمية للدولة، كما تم إنشاء مجلس للشورى، وتم الانتهاء كذلك من تنظيم إدارة البريد، كما أمر رحمه الله في العام الذي يليه بتجديد الحرم المكي وترميمه وتشكيل شرطة خاصة بالحرمين الشريفين، كما تم في سنة 1344ه إنشاء رئاسة للقضاء ومديرية للمعارف وإنشاء الجيش العربي السعودي وإنشاء إدارة للأمن العام باسم مديرية الشرطة العامة، وفي سنة 1345ه صدرت التعليمات الأساسية، وأنشئت مصلحة الصحة العامة، ثم تبعها في سنة 1346ه بناء مصنع لكسوة الكعبة، وإنشاء كتابة للعدل، وصدور نظام الموظفين، وتم كذلك إنشاء مجلس الوكلاء الموحد في السنة نفسها للإشراف على الوكالات والمديريات الحكومية المختلفة، كما تم إصدار نظام للنقد، كما تم في سنة 1349ه إنشاء وزارة الخارجية، وفي سنة 1351ه أنشئت وزارة المالية، وتم في سنة 1357ه صدور نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي، وفي سنة 1359ه تم ارساء أول نظام للرعاية الصحية، ثم بدأ عام 1360ه بزراعة 100 ألف نخلة في الخرج بعد جلب مضخات لاستخراج مياه الآبار.
ثم أنشئت وزارة للدفاع سنة 1363ه ، كما أنشئت مديرية عامة لشئون الحج في سنة 1365ه ، وفي العام الذي يليه تم انشاء الخطوط السعودية بأسطول ضم ثلاث طائرات من نوع داكوتا ، كما بدأ الاهتمام بالنشاط الزراعي بشكل مكثف بإنشاء مديرية الزراعة سنة 1367ه ، كما انطلق صوت الإذاعة السعودية لأول مرة في التاسع من ذي الحجة سنة 1368ه ، وشهد هذا العام كذلك افتتاح شبكة اللاسلكي بمحادثة بين الملك عبدالعزيز في الرياض والأمير فيصل في الطائف.
شهدت سنة 1369ه النقلة الأبرز في التعليم الجامعي السعودي حيث أنشئت كلية للشريعة في مكة المكرمة ثم بعدها بسنتين أنشئت كلية للشريعة في الرياض مما كون النواة لنهضة تعليمية عليا تضم حالياً العديد من الجامعات والكليات والمعاهد، وشهدت سنة 1370ه نقلة بارزة عندما تم إنشاء وزارة للداخلية، كما أنشئت وزارة الصحة للإشراف على كل ما يتعلق بالوضع الصحي بالمملكة، ثم شهدت سنة 1371ه النقلة الأبرز في استثمار عوائد البترول حيث اكتمل العمل في بناء أرصفة ميناءي جدة والدمام، وتم إنجاز خط للسكة الحديدية بين الرياض والدمام، كما استمر العمل في إنشاء مطارات المدينة المنورة والرياض وجدة والهفوف والطائف، وبدأ العمل في تشييد طرق من جدة إلى المدينة المنورة ومن مكة المكرمة إلى الطائف، وتم التعاقد على مشروع تحسين شبكة الاتصال اللاسلكي وتركيب مقسمات هاتفية في جدة ومكة المكرمة، كما بدأ العمل في كهربة مكة المكرمة والرياض وجدة والطائف والهفوف وفي إنشاء مقر جديد لجمرك جدة، كما أصدر الملك عبدالعزيز بعد ازدياد عوائد النفط أمره الكريم سنة 1371ه بإلغاء رسوم الحج تسهيلاً للحجاج، وتم كذلك إنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي، كما صدر تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية سنة 1372ه الذي تناول إجراءات التقاضي أمام المحاكم، وكانت سنة 1351ه قد شهدت صدور مرسوم ملكي كريم بتسمية البلاد بالمملكة العربية السعودية ابتداء من يوم الخميس 21/5/1351ه الموافق 22/9/1932م، وكان الأول من شهر صفر سنة 1373ه الموافق 10/10/1953م، قد شهد صدور مرسوم ملكي برقم 4288 يقضي بإنشاء مجلس للوزراء، أي قبل شهر من وفاة الملك عبدالعزيز.
توفي الملك عبدالعزيز رحمه الله وغفر له - في مدينة الطائف في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول سنة 1373ه الموافق للثامن من نوفمبر سنة 1953م، فتم نقل جثمانه إلى الرياض حيث صلى عليه ولي عهده الأمير سعود وافراد الأسرة المالكة الكريمة والعلماء والمواطنون ثم دفن في مقبرة العود، وبايع السعوديون بعدها الأمير سعود بن عبدالعزيز ملكاً للمملكة العربية السعودية، وهكذا غاب عن شمس الجزيرة وصحرائها وجبالها وهضابها ووديانها وتهامتها وسراتها فارس الحرب وفارس السلام، مؤسس البلاد وموحدها، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أدخله الله فسيح جناته وجزاه عنا خير الجزاء.
***
(11)
الإنسان السعودي إذاً كان لب التغيير وأساسه بهدف إعداد الكوادر البشرية اللازمة لدفع عجلة التنمية وضمان سلامتها، لذلك عاد هذا الإنسان العربي المسلم إلى ممارسة دوره الذي فقده برهة من الزمن، ولكن هذه العودة جاءت بشكل مختلف امتلأ بالعلم والخبرة لتبدأ عملية خلق التحولات في البناء الاقتصادي والاجتماعي في المملكة بطريقة ضمنت أمن الفرد واستقراره ونماء المجتمع وتطوره وازدهاره وصولاً إلى وقتنا الحاضر، الشباب السعودي هنا لم يحمل معه شهادات متقدمة في كل العلوم والفنون والآداب بل امتدت الشهادات ايضاً إلى الولاء والحب والتقدير والعرفان لهذا الوطن الجميل الذي تخفق في سمائه راية جليلة تعلوها شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الوحدة التي أرساها الملك عبدالعزيز بين أرجاء هذا الوطن السعودي الكبير هي الأساس في خلق التحولات التي حدثت للشعب السعودي، فلولا الله عز وجل ثم هذه الوحدة لكان الضعف والهلاك والتناحر هو السائد ولكانت التجزئة هي التجربة المهلكة لكل من يعيشها، حيث أزالت الدولة التي أسسها وقادها الملك عبدالعزيز الكيانات الصغيرة بتوحيدها في كيان وطن واحد كبير مما اعطى الأسس اللازمة للاستقرار والتنمية وبناء الوطن والمواطن، وفي هذا يقول الدكتور محمد جابر الانصاري وهو أحد كبار المفكرين العرب المعاصرين: ,,, كانت الأحساء التي هي الامتداد الشرقي للجزيرة العربية على شواطىء الخليج العربي مرشحة لأن تتجزأ إلى عدة إمارات او دويلات على غرار الإمارات الاخرى المجاورة لها في شرق الجزيرة والخليج، غير أن توحيد الملك عبدالعزيز لها مع نجد عصمها عن ذلك المصير، فلما اطمأن إلى سلامة جناحه الشرقي اتجه إلى عسير ثم اتجه غرباً إلى الحجاز، حيث تحققت الوحدة بين أهم منطقتين في جزيرة العرب حينذاك وهما الحجاز ونجد,,, وهكذا توحدت أربع مناطق عربية شاسعة المساحة كانت كل منطقة منها معرضة للتجزئة إلى دويلات وكيانات متعددة بمقياس ظاهرة التجزئة العربية الحديثة في الأقطار والأقاليم العربية الكبرى، ليبقى النموذج السعودي هو النموذج الأبرز للوحدة العربية الناجحة المستمرة في تاريخ العرب الحديث .
في هذه البقعة الطاهرة من العالم لم يكن الملك عبدالعزيز رحمه الله عندما أسس المملكة العربية السعودية يحتاج إلى الحديث عن الوحدة والحرية والاشتراكية، أو إلى استلهام الأفكار البعثية، أو إلى استيراد تجربة قومية أو تقدمية أو انقلابية، أو إلى التعامل مع أشكال وحدوية خارجية لتطبيقها على تجربة الوحدة السعودية، ولم يكن الإسلام الذي نادى به الملك عبدالعزيز والذي كان أساساً للدولة ومنهجاً لها إسلاماً غريباً أو مبتدعاً أو مليئاً بالأفكار المتطرفة، بل كان الشعار الذي رفعه الملك عبدالعزيز ورجاله الأوفياء هو شعار إسلامي منهجه عقيدة السلف الصالح والتزام منهج الجماعة والوحدة والتآخي والعيش في دولة واحدة تظللها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السعوديون عند بداية مشوار الوحدة بقيادة البطل المؤسس ثاروا على أوضاعهم المتخلفة وعلى تجزئتهم المهلكة فصنعوا أحلى نغم سياسي ظل يعزف في المنطقة العربية منذ أن فتح الملك عبدالعزيز مدينة الرياض في اليوم الخامس من شوال لسنة 1319ه الموافق الخامس عشر من يناير سنة 1902م.
لم يكن الملك عبدالعزيز ملكاً فقط، أو مؤسس مملكة، أو موحد أمة، أو رجل دولة، كان رحمه الله كل ذلك، ولكنه كان قبل ذلك بتأسيسه للمملكة العربية السعودية علماً من أعلام الأمة، ومكافحاً عن نهجها الحميد، وناشراً لمأثور علمها الصحيح المستقى من كتاب الله وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ومنهج السلف الصالح، وسائراً على منهجهم في الدفاع عن العقيدة الاسلامية الصافية, رحم الله الملك عبدالعزيز، وتغمده بواسع رضوانه، وأسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب.
|
|
|