هناك كثير من المدن اقترن اسمها بالتجارة، فهي مقصد البائع والمشتري، فاليها تجوب البواخر عباب البحار، وتتجه القوافل اليها قاطعة الفيافي والقفار، ومن تلك المدن جنوا، والبندقية والاسكندرية، وغزة، وصنعاء، والخط، وغيرها كثير، ومن المعروف ان قافلة قريش في الجاهلية تقصد غزة في الصيف وبعض المدن الشامية، وتقصد مدينة صنعاء في الشتاء, وبعض المدن اقترن اسمها بالثقافة، وان كان لها نصيب في التجارة، فمن المدن القديمة التي كان لها شأن في الثقافة قبل الاسلام مدينة اثينا، ذات الشأن الاعظم في الوعي والمعرفة فقد كانت عاصمة العالم في زمنها، وبها عاش كثير من الذين اثروا الثقافة العالمية، من امثال سقراط وافلاطون وارسططاليس وهوميروص وغيرهم، وقد برزت الاسكندرية مدينة المكتبة المشهورة، بل ان مكتبتها اكبر مكتبة معروفة في العالم، وقد جمعت الاسكندرية بين التجارة والثقافة ولكن شهرة مكتبتها تجعلنا نبرزها مدينة ثقافية اكثر عن ابرازها مدينة تجارية، ومدينة برجام حوت واحدة من المكتبات القديمة بل انها نافست الاسكندرية وأثينا، وجزيرة قبرص حوت بعض المكتبات، وقد اشتهرت مكتبات قبرص الى ما بعد ظهور الاسلام، وقد جلبت الكتب الاغريقية الى المأمون في العصر العباسي من جزيرة قبرص، وذلك دليل على ان كثيراً عن كتب اثينا والاسكندرية قد تحولت الى قبرص، ومدينة روما عاصمة الثقافة العالمية لعدة قرون، فمنذ ان زال مجد اثينا ومركز الثقافة العالمية في روما، وقد برزت القسطنطينية عاصمة ثقافية للروم الشرقيين، وتعامل معها المسلمون في جلب الكتب منها في زمن ازدهار الثقافة العربية الاسلامية, ومدينة القدس مركز من مراكز الثقافة وان لم تقترن بثقافة دولة معينة, ومكة المكرمة مقر الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، فمنذ ان سار اليها وترك بها زوجه وابنه إسماعيل وهي من ابرز المراكز الثقافية في العالم.
وبعد ظهور الاسلام انبثقت الدعوة من مكة ونزل الوحي لأول مرة في غار حراء، وانطلقت الهجرة من غار ثور، وشهد الحرم المكي تضرع وسجود سيد الخلق قبل هجرته صلى الله عليه وسلم الى المدينة، وبعد ان قامت دولة الاسلام، وعظم شأنه، اصبحت مكة بعد تطهيرها من الاصنام مقصد الحجاج والعلماء والمتلقين، ومنذ ذلك الحين وهي العاصمة الثقافية للمسلمين في مشارق الارض ومغاربها، فمن عزَّ عليه العثور على كتاب فانه يحضر الحج، ويسأل الحجاج في منى، فان لم يجده معهم عرف مكانه، وتعرف على مالكه, وبعد ان استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة اصبحت عاصمة الدولة ومقر الصحابة فالعلم يؤخذ عن الرسول فيها، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم قصد طلاب العلم المدينة للأخذ عن الصحابة ثم عن التابعين.
وقد برز مذهب مالك في المدينة وهو واحد من المذاهب الاربعة التي لها تأثير كبير في العالم الاسلامي والذي انتشر في المغرب العربي اكثر من غيره, ومن المدن التي اسهمت في الثقافة العربية الاسلامية الكوفة فقد كان لتلك المدينة شأن في القرن الاول، والنصف الاول من القرن الثاني، وقد أسهمت في صناعة النحو العربي، وقد برز الكسائي في هذا العلم واشتهر به.
والبصرة صنو الكوفة، بل ان البصرة تقدمت على الكوفة في وضع قواعد النحو في اول القرن الثاني، وجل الكتب المؤلفة في النحو، والموجودة في رفوف المكتبات عالة على علماء البصرة، من أمثال الخليل بن احمد وسيبويه، واذا كان جل النحو المقروء الآن بصريا، فان علم العروض صنع في البصرة، ولا يزال هذا العلم كما وضعه الخليل بن احمد, ودمشق أسهمت في الثقافة العربية والاسلامية منذ أن كانت عاصمة للخلافة الى يومنا هذا، وبغداد شهدت تطور العلوم المختلفة فهي مقر العلماء واليها تجلب أحمال الكتب، وبها بيت الحكمة، واسواق الوراقين، وقد الفت في بيوتها وحوانيتها آلاف الكتب، فهي بحق العاصمة الثقافية للمسلمين لعدة قرون، وقرطبة العاصمة الثقافية للغرب الاسلامي، حوت مئات المكتبات، والمساجد التي شهدت حلقات العلم والعلماء, والقاهرة ورثت علم بغداد والبصرة والكوفة وقرطبة، فهي مقر الثقافة في القديم والحديث, وغرناطة للمسلمين مثل برجام للاغريق، تحولت فيها ثقافة الاندلس وازدهرت اكثر من قرنين, وبعد فما اكثر المدن التي اسهمت في الثقافة الاسلامية، ففي المشرق بخارى، واصبهان، والرَّي وقندهار، وهرات، وفي الغرب الاسلامي مثلها فمن أين لنا جمعها في مقالة!!