راء، عين، تاء، عين أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري |
رومانسية فنية:
أُطلقَ على أفلام القرن المنصرم سينما أبيض وأسود، وكان الرجل الوقور المبتلى بحب الفن في شرقنا العربي الإسلامي يشاهد الأفلام على خُفية، ولا يشاركه في المشاهدة إلا من يأنس له ويأمن جانبه من كاتمي السر، ولا يتظاهر بثقافته الفنية.
ومن يطلع على مقدمة ما لم ينشر من كتابي هكذا علمني ورد زورث يرى ما عانيته من مجتمعي وانا محسوب على رجال العلم الشرعي من ثقافتي في الأفلام!!.
وَمَن عشق الصورة يومها كان عشقه رومانسياً عذرياً، وكان أردأ أحواله أن يصدق عليه قول الله سبحانه وتعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم سورة التوبة/102 .
قال أبو عبدالرحمن: وبعد الأسود والأبيض رأيت فجاجة ووحشة يفر منها أضعف المسلمين إيماناً مع قبح فني، فهناك أصباغ، وعرض أزياء وقسمات، وكلمات غنائية تافهة قصيرة لا تحرك وجداناً، ولا تخلِب عقلاً,, وكثر الإمساس حتى عُدم الإحساس,, ثم أُتخمت الشاشة بأحداث قبيحة لا تعرفها مجتمعاتنا,, ولم يعد في هذه الأصباغ والإباحية ما يضحك أو يبكي أو يؤلف حُرقة رومانسية أو إجهاشة عذرية,, وليس في النهاية عبرة,, وكان فيلم أسود وأبيض يهذب الذائقة الأدبية فنياً، ويسمو بسلوكه,, يضحك بملء شدقيه مع أمثال نجيب الريحاني أو المدبولي، ويحن لنبرة العرب الفصحاء إن سمع يوسف وهبي متحدثاً أو ابن عبدالوهاب شادياً,, ومهما كانت رخاوة الرواد من أجيال أبيض وأسود بمقياس الجادِّين من أهل زمانهم فهم لم ينفصلوا عن الجذور، ولم يجرحوا المشاعر الاجتماعية كما نجده في قبح الأصباغ الراهن,, تتسلسل الأحداث، وتأتي الحبكة والعقدة والنهاية الحل بانتصار المبادىء الخيرة، والانتصار على الرذيلة,, وتطرب للأداء عبقريةَ كلمة، وعبقريةَ لحن، وعبقرية صوت بشري,, وتغادر الشاشة منذ السينما على الحائط إلى شاشة التلفاز وأنت في انفعال مع المشهد كأنك تتعامل مع الواقع، وقد كسبتَ طعم نكتة، وألق فكرة، وعذوبة نبرة لغوية، وحلاوة إنشاد أو غناء,, إنني أنعي على أبناء هذا القرن السامج رومانسيتي الفنية، ولا أغبطهم على قبح فني تعيشه أفلام وأنغام الأصباغ والميوعة والفراغ من العبقرية أدباً وفناً.
***
العرب، والتقسيم الثنائي:
مشى أناس مع أساطير الوضاعين والكذابين وأوهام النقل عن أهل الكتاب، فجعلوا قبائل قحطان من ذرية هود عليه السلام، وقبائل عدنان من ذرية إسماعيل عليه السلام,, وغفلوا عن ضرورات النصوص الشرعية، وتحقيق النسابين من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وهم أهل العلم حقيقة ,, وحسَّر آخرون غاية التحسير، وانساقوا وراء الأوهام وشهوات الإغراب والتجديد، فقالوا: لا قحطان، ولا عدنان!!.
ولا أزال أعد بكتابي الفحل الذي لا يزال في اللمسات الأخيرة ، وهو العرب نسباً وشرفاً، فقد جاء بفضل الله ببرد اليقين,, ويهمني هاهنا في هذه العجالة تنبيه أشباه العوام وأنصاف المثقفين الذين أقحموا أنفسهم في علم الأنساب بغير أدوات علمية كافية عندما جروا على التقسيم الثلاثي: العرب البائدة كعاد وثمود، والعرب العاربة وهي قحطان، والعرب المستعربة وهي عدنان.
قال أبو عبدالرحمن: هذا وهم شنيع، بل القسمة ثنائية لا ثلاثية، ولكل قسم صفتان:
القسم الاول له صفتا العرب البائدة والعاربة، والقسم الثاني له صفة الباقية والمستعربة.
القسم الاول كعاد وثمود، والقسم الثاني عدنان وقحطان، وكلاهما من ذرية إسماعيل الذبيح ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكلاهما مستعرب، لأنهم أخذوا لغتهم عن العرب العاربة.
وجرهم القحطانية الحديثة غير جرهم الأولى البائدة، والعدنانيون بقوا في جزيرتهم، فلم يحصل للغتهم جرش يلاشي هويتها، وهيأ الله لها قرنين قبل الإسلام لتبلغ ذروة الفصاحة والعبقرية في اللهجتين الحجازية والنجدية.
وبنو قحطان الإسماعيليون رحلوا إلى اليمن، وأندمجوا في حضارات قبلهم كالمعينيين، وانضوى إليهم خليط إفريقي، فحصل للغتهم جرش حتى أقسم فصيح العدنانية أن لغة حمير ليست لغتنا.
***
التوبة النصوح:
إنما تكون التوبة الصادقة النصوح حال عالم الغيب قبل الابتداء في الانتقال إلى عالم الشهادة وهو يشعر أن أمامه مهلة للعمل الصالح، ولهذا لا تقبل التوبة عند طلوع الشمس من مغربها، فقد أصبح الناس أمام عالم الشهادة,, قال تعالى: ,,, يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل,,, سورة الأنعام /158 ,, ولا تقبل توبة قوم انذرهم نبيهم بعذاب الله وحدد لهم أجلاً اذا لم تحصل التوبة إلا عند معاينة العذاب، لأن العالم عالم شهادة، والمطلوب الإيمان بالغيب,, قال تعالى: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون, فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين, فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون سورة غافر/ 83 85,, أما قوم يونس عليه السلام فقد بادروا إلى التوبة والإيمان لما فقدوا نبيهم قبيل نزول العذاب,, قال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين سورة يونس/ 98 ، وقال الله تعالى عن فرعون لعنه الله: ,,, حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين, آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين سورة يونس /90 91 ,, ولا تقبل توبة من غرغر، وجاءت رسل الله لقبض روحه، وأصبح بصره حديداً يرى ما غُيِّب عنه,, قال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون, لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون سورة المؤمنون/ 99 100 وفصلت سورة الزمر هذه المواقف، فقال سبحانه وتعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم, وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون, واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون, أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين, أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين, أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين سورة الزمر /53 58 .
قال أبو عبدالرحمن: هذا شرط لقبول التوبة يتعلق بالزمان,, ولابد للتوبة النصوح من تخلص من الذنب، فإن كان الذنب حقاً لآدمي فلابد من رده إليه إن كان ماديا أو استباحته,, وهكذا لابد من استباحته إن كان الذنب غير مادي كالغيبة,, فإن تعذر رد المادي، أو ترجح عدم الاستباحة من غير المادي فلابد من الدعاء والاستغفار له، والتصدق له بمقدار قيمة المادي أو أكثر,, هذا شرط قبول,, فإن عجز عن قيمة المادي فلابد من الاستغفار له، وتثويب بعض العمل له.
وان كان حقاً لله فشرط قبول التوبة الندم على الذنب، والإقلاع بعزيمة، وإضمار النية على عدم العودة,, وتجديد التوبة كلما ضعفت النفس.
ومن آداب التوبة، ومظان استمرارها وغفران ما سلف: كثرة الاستغفار، والمسابقة بالخيرات، وغمر السيآت (1) بالحسنات، وكثرة الاستعانة بالله، وطلب هداية التوفيق والتسديد بعد هداية البيان والإيضاح، والبراءة من الحول، وكثرة الدعاء.
***
عودة إلى مذهب زفر في النية:
قال برهان الدين المرغيناني 530 593 : وقال زفر رحمه الله: يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم، لأن الإمساك مستحق عليه، فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه كما إذا وهب كل النصاب من الفقير (2) ,
وقال أكمل الدين البابرتي 714 786ه : وإنما قَيَّد الصحيحَ المقيم، نفياً لما يجوز به صرف الإمساك إلى غيره، لتعيُّنِ الجهة (3) ,
وقال ابن الهمام 790 861 : قيد بهما أي بالصحيح، والمقيم ، لأن المسافر والمريض لابد لهما من النية اتفاقاً، لعدم التعيُّن في حقهما (4) .
وقال شمس الدين السرخسي معلقاً على بعض قول زفر: هو يقول: إمساك المسافر في أول النهار لم يكن مستحقاً لصوم الفرض، فلم يتوقف على وجود النية، ولم يستند إليه في حقه إلى النهار بخلاف المقيم (5) .
ثم رد السرخسي على زفر بقوله: ولنا أن المعنى الذي جُوِّز في حق المقيم إقامة النية في أكثر من وقت الأداء مقامَها في جميع الوقت: وجد في حق المسافر، فالمسافر في هذا الوقت أسوة المقيم,, إنما يفارقه في الترخص بالفطر، ولم يترخص به (6) .
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أن النقل عن زفر مضطرب في هذه المسألة، ومن هذه النصوص نرى أن زفر أعفى المقيم الصحيح من تبييت نية الصوم لكل يوم من أيام رمضان,, وهذا يعني أنه أوجب النية على المسافر والمريض، فلابد من معرفة وجهة نظره في هذا التفريق؛ فرأينا من حجته في نص المرغيناني: أن الإمساك لشهر رمضان مستحق على المقيم الصحيح، فعلى أي وجه أدَّى الصومَ وقع وأجزأ عنه,, يعني بنية وبغير نية.
قال أبو عبدالرحمن: أما أن صوم رمضان مستحق على المقيم الصحيح فلا شك في ذلك، وأما أن إيقاع الإمساك يجوز بأي وجه فلا صحة لذلك، بل لايقع مجزأً (7) إلا وفق ما شرعه الله,, ونيتا تمييز المقصود بالعمل، وتمييز العمل المقصود مما شرعه الله في العبادات، فلا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا ببرهان.
وأما إيجاب نية الصوم على المريض والمسافر فقد أوضح البابرتي وجهة نظر زفر في ذلك إلا أن عبارة ابن الهمام أوضح، وهي أن الصوم غير متعيِّن على المريض والمسافر، فوجبت النية في حقهما,, وعلى هذا يكون التعيُّن كافياً عن النية في حق الصحيح والمسافر.
قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا التعليل بحجة، لأن تعيُّن الصوم على الصحيح والمسافر تعيُّنَ صومٍ بإطلاق، وإنما هو تعيُّن صوم شرعي,, ومن صفة الصوم الشرعي وجود نيتين تعيِّنان المقصود بالعمل، والعمل المقصود,, كذلك المسافر لما أوجبا الصوم على نفسيهما كان الصوم الذي أوجباه صوماً شرعياً يقتضي النيتين.
أما توجيه السرخسي فهو غامض، ويُشعر بخلاف مذهب زفر، وستأتي له معاودة إن شاء الله في أحد أسفار كتابي من أحكام الديانة .
وهكذا رد السرخسي على زفر إنما هو مقابلة دعوى بدعوى، وليس رداً للدعوى ببرهان.
قال أبو عبدالرحمن: وأختم هذه الجزئية بكليمة عن مشروعية النيتين,, الأولى نية الإخلاص، ووجوبها متيقن بنصوص متواترة ثبوتاً ودلالة,, ولكن الإشكال: هل يجب استحضارها وتجديدها لصيام كل يوم؟,, المحقق عندي أن المسلم على أصل الإيمان بالله، وتوحيده بإخلاص العبادة له، فلا يُجدِّد هذه النية يومياً على سبيل الوجوب إلا لطارىء يؤثر في خلوص النية كأن يراعي جانب الاستشفاء بالصوم,, إذن نية الإخلاص واجبة، ويخرج المكلف من العهدة ما ظل على نية الإخلاص وإن لم يجددها ما لم يطرأ قصد يؤثر على نية الإخلاص,, والثانية نية تمييز العمل المقصود، ولا ريب أن تهمُّمَ المسلم بمعرفة دخول شهر رمضان وخروجه؛ ليصومه,, وتهممه بمعرفة وقت الإمساك والإفطار، ليصوم الوقت المحدد: كل ذلك صادر عن نيته بتحديد العمل المقصود؛ فهو على هذه النية لا يجددها وجوباً إلا لطارىء يؤثر على قصده كأن يريد القضاء في وقت الأداء، فيقال: حدد نية الأداء وأخر نية القضاء إلى يوم أو أيام أخر بعد انقضاء الشهر.
إن تجديد نية الإخلاص إذا لم يطرأ قصد يعكر عليها يكون مستحباً لا واجباً، لأن الوجوب للإيجاد، وهي موجودة، فإيجادها تحصيل حاصل، ولا يوجَبُ تجديدها إلا ببرهان خاص يقتضي التجديد,, وأما الاستحباب فنصوص الشرع تُعَوِّد المسلم على أن يجدد إيمانه بالأدعية اليومية الموظفة، وبالتلاوة، وأدعية العبادات كأدعية الصلاة والحج,, وهكذا نية تمييز العمل المقصود تجدد وجوباً إن طرأ عليه فطر بغير عذر، أو بعذرٍ قد ارتفع قبل الإمساك.
الحواشي:
(1) اخترت هذا الرسم، لأن الفتحة على الهمزة أقوى من الكسرة قبلها، فبقينا على قاعدة مطابقة الرسم للنطق.
(2) الهداية شرح بداية المبتدي بأعلى فتح القدير : 2/92.
(3) العناية على الهداية بأعلى فتح القدير : 2/92.
(4) فتح القدير أسفل الهداية : 2/92.
(5) المبسوط: 3/63.
(6) المبسوط: 3/63.
(7) قال أبو عبدالرحمن: لم أختر الرسم هكذا مجزءاً وإن كان مجمعاً عليه عند أهل الرسم ، لأنني لم أجد مسوغاً معقولاً لتغيير صورة الأصل بفصل رأس الهمزة وسط السطر وجعل الألف مدة منونة لها بعدها.
|
|
|