شخصيات قلقة هارييت بيتشر ستو 1811 - 1896م الحلم من قلب المأساة |
عندما كانت صغيرة تحسست انفها الطويل وذقنها الممتلئة وتوهمت انها غير جميلة، وان الآخرين لن يعجبوا بها، فانطوت على حساسية مفرطة وآثرت الصمت والعزلة,, وعندما كبرت، ورغم نضج السن ورجاحة العقل والثقافة، آثرت هارييت دائماً الا تبدي رأيها في أحيان كثيرة، حتى عندما تجلس مع بعض المثقفين الذين يناقشون قضية ما كانت تمكث صامتة كأنها تمتص الكلام قطرة قطرة.
الجميع يتبادلون الخطابات الاستفزازية، وأهل مدينتها انقسموا الى فريقين مابين انصار الرق ودعاة التحرير، والعبيد يتعرضون للضرب الهمجي أينما وجدوا!! وذات يوم فؤجئت هارييت بشابة تطرق بابها طلباً للحماية من صاحب المزرعة الظالم، ورغم ان تلك المساعدة تعرض هارييت نفسها للسجن إلا انها آوت الفتاة وقامت بتهريبها ليلاً إلى مكان آمن.
ولا تتوقف اوجاع المدينة على الصراع بين السادة والعبيد، بل تعاني مدينة سينسايناتي وباء الكوليرا ايضاً لتفقد هارييت طفلها الصغير ويعاني زوجها ضائقة مالية، فكان عليها ان تعتني بأطفالها الآخرين وان تدرس لهم، ثم تكتب المقالات المختلفة للحصول على دعم مالي لأسرتها، وفي النهاية تبدع وتمارس هوايتها في الرسم، دون ان تقطع صلتها بكفاح العبيد المرير في سبيل الحرية.
وفي أحد الأيام ذهبت لزيارة اخيها ادوارد في بوسطن وهناك قابلت احد الزنوج المرموقين ويُدعى جوسياه هنسون الذي حكى لها عن كفاحه الطويل وكيف كان سيده يجلده بوحشية بمناسبة وبدون مناسبة حتى كسر كتفه الايمن واصيب بالشلل في ذراعية، وعندما وجد نفسه عاجزاً عن العمل والخدمة اقترح على سيده ان يعتقه في مقابل ان يدفع له مبلغاً من المال شهرياً، وراح الزنجي يعمل كحارس لإحدى الكنائس ويسدد المبلغ شهرياً بانتظام ولعدة أعوام حتى تجاوز المبلغ المتفق عليه دون ان ينال صك حريته، فاضطر الى الهروب الى كودا ليبدأ كفاحاً جماعياً حتى اصبح رمزاً لثورة الزنوج في القارتين الأمريكية والأوروبية، حتى انه قابل الملكة فيكتوريا ملكة انجلترا آنذاك.
كوخ العم توم
قصة حياة جوسياه هنسون المريرة والنبيلة، قصة خالدة ليس لأنها حقيقية فحسب وإنما لان جوسياه اصبح احد أهم الشخوص في رواية كوخ العم توم,, تلك الرواية التي كانت تكتب نفسها ببطء مع تتابع الاحداث المؤسفة، والتي تشكل واحداً من أهم السجلات السوداء في تاريخ امريكا,, وهارييت تعتصر تلك القصص بداخلها، بجانب ماتقوم به من جهود على المستوى العملي، فكانت تجمع أطفالها كل ليلة وتحدثهم عن جوسياه هنسون وعن العبيد وأمانيهم وكيف كانت تأويهم في بيتها.
وفي عام 1851م رأت هارييت في الحلم رجلاً ابيض جَبُن عن ضرب أحد عبيده، فأمر عبدين آخرين بضربه وجلده، بدأت هارييت تكتب هذا الحلم وتصف آلام العبد وآثار السوط على جلده، ومشاعر زميليه اللذين يضربانه امتثالاً لأوامر السيد، ثم وصفت همجية هذا السيد وتلذذه بالتعذيب,, وتركت هارييت تلك الاوراق في غرفة النوم، وأثناء انشغالها في المطبخ اطلع عليها زوجها فأسرع ينادي عليها: ماذ تفعلين هنا، ولمَ تهدرين الوقت؟ اتركي كل شيء ياهارييت واكملي قصتك لانها عظيمة وبالفعل تركت كل شيء وأرسلت الى مدير المجلة التي تكتب لها المقالات اعتذاراً رسمياً لانها ستنقطع من اجل كتابة قصة طويلة عن العبيد، ومما قالته في الرسالة: نحن اليوم نعيش مأساة عبودية مستهجنة ورهيبة، من الواجب علينا جميعاً نساء ورجالاً بذل الغالي والثمين للتحرر منها، لكي نرفع العار عن جباهنا وتضامناً مع موقعها وافق مدير المجلة على تفرغها وان تنجز روايتها وارسل لها شيكاً بمبلغ ثلاثمائة دولار، فتفرغت عاماً كاملاً، كأنها وسيط في حالة استغراق كلي، تكتب بالليل والنهار، في الغرفة والمطبخ وعلى السلالم، وترسل ماتنجزه الى المجلة، ولم تتوقع أبداً ان كوخ العم توم سوف توزع للوهلة الأولى عشرين ألف نسخة، وانها ستصبح بين عشية وضحاها احد المشاهير في أوروبا وامريكا.
على الجانب الآخر كانت الرواية سبباً في عداء الاقطاعيين في الجنوب حيث شنوا عليها حملات إعلامية ضارية، كما تلقت رسائل تهديد مغفلة من التوقيع, ومع ذلك ظلت تدعم قضية العبيد بالعائد المادي من نشر مؤلفاتها ، وعندما احتدم الصراع بوصول لينكولن الى سُدة الرئاسة، قال خصمه: يجب على لينكولن ان يشكر كوخ العم توم الذي اشعل جذوة حرب تحرير العبيد.
وكانت هارييت تستمد من ايمان لينكولن جذوة حماس مضاعف فراحت تكتب المقالات النارية وحثت ابنها على التطوع في الحرب، كما انتقدت بقوة موقف بريطانيا المساند للجنوبيين الذين يمدونها بالقطن والمنافي للحرية وحقوق العبيد, بل انها انتقدت ايضاً لينكولن نفسه عندما صرح بان مايعنيه بالدرجة الأولى هو وحدة البلاد لا تحرير العبيد ,, فرغم ان هذا تصريح سياسي بالدرجة الأولى إلا ان هارييت رأت فيه مايُوحي بالتخلي عن قضية العبيد التي وهبت نفسها لها، فكتبت تقول: كان على الرئيس ان يقول صراحة ان تحرير العبيد من التعسف والاضطهاد والظلم هو غايته الأسمى , وكان لنشر هذا المقال أثناء اشتداد المعارك دوي كبير في الاوساط الشعبية، مما جعل لينكولن يعدل من موقفه، بل ويقابل هارييت شخصياً مدة ساعة كاملة، حيث قال عنها: ماكنت احسب ان هذه المرأة الرقيقة تستطيع ان تثير حرباً عاتية.
وفي مطلع عام 1863 فوجئت هارييت بالأنباء تذاع بان لينكولن وقّع على قانون التحرير، كما فوجئت بالأصدقاء وبالجميع يهنئونها كأنه نصر شخصي لها، وكان لسان حالها يقول ان الكفاح العنيد والنبالة والتضحية تلك هي المعاني الباقية.
|
|
|