هناك أدوية فعالة للرهاب والاكتئاب غير القياسي (وقد قل استعمالها بشكل كبير بعد ظهور الاجيال الجديدة من الادوية) المهم ان تلك الادوية كانت تتطلب حمية من نوع ما إلى ما بعد إيقاف تعاطي تلك الادوية بأسبوعين، لأن تناول اطعمة معينة يؤدي إلى ازمة صحية شديدة,، والاطعمة المحظورة تخلو منها المائدة الشعبية السعودية ومنها جبنة الكوتيج وقشور الفاصوليا العريضة,, ولكن لابد من تحذير المراجع واعطائه قائمة بالاطعمة التي يجب ان يتجنبها.
ومن خبرتي في المستشفى لم أقم بوصف تلك الادوية إلا مرات معدودة، والسبب ان المراجع يأتيني بعد أسبوعين ليقول: انه تناول الدواء لمدة يومين ثم توقف! لماذا؟ لأنه لا يريد تجنب تلك الاطعمة مع اني استطيع ان اقسم ان معظهم لم يأكل الكوتيج تسيز في حياته.
بالمقابل حدث منذ سنوات ان شحت تلك الادوية وفوجئت بعدد من المراجعين يأتون تباعا ويحملون وصفات من عيادة خاصة، ويريدون صرف الادوية من صيدلية المستشفى وكانت ادارة المستشفى تتعاون في هذا الامر وتأمر بصرف الادوية لهم بالرغم من الا احقية لهم بالعلاج بالمستشفى ولكن انطلاقا من ألا ينقطع اولئك عن تناول ادويتهم.
وسألت الطبيب الصديق في العيادة الخاصة التي قدم منها حاملو الوصفات عن الأمر, وذهلت عندما عرفت ان مراجعيه ممن يتناولون تلك الادوية يشكلون عددا كبيرا!!
دائماً ما أتذكر هذا الموقف وتذكرته عندما كثر الحديث حول التأمين الصحي وبدء تطبيقه على المقيمين والنية في تطبيقه على السعوديين خلال عدة سنوات.
غالبني كثير من الحماس لموضوع التأمين الصحي لعدة اسباب منها أن انياب شركات التأمين ستحد من الممارسات الطبية الخاطئة، ومن جشع عدد من المنشآت الطبية الخاصة التي تمتص دم المريض بفحوص واختبارات وتحويلات الى اطباء آخرين بلا داع سوى استنزاف ما في جيبه,, والثاني ان التأمين الصحي سيشكل نوعا من التكافل حيث أتوقع ان يدفع المشترك نسبة من دخله، وبذلك سيتساعد من دخله عشرة آلاف ريال في الشهر، مع من دخله ألف ريال في الشهر وقد يؤجر المرء رغم أنفه, اما الثالث وهو ذو العلاقة بالمقدمة، ان دلع المراجع الذي يتعامل مع صيدلية المستشفى الحكومي على انها بقالة سبيل مجانية سيقل والشاهد على ذلك اختلاف تعامل المراجعين مع تلك الادوية المذكورة اعلاه,, فإذا دفع المرء من جيبه لشراء الدواء فلن يتخلى عنه ما لم تكن هناك آثار سلبية قوية, اما إذا اخذه مجانا فسيكون الخوف من الكوتيج تشيز اكبر من الرغبة في الشفاء والحرص وصيدلية المستشفى مفتوحة والله يعز الحكومة اللي ما قصرت، وانت يالطبيب تراك منتب دافع من جيبك شي .
واحقاقا للحق لم اطلع على نظام التأمين الصحي ولا على تفاصيله وبحسب ما عرفته، ما هو الا اجبار على تطبيق بوالص التأمين الصحي المعمولة بها حاليا والتي تستثني بعض الامور باعتبارها جمالية وتستثني الطب النفسي!! ولا أدري ما العلة في ذلك؟
هل الاضطرابات النفسية ترف؟ أم ان الطب النفسي جزء من المانيكير والبوديكير ؟
لقد رأيت بأم عيني امرأة تشكو من الوسواس القهري ويتكلف علاجها 600 ريال شهريا ربما بضعة اشهر وزوجها (سعودي) يشتغل عاملا في مصنع وراتبه دخله الوحيد، اما مرتبه فهو ثلاثة آلاف ريال في الشهر ويذهب ما دون النصف بقليل قسط للسيارة, ذلك الزوج مشمول هو وأسرته بتأمين صحي طبقا لنظام الشركة ولكن بوليصة التأمين تستثني الطب النفسي,, وكتب الطبيب المعالج خطابا الى مدير الشركة يشرح فيها حالة المريضة ويطلب منه التعاون في دفع ثمن الادوية وتقوم العيادة بمتابعة حالتها مجانا (أو بتخفيض كبير، لا أذكر) ولم يحدث شيء فالبوليصة هي البوليصة والوسواس القهري مثل العدسات الملونة وصنفرة البشرة (والاسم موجود بحوزتي لمن يرغب في المساعدة).
لكن الحل ليس في التبرع والمساعدة، وإذا تمكن ذلك الطبيب في تلك العيادة من اعفاء المريضة من الرسوم فلن يتمكن من فعل هذا لكل المحتاجين.
قد يقول احدهم بكل أدب العفو، الطب النفسي ليس جماليا، ولكن مكلف، ولذا نستثنيه من بوالصنا وهذا قول مرسل لا يقبل على علاته, هناك في الامراض الجسدية امراض خطيرة وأخرى مزمنة وكثير منها مكلف, خصوصا اذا عرفنا انه ظهرت اجيال جديدة من الادوية بدءا من اوائل التسعينيات وسيتوالى ظهورها وكلها غالية لانها جديدة وأقل اعراضا جانبية وربما اكثر فاعلية.
وفي الطب النفسي هناك اضطرابات خفيفة وأخرى مزمنة وغيرها بين بين والادوية النفسية الحديثة غالية الثمن مثلها مثل الادوية الحديثة للعظام والجهاز التنفسي والمضادات الحيوية، ولو طالعنا ميزانية صيدلية اي مستشفى حكومي سنجد ان جزءاً كبيرا منها يذهب إلى ادوية البرد والكحة وهي ادوية رخيصة نسبيا.
وأمرٌ آخر، أنا على ثقة تشبه اليقين، لو ان لجنة محايدة فحصت السجلات الطبية لموظفي شركة خاصة تطبق التأمين الصحي لوجدت عدداً كبيراً (أقدره بما لا يقل عن 25%) منهم أجريت له فحوصات مكلفة من قسطرة للشرايين وأشعة مقطعية للعمود الفقري ومناظير للمعدة والامعاء وخزعات للكبد وتحويل من طبيب لآخر لأسباب حقيقية هي وجود علة ظاهرة ولكن سببها اضطراب نفسي مقنع وراء تلك الاعراض!! وبذلك سيكون الخاسر ثلاثة اطراف شركة التأمين التي دفعت مبالغ كبيرة، وجهة العمل التي قلت انتاجية موظفها وتغيب عن العمل بسبب المرض والمراجعات، والموظف نفسه الذي تحول اضطرابه الى مزمن, وكل العلل والامراض والاضطرابات تكون اقل استجابة للعلاج عندما تتحول الى مزمنة ناهيكم عن ظهور اضطرابات ثانوية بسبب الاضطراب الاولي.
ومهما يكن الامر، فالموضوع انساني بالدرجة الاولى وليس هناك من سبب يجيز استثناء الاضطرابات النفسية في بوالص التأمين، فالصحة واحدة لا تتجزأ، كما أن الجسد والنفس في النهاية انسان واحد.
حتى ولو افترضنا جدلا ان العلاج النفسي سواء بالادوية او بدونها مكلف فليس هذا بحائل دون الوصول إلى حل يحمي كل الاطراف.
إني اهيب بمشرعي التأمين الصحي ان يعيدوا النظر في هذا الامر ويجبروا عثرات النظام الحالي، ومن ذا الذي يقول: ان فشل القلب اهون من الفصام وأقل كلفة؟ ومن ذا الذي يقول: ان البلهارسيا جديرة بالاهتمام والرعاية اكثر من الوسواس القهري، والله من وراء القصد!
د, فهد سعود اليحيا