الاستثمار في البحث العلمي د, عبدالعزيز علي الخضيري |
يظل السؤال الرئيسي المطروح في أي بلد عربي أو إسلامي يرتكز على استجلاء الاسباب التي دفعت بدول كثيرة كاليابان وأمريكا ودول أوروبا إلى تبوّء القمة بينما تراجعت اغلب تلك الدول, كيف وجدت الثروة طريقها إلى خزائن الدول الغنية وكيف انعكس ذلك إيجابيا على كل النشاطات البشرية، في الصحة وبرامج التعليم وخدمات الطرق والاتصالات وغيرها؟ وقد يجد البعض ان الأمر يدعو للحزن إذا ماعلمنا أن مجموع الناتج المحلي لجميع الدول الخمس والخمسين، الاعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي هو 1150 مليار دولار أمريكي بينما يبلغ الناتج الوطني الإجمالي لفرنسا مثلا 1500 مليار دولار ولألمانيا 2400 مليار دولار ولليابان 5100 مليار دولار أمريكي! (1) .
ويبدو أن اليابان على وجه التحديد قد تخطت كل التوقعات، واصبحت في عالم اليوم شاهدا على النجاح الصعب الذي لم يدركه الآخرون, فإذا حاولنا الوصول إلى سبب مقنع يرتكز على المعطيات الجغرافية والجيولوجية، لم نجد مايدعو للتفاؤل في كل الجزر اليابانية حيث لايوجد مايمكن بيعه للآخرين، فالمنطقة من أفقر مناطق العالم بالخامات الطبيعية، هي ربما افقر من سيراليون او زائير على سبيل المثال.
أما مايجعل اليابان متفوقة فهو قدرتها على التطوير وتقديم مخترعات ومنتحات تجارية جيدة ذات صفة احتكارية حيث يتم في هذا البلد تسجيل اكبر عدد من براءات الاختراع في العالم, ومثل هذه القدرة لم تكن لتتحقق بغير الاستثمار في قطاعات البحث العلمي والتطوير التقني في مؤسسات البحث العلمي.
والبعض في العالم العربي سواء كان المسئول أم المواطن الذي يترقب كل خطوة إلى الأمام، لايستطيع أن يدرك مدى النفع الذي يعود به الاستثمار في قطاعات البحث العلمي في الوقت الذي تتمثل فيه امامنا منتجات واختراعات لاحصر لها في نتاج البحث والتطوير كالأجهزة الإلكترونية والحاسوبية وأجهزة الاتصال ووسائل النقل وكل الأجهزة الطبية والأدوية وغيرها في قائمة لاتنتهي, ومثل هذه المنتجات هي الثروة التي تمتلىء بسببها خزائن اليابان وأمريكا واوروبا بمليارات الدولارات.
وعندما يصبح الاستثمار في قطاع البحث العلمي والتطوير التقني مجديا من الناحية الاقتصادية فإن التمويل الحقيقي لهذا القطاع لايقع علىكاهل الحكومات وحدها ولكنها مهمة يشترك بها كل من القطاعين العام والخاص، بل إن القطاع الخاص يجد نفسه مدفوعا لاغتنام الفرصة, العملية في نهاية المطاف اشبه ماتكون بدائرة ليس لها طرف تتميز بزيادة حجم الدخل وافتتاح مراكز بحثية عديدة واستيعاب اعداد كبيرة من العاملين.
وهل يعني مفهومنا هذا ان الاستثمار في قطاع البحث العلمي والتطوير التقني مباشر المنفعة، بمعنى انه اشبه بخطوط الانتاج, الحقيقة هي انه استثمار غير مباشر لاينصب في حدود تطوير المنتجات او مايقع تحت مظلة الابحاث التطبيقية.
والواقع هو ان الاختراعات الحديثة علىاختلافها لم تكن نتاجا حقيقيا مباشرا للبحث العلمي التطبيقي إنما جاءت كنتيجة غير مباشرة لمجموعة كبيرة من الابحاث العلمية الاساسية, وعلى سبيل المثال لم تكن الاختراعات الحديثة في قطاع الهندسة الوراثية والتكنولوجيا نتاجا مباشرا للأبحاث العلمية وإنما تطلب الامر فترة من الزمن حاول فيها العلماء فهم اسرار مركب الحياة (DNA) الموجود في كل خلية من خلايا الكائن الحي وانتهت جملة الابحاث الاسياسية بالكشف عن التركيب الأساسي لهذا المركب وعدد كبير من الإنزيمات القادرة على قصه ولصقه وتعديله, وكان نتائج كل هذا النجاح في الابحاث الأساسية تطوير منتجات حيوية بما فيها بكتيريا معالجة التلوث وبكتيريا إنتاج الأنسولين وأنظمة مكافحة الامراض وزيادة معدلات الإنتاج الحيواني والنباتي، وهي مايدر مليارات الدولارات في امريكا واوربا, وهكذا نرى ان الحاجة التي دفعت العلماء إلى دراسة المواد الوراثية لم تكن ترمي في يوم من الايام الى اختراع منتجات حيوية وإنما كان الاختراع نتيجة حتمية لجملة من الاكتشاف الأساسية, ولذا فإن تدعيم الأبحاث في المجالات كافة في بلادنا العربية والإسلامية لابد وان ينصب على الجوانب الأساسية والتطبيقية.
ومع هذا فإن المتوفر في البنية التحتية في قطاعات البحث العلمي العربية والاسلامية لايدعو للتشاؤم في كل الاحوال, نظرة فاحصة ومنصفة تجعلنا نقر بوجود العقول القادرة على ادارة وتشغيل هذه القطاعات وتجعلنا نقر ايضا بتوفر المنشآت والتجهيزات اللازمة لمنظومة البحث العلمي.
ولعلنا لانحتاج في كل الاحوال إلا لإعادة ترتيب وتفعيل مفردات البحث العلمي, نحن بحاجة ماسة لتحديد اولويات البحث العلمي من خلال اللقاءات والمنتديات العلمية وتنشيط القطاعين العام والخاص لتقديم الدعم المالي المطلوب وتوفير انظمة تدريب ومتابعة فاعلة, وفوق هذا وذلك نحن بحاجة ماسة لممارسة دور إعلامي فاعل لإخراج البحث العلمي من غيبوبته المزمنة.
(1) جميل، عطاء الرحمن العلوم والتقنية متطلب حتمي للتنمية الوطنية المستدامة ندوة تخطيط وإدارة البحوث (1419ه) مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، الرياض.
|
|
|