لما هو آتٍ من يأكل حذاءه؟ د, خيرية إبراهيم السقاف |
كان التأريخ,, مرجعاً وثائقياً لكل الأمور الهامة، والفاعلة في شؤون التغيير ، بالإضافة، أو التبديل، أو الاكتشاف، أو الاختراع، أو البروز، أو التفوق، أو,,, أي فعلٍ يؤدي إلى جديد غير مألوف وله أثره الواضح، وبَصمَتُه المميزة.
لذلك كانت بوَّاباته مُغلَقةً دون الكلِّ ، وممكنةً أمام القلَّة ,,, فما دخل التأريخ بناءً على هذا إلاَّ من مَلَكَ مفاتيحه، ممن أعمل عقله، وقدراته المختلفة، فابتكر، أو اكتشف، أو اخترع، أو غيَّر، أو أضاف، أو قاد,,, أو فعل أيَّ فعلٍ متميز بَصَمَ اسمه,,, فكان ممن ُشكِّل التاريخ بناءً على دوره,,.
ثمَّ أصبح التأريخ,,, خليطاً غير وثائقي لأي الأمور غير الهامة، وغير الفاعلة في شؤون التغيير ، بل بدت بوّاباته مفتوحة على مصاريعها، بل فاقدة لمفاتيحها,,, وهرع كلُّ من يشاء إلى الدخول عن هذه البوّابات,,, فاختلط المُجدي بغير النافع، والصالح بالطالح، والعامل بالمدَّعي، والمكتَشِف بالمزَيِّف، والأصيل بالدخيل، واللامع بالمُطفَأ، والصحيح بالخطأ، والصدق بالكذب، والمؤثِّر بغير ذي التأثير,,.
لذلك امتلأت أنهار الصحف، وعجّت برامج المذياع، وازدحمت أحداث المرئيات بكل نبأ لايضيف، وبكل خبر لايجذب، وبكل مايثير الحيرة أحياناً، والتساؤل عن الجدوى في أُخر،,,.
فمِن الذين تسابقوا وتناكبوا إلى بوّابات التاريخ من يأكل الآيسكريم، ومن يتذوق التراب، ومن يقضُم الحديد، ومن يزيد وزنه عن مئات الكيلوجرامات، ومن تقتلُ زوجها، ومن يتزوج أمه، ومن يوَرِّث كلبه، ومن تلِد في أية مركبة فضائية أو بحرية أو برية,,,، و,,, لم يبق إلا أن يدخل التاريخ من يأكل حذاءه!!
ولو بقي من البشر شخصٌ واحدٌ يستحق الدخول إلى التأريخ فلا أحسب أن شخصاً يستحق ذلك بمثل ما يستحقه من يأكل حذاءه,,.
ولعل هذا الاستحقاق له مبرراته,,,:
فلأن وسائل الاتصال كثُرت، وتيسرت، فإن استخدامها يختصرها، ويُزحمها في آنٍ واحد,,.
وهو إن استخدم قدميه في السير، فإنه يوفّر مكاناً للمضطر ولمن يحتاج إلى اسخدامها,,, وفي هذا حسنة,,, وسابقة سلوكية نادرة في أخلاقيات العصر.
ولأن المسافات تباعدت، وطالت بين موقع وآخر في الحي الواحد، وبين الأحياء الأكثر,,,، بل في الموقع الواحد، الذي امتدت مسافاته ومساحاته ليس أفقياً بل عمودياً على حدٍ سواء، فإن هو نهب هذه المساحات والمسافات مرتدياً حذاءه دون استخدام وسائل التنقل فإنه يُخضعُه للإجهاد والاستهلاك فيما هو يسجِّل عليه بصمات المواقع التي مرَّ بها، مما يزيد في قيمته الوثائقية,,,، وفي هذا المسلك أمور: أنه ممن يؤثرون على أنفسهم ويضحُّون بممتلكاتهم، ولو كانت به حاجة، وهو مسلك يندر في أخلاقيات العصر الذي وفَّرَ مايوفِّرُ، وسخّر ماييسّر للإنسان أن يكون أنانياً مطلقاً,,,، والأمر الآخر أنه حوَّل كل جزئيَّة من باطن حذائه إلى سجلٍّ وثائقي ببصمات المواقع، وهو أمر يدخل ضمن حاجات العصر للتوثيق، لفوائد التأريخ!!,,, إلى جانب أنه قد أفاد نفسه بالنشاط والحيوية، ولم يخسر إلا شيئا من الزمن الذي كان بإمكانه اختصاره فيما لو لم يفعل,,.
ولأن الناس تعودت الاعتماد على كل الوسائل المتاحة لاستغلالها في صالحها، ولتوفير مايحفظ قرشها فإنه بهذا الاستهلاك لحذائه، يستهلك أيضاً خزينته إذ هو يحتاج دوماً إلى شراء أحذية أخرى بديلة,,, لكنه رجل ذكي، إذ فيما يستهلك أحذية كثيرة، ويخسر شيئاً من ماله، وأيضا من وقته في سيره، إلاّ أنه يستطيع أن يؤكد أنه يقتني تأريخاً دقيقاً لبصمة كل يوم جديد تتغير فيه أوجه المسافات والمساحات، وبصمات العابرين، والآثار التي يتركها كل عابر من هواء وصوت ونور وصدى على المواقع التي يمر بها,,, ومن بشر.
ولأن الناس تعودت أن تتقزز من منظر الأحذية القديمة المهترئة,,,، فإنه يخشى أن تُرمى أحذيته بكل قيمتها التوثيقية التأريخية,,,، في غفلة منه، أو بعد رحيله، فإنه يجد من الأجدى أن يأكل أحذيته ويخبىء في باطنه كل الذي وُثِّقَ فيها.
ألا يحق لهذا الذي يأكل حذاءه أن يدخل من بوّابات التأريخ العريضة والطويلة والسميكة ويملك مفاتيحها؟!,,, فضلاً عن دخول من عطس فسجل التأريخ عطسته ؟!.
فهو على الأقل حفظ التأريخ في جوفه، ولم يطلقه ذرات في الهواء!!
|
|
|