اذا كان الشعر والجبن قد اقترنا عند اكثر الشعراء فإن الشعر العربي حافل بالاستثناءات في هذا المضمار، فهناك شعراء جمعوا بين الشعر والشجاعة ومنهم شاعرنا عمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد العبسي، وعروة بن الورد، وعمرو بن معديكرب، وغيرهم.
وعمرو بن كلثوم معدود في فتاك العرب، فحادثة عمرو بن هند ادخلته التاريخ، فشجاعته النادرة في مجلس الملك اثبتت رباطة جأشه وزعامته، اما الصفات الاخرى التي يتصف بها فكثيرة منها: إرث النسب الصريح من ناحية الاب والأم، وحسن المنطق في مجالس الملوك ، والصدارة في قومه، وخوضه الحروب ضد المناذرة، والغساسنة، وبني حنيفة، وباهلة، ومجد قبيلته مذكور مشهور، فتغلب هي رأس العرب في الجاهلية، وزعيمها كليب بن ربيعة التغلبي هو زعيم العرب العدنانية كافة، وقد قاد عرب الشمال في حرب عامة ضد عرب الجنوب، وعرف ذلك اليوم بيوم خزاز، ومهلهل التغلبي آلت اليه الزعامة بعد كليب، وبعد افتراق القبيلتين تغلب وبكر ودخولهما في حرب ضروس عرفت بحرب البسوس التي دامت اربعين عاما، كانت تغلب هي الطرف الاقوى في تلك الحرب, ولو سرنا مع زعماء تغلب الذين ذكرهم عمرو بن كلثوم في شعره، وافتخر بمجدهم، لطال بنا الحديث، ولكننا ذكرنا طرفا من اخبار القبيلة لنبين مجدها السابق، قبل ان يصبح عمرو بن كلثوم زعيما لها، فمجدها متتابع في غير انقطاع, ومجد الشاعر الشخصي مقرون بمجد قبيلته، فقد استمر رئيسا لقبيلته حتى توفي، ووفاته كانت بسبب حرب خاضها ضد بني حنيفة من بكر، فقد خاض عمرو بن كلثوم تلك الحرب، وقد تقدمت به السن، فتقدم اليه يزيد بن عمرو، من بني قران من حنيفة فطعنه برمحه حتى صرعه عن فرسه، ثم اسره واتجه به الى حجر (الرياض الحالية) وفي الطريق قرنه بناقة وتركه يمشي فصاح عمرو (أمثلة يا آل بكر) فقال يزيد بن عمرو: ألست القائل:
متى نعقد قرينتنا بحبل نجذ الحبل او نَقصِ القرينا |
ولكن يزيد تراجع بعد ذلك، وحمله الى حجر، واسكنه في قصر من قصورها، وقد توفي عمرو بن كلثوم في حجر الرياض على اثر المعركة المذكورة, ومن المعروف ان مساكن بكر وتغلب اليمامة، ولكن علقمة بن سيف التغلبي نزح بأكثر تغلب وأنزلهم الجزيرة الفراتية، وبقيت بقية تغلب في مساكنهم في اليمامة، فوادي أُراط المعروف بسدير من ارض اليمامة كان محمية لتغلب، وكانت القبيلة تجمع إبلها فيه في وقت الخوف والحروب ، يقول عمرو بن كلثوم:
ونحن الحابسون بذي أُراطٍ تسفُّ الجلّة الخُورَ الدَّرينا |
واليمامة وان نزحت عنها قبيلة تغلب فلاتزال القبيلة على اتصال بها فبها بقيتهم، وبها ابناء عمهم من قبائل بكر المختلفة ولذلك يرد ذكرها في شعر عمرو بن كلثوم في اكثر من موضع مثل قوله:
واعرضت اليمامة واشمخرت كأسياف بأيدي مصلتينا |
وقد تواصل سكنى قبيلة بكر في اليمامة منذ زمن عمرو بن كلثوم الى يومنا هذا، فبنو حنيفة يقطنون الوادي المعروف بهم وهم من بكر ولا تزال الاسر المنتسبة الى بكر تقطن مدن اليمامة وقراها وعلى رأس الاسر الاسرة السعودية الكريمة كما اشار الى ذلك صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز.
ومن القرى التي تحمل اسماء قبائل من بكر سدوس، فقد كانت لبني سدوس من شيبان من بكر، وقران (القرينة) فهي لبني قران من حنيفة عن بكر، و(الضبيعة) في الخرج فهي لبني ضبيعة من بكر.
ونخلص الى القول بأن ورود اليمامة في اشعار عمرو بن كلثوم ليس مستغربا سواء كان ذلك باسمها الجامع لها او بأسماء أوديتها وقراها، فهي بلادهم في القديم، وهي بلاد ابناء عمهم بكر في زمن الشاعر، وفي العصور التالية الى يومنا هذا.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل