تأليف: محمد حسن فقي عرض: حنان بنت عبدالعزيز بن سيف
يقع الكتاب في مائة وسبع وثلاثين ورقة، وهذه الطبعة التي بين يديّ الآن صادرة من جدة، وناشرها الاستاذ الاديب عبدالمقصود محمد سعيد خوجة، وهي الاولى لعام 1415ه، وقد جلد الكتاب بتجليد انيق، ورسم العنوان بخط ذهبي جميل، وقد طرز غلاف الكتاب بصورة لشاعرنا العظيم محمد حسن فقي، وما ان تبدأ في تقليب وريقات الكتاب حتى ترى صورة واضحة جداً لتقاسيم ملامح هذا الالمعي الزاهر، وفيها يظهر الشارع بالزي الحجازي القديم، وبغترة اخالها ملونة تلويناً بسيطاً، وقد لفت على الرأس بطريقة تشبه لف العمامة قديماً، هذا ان صح هذا التصور، لان الصورة ليست واضحة كل الوضوح، واما تقاطيع الوجه، فهي تنم عن وسامة يتصف بها شاعرنا العظيم، فقد جمعت له وسامتان وسامة الشكل ووسامة الشعر، وترى في هذه الصورة عينين حلوتين حزينتين ترمش بالكثير الكثير، وكأنها تصف سنين المر والكدر، وصور الكفاح، ومعاني الحزن والاسى، التي خيمت على نفس الشاعر منذ كان غض الاهاب، فقد نشأ يتيماً فاقداً حنان الام الرؤم، علاوة على طبع حزين، فطر عليه، وسكن في اعمق اعماق روحه، ولا يلبث هذا الطبع ان يخونه مشعراً الناس بما تخفيه مكنونات نفسية هذا الشاعر العملاق، ثم يتدلى بينهما انف جميل، وقد رُسم تحته فوه مليح نطق بأخلد الشعر واحسنه، وقد جمع بهذه التقاسيم والتقاطيع معاني الحسن والبهاء، فقد قالت العرب في الجمال قديماً: الحلاوة في العينين والجمال في الانف والملاحة في الفم، وهاهو شاعرنا حلو العين، جميل الانف، مليح الفم، ويخيل الى ان الصورة قد اخذت له، وقد تجاوز العشرين مهرولاً الى الثلاثين، ثم يجمع بين هذه الخطوط وجه في غاية الحسن، يوحي لناظره بحزن واسى ينهش ضلوع هذا الشاب الصغير، ولكن ما سبب هذا الحزن يا ترى، أهو اليتم الذي يهز الجوانح، ويقهر الاحاسيس، وما قيلت هذه الآية الكريمة فأما اليتيم فلا تقهر عبثاً، ام هو عظم المسئوليات التي القيت على عاتقه وهو صغير، ولاسيما اننا امام ضمير مخلص يقظ، ام هو الطموح الذي ورث عمالقة الشعر حزناً دفيناً تفوح شذاه بين قوافي اشعارهم، ام هو وهو افتراضات كثيرة لا نجد لها مبرراً حاسماً، حتى الشاعر ذاته كان يعجز عليه تفسير حزنه واكتئابه وانطوائيته، رغم محاولاته الكثيرة، وجهوده المتفانية في انتزاعه من نفسيته، فكما ان اشعار الشعراء في بعض الاحايين ألغاز، الا ان نفسياتهم في اغلب الاحايين رموز وألغاز وطلاسم، فالنفس الانسانية، كما يقول محمد حسن فقي: والطبيعة البشرية كانت وماتزال لغزاً ربما اماته الفكر والعجز .
وفي بداية الكتاب كان للناشر كلمة، عنون لها بالتالي - من بحور الشعر الى آفاق النثر - وهي مقدمة ادبية جميلة، تغص بتشبيهات بيانية بديعة، كأنها قلائد متلألئة في عنق هذه المقدمة النثرية البليغة، فقد وقف فيها المترجم عند محطات العمر الاساسية بالنسبة للشعراء، فالمرحوم الاستاذ عبدالسلام هاشم حافظ، له قصيدة الاربعون يقول في مطلعها:
الاربعون معاناة ومعتصم حديثها الأمس بالتذكار ينسجم |
اما معالي الشاعر الدكتور غازي القصيبي، فله قصيدة اسماها خمسون واستهلها بقوله:
خمسون ترفعك الرؤيا فتندفع رفقاً بقلبك كاد القلب ينخلع |
واما المروح الاستاذ عبدالعزيز الرفاعي، فيقول من خلال رائعته السبعون :
سبعون يا صحبي وجل مصاب ولدى الشدائد تعرف الاصحاب |
غير ان الفقي قد امسك بطرفي المعادلة الصعبة الشعر والنثر، وقد تربع على ذروتيهما مضيفاً الى ادبنا العربي اروع النماذج الشعرية والنثرية, واما لغة الكتاب فكما يقول الناشر ومع ان كتابه السنوات الاولى ترجمة حياة كان قد وضعه قبل اكثرمن اربعين عاماً، الا ان صياغته الفنية تحمل بريق اليوم وعذوبته، وكأن استاذنا قد عاصر اساليب الحاضر قبل اربعين عاماً، فهو مبهر في اسلوبه، ولغته، وفي انتقائه لمفرداته، ثم قدم الاديب الكبير الدكتور عبدالله مناع للكتاب بمقدمة رائعة ايضاً، كان عنوانها عن الكتاب لا عن الكاتب استعرض فيها شيئاً من التقديم للسير الذاتية للبارزين من ادباء وشعراء، وذكر في مقدمته هذه ان الفقي وضع كتابه هذا في السنوات الاولى بعد ان اتم الاربعين عاماً الاولى في حياته، ثم احتفظ به لاكثر من اربعين عاماًاخرى، وكأنه لم تكن لديه، وهواللسن المغوار الشجاعة الكافية لنشره، والقارىء لهذا الكتاب يرى فيه الاسلوب القصصي، مع ان محمد حسن فقي كان قادراً كل القدرة على ان يكتب قصته شعراً، وفي هذا يقول الاديب الكبير عبدالله مناع: (فلم يا ترى لم يكتب هذه القصة، قصة السنوات الاولى شعراً ليتفادى بتلميح الشاعر ورمزيته عن تصريح الناثر وتقريريته، ولو ان الفقي فعل ذلك، وياليته، وهو القادر عليه، لكانت بين ايدينا ملحمة حياة شاعر لم تكتب من قبل، فلست اعرف ان شاعراً عربياً او غير عربي، قد فعل فيما مضى), ويرى الاديب عبدالله مناع ان هذا الكتاب هو الذي يقدم لنا التفسير الموضوعي لتلك الاحزان، وهو يكشف عن اغوارها البعيدة، واعماقها السحيقة، وحينما تمضي به سطور الكتاب وصفحاته يرى فيه تلك اللغة الغزيرة الجامعة بين الايجاز والجزالة، والبساطة والسلاسة، والمعاصرة والتراثية، والاطلالة البانورامية الواسعة على الماضي، والتجارب الانسانية العميقة، وتوهج الفقي الذي احتفظ به، حتى ليحسب القارىء انه كتب في الامس القريب، ولم يكتب قبل اكثر من اربعين سنة، ثم يختم هذه المقدمة الجامعة بكلمة اخيرة قال فيها: ان الذي بين ايدينا، ليس كتاباً يقدم حياة شاب في زمن مضى وحسب، ولكنه كتاب يقدم درساً حافلاً شجياً لكل شاب في زماننا، وفي كل زمن آت , وهاتان المقدمتان للكتاب كانتا بمثل الارهاصات الاولى له، فقد فتحت مغاليق الكتاب، واضفت لقيمته الادبية الشيء الكثير الكثير.
ثم جاء اول فصول الكتاب وعنوانه: هذه ترجمة وليست بقصة وفيه ينكر الفقي ابوته لهذا الكتاب، ويرى ان بطل هذه القصة مشابه له، حيث يقول: وفي حياة بطلها مشابه جمة من حياتي قد تلقي في روع من يعرفونني انني شخصه واسرد تاريخ حياتي مبرقعاً، فلئن ظنوا ذلك فقد وهموا وسددوا في ضلال، وانما هو صديق حميم كشف لي عن نفسه الغطاء، وشعرت بصدق اللهجة والاحساس فيما سرد لي من تاريخها، هذا الى طرافة هذا التاريخ واستحقاقه للحبك والرواية , ثم يتراجع شاعرنا الكبير في نهاية هذه المقدمة فان اصر بعضهم بعد هذا البيان على ان الترجمة ترجمتي انا لا سواي فان لهم رأيهم الذي لا استطيع مصادرته بحال .
وتحت عنوان ميلاد حزني يصف الفقي ذلك الجو الحزين الذي ولد فيه، فقد انجبت امه من قبله ثلاث بنات، ولكن الولادة الرابعة كان اشق من الولادت السابقة، فهل السبب انها كانت تنبىء عن مولود ذكر؟ ام السبب ان حتف ام هذا المولود الصغير سيكون فيها؟ ولقد احست القابلة بشيء غريب في قوة هذه المرأة التي وضعت على يديها ثلاث مرات سبقت هذه الولادة، ولكنها اخفت شعورها، لعله يكون حدساً وتخميناً، ويصف شاعرنا ما عصف برأس هذه القابلة المسكينة التي كانت تحب نفيسة، وهذا هو اسم الشاعر كانت الافكار السود تعصف برأس القابلة الودود حتى يوشك ان ينفجر، ولكنها تلوذ بالصمت وتعمد الى التغطية والمواساة والتأميل، وتبتهل الى الله بضراعة، ان ينجي نفيسة من الاخطار التي تهددها ثم تهش في وجهها وتداعبها، فما تلك المسكينة من اجلها ومن اجل العائلة المتوجسة المذعورة الا ان تجاهد حتى يظهر شبح ابتسامة على وجهها الهزيل الشاحب ولكن يد القدر كانت مع شعور القابلة، فمالبثت هذه المرأة التي كانت تكابد المرض بعزيمة جبارة، وارادة لا تقهر، الا ان اسلمت الروح الى باريها، وكان عمر الطفل آنذاك سبعة اشهر تقريباً، ومن هنا تبدأ قصة هذا الطفل الوليد الذي تعرض لاقسى آيات الشقاء والحرمان، فما لبث والده يبحث له عن مرضعة، ثم يقدم لها الاجر المرضي لتقبل بارضاعه، ثم ما تلبث هذه المرضعة من المطالبة بأجر باهظ، وحينما غُيرت بغيرها كانت الثانية شراً من الاولى، وكانت الجديدة اجشع من القديمة، فما ادخر والده وسعاً ان يمد يده الى عقار قديم عنده، ويصرف ثمنه على ودين ركبه من جراءنهم المرضعات, وشبت الحرب العالمية الاولى فمر على العائلة الوان من شظف العيش، وشدة العوز، وانتقلت العائلة بناء على قرار كبيرها من مكة الى جدة لتحسين الاوضاع المادية، وكان الطفل قد بلغ من العمر سبع سنين، ولكن لسان حاله كان يقول عنه وهو يرفل في الحلل الاربعينية: وطبعته الآلام والخوف بطابع كالح من الكآبة والخجل لم يستطع التحلل منه مدى الحياة، حتى بعد ان هادنته الايام، وبذلت العطاء، فعاش وحيداً في بيته ومدرسته وبيئته ومجتمعه ورغم هذه الانطوائية، وشدة الانعزالية الا انه كان ذكياً جداً، وفي اوائل الناجحين، ولم يسقط قط في امتحان، بل بذ الصبية، وفاق الاقران ولكن حياته المدرسية هذه لم تقطع حنينه وشوقه الى مربياته، فقد كان يتعهدن بدراهم معدودة وفرها من مصروفه اليومي الذي كان والده يعطيه اياه، واستمر هذا الحنين والشوق ينهش في عواطفه، حتى استبد به الجوى، فطلب من والده زيارة مربيته وبناتها في مكة، فوافق والده، ووعده بالسفر في يوم خميس مقبل، على ان يستمتع بلقائهن يومي الخميس والجمعة، ويعود به مساء الى جدة ليستأنف الصبي دراسته، والوالد عمله، ثم تبدأ رحلة السفر في وقت كانت وسائل المواصلات فيه هي الحيوانات، ويصور شاعرنا مشاعره حين رأى مكة بعد رحلة سفر شاقة اليها من جدة، فقد كانت المسافة بينهما تقطع في ليلتين كاملتين، فيقول: وبدت طلائع مكة مع طلائع الفجر، فتهللت أسِرة الصبي بشراً، وبدا كما لو كان طيراً حبيساً يتلهف على الحرية والانطلاق، وحين هتف ابوه بأهل الدار قبل ان يذرَّ قرن الغزالة، كان الصبي يقفز الدرجات مثنى وثلاث ليسبق اليهم الصوت، وقضى بينهم يوماً سعيداً ممتعاً، فلما ولى النهار ولت معه مسراته، وجاء ابوه يدعوه اليه فبكى وتشبث بالمقام، وتوسل الى ابيه بصوت ضارع يشرق بالدموع، وكان لا طاقة لابيه على ان يبقى، ولو انه اطاق ذلك لبقي، لكن اوجبت مصلحة الصبي ان يرحل، فربت على ظهره، ومسح دمعه، واستعان بمربياته عليه، فخدعنه بقرب لقاء .
وقد كان والد الشاعر حنوناً عطوفاً عليه، وكان الصبي يحن له، ويحترمه كثيراً، ولكن ظروف العيش كان انكد وانحس، فقد اضطرت زعيم العائلة ان يسافر الى الهند ثم تبعه والد الشاعر الى اندونيسيا، فقضى بها عامين، ويصف الفقي طفولة حسه المرهف بقوله: كانت نفس الصبي خلالهما مسرحاً للعواطف النفسية العنيفة، وكان هو محل عجب اساتذته وزملائه، ومحل تسخطهم احياناً، فهو نجيب ذو خلق فاضل، ولكن عزلته تبديه انانياً متعجرفاً، وكآبته تفض الناس من حوله، وتنفرهم من مخالطته، وان كان هو لا يبغي الا هذا ولم تكن قوة الشعر ترقد بين ضلوع هذا الصبي فقط، بل كانت قوة الفسلفة، ومنطق الحكمة، ورجاحة العقل، سكين بين جوانحه، فهو القائل: لقد فقد كثرة الاصدقاء ولكنها كثرة تفقاقيع الصابون او كحبات الماء تتكاثر لتتلاشى في نفس الوقت، ولكنه لم يفقد قلة مختارة نفذت الى اغوار نفسه، وحنايا سريرته، اعجبت به واحبته ومحضته اخلاقها وعونها، وانتقل من نجاح الى نجاح، وخلف وراءه ثللاً من الراسبين يكبرونه سناً، ويصغرون عنه فهماً وادراكاً وحينما عاد ابوه من السفر وجده دون الفتوة وفوق الصبي، وقد نما عقله اكثر من جسمه، وسأل عنه اساتذته فكان للحمد النصيب الاكبر، وللثلب النصيب الاقل، وقرر الاب بعدهذه الغربة التي انعشت حالته المادية ان يعود الى مسقط رأسه، عند اترابه ولداته، فكان القرار بالعودة الى مكة، فطار الصبي فرحاً ومرحاً وشوقاً، فهوالذي تربطه بمكة عرى وثيقة لا تفصم, غير ان الافراح لا تدوم، فقد انقلب هذا الفرح الى حزن عميق لينضم الى سلسلة الحزن التي كانت منعقدة في طيات الشاعر، فقد فجع بوالده، الذي كان له ملاذاً وملجأً وسداً منيعاً بعد الله، وموت والده ما جاء ليخلق الحزن في قلب صبي يافع لم يعرف مذاقه من قبل، بل جاء ليجدد احزاناً قدم عهدها، وترسبت رواسبها، وحينما جاء الناعي اليه، كان الفتى كما يقول الفقي: يبكي بكاء صامتاً ينفذ الى اعمق اعماق القلوب، فيهزها هزاً عنيفاً، وتحامل على جسمه الناحل المتداعي فقام، وكأنما خرج من قبر، اصفر صفرة ورق الخريف، متأرجحاً مبهوراً، كان الغاسل قد انتهى من غسل ابيه، وتكفينه وتجهيزه للدفن، فدلف اليه، وانكب عليه، يلثمه ويغسل اطرافه بالدموع لك الله ايتها الدموع من غسول طهور , وقد كانت الحادثة تنخر في كيان هذا الفتى الصغير، حتى بعد مضي سنوات وسنوات من الفاجعة، فقد كان يقول لصديق له: لقد سرت وراء نعش ابي، وانا لا احس بمن حولي، وما كنت ادري متى وصلت , وتكشفت الايام ان هذا الفتى الصغير كان رجلاً وفياً عظيم التحمل للمسئولية، فقد عاهد كبير الاسرة ان يقوم على رعاية اخواته، فهن اليوم ذخره في هذه الحياة بعد الله ووالده الراحل، والرجل في نظر هذا الفيلسوف الصغير يجب ان يضحي للانثى لانه مسلح مما هي منه عزلاء، فهي اعجز عن مكافحة الحياة، واضعف من الاضطلاع بالاعباء والاصطبار للشدائد، ثم تفوه بكلمة ووفى بها سأضحي وفعلاً ضحى، فتنازل بحصته من ميراث ابيه لاخواته، ثم بذل الجهد الجهيد في البحث عن عمل يعولهن به، وفي معترك الحياة الصاخب اخذت بنات الفكر بالفتى الميمون يمنة ويسره، هل ستعينه المدرسة استاذاً صغيراً رغم قلة تجاربه، وصغر سنيه، ام يبحث عن وظيفة يقاوم بها شظف العيش، ويسدبها شدة الرمق، ام يعمل بالتجارة فيما خلفه له ابوه وتنازل عنه لشقيقاته، وهل سيكون الجد حليفه، ام يطارده الشؤم والنحس، اسئلة خيمت في فكره، وجثمت في مخيلته وكادت ان تضرب اطنابها في عقله، ولكنه كما قال: رفع راية التسليم للاقدار تقوده كيف شاءت اما الى نجاح او الى خيبة، ليس له من امره ماشاء فلتكن مشيئة الاقدار .
وشاءت ارادة الله ان يعين في المدرسة التي تخرج منها، وكان يزرع طريقه بين الدار والمدرسة فيمضي سحابة النهار في المطالعة والدرس، ثم يتغذى مع زملائه، فاذا انصرف الطلاب بعد العصر، جلس الى بعض زملائه يحادثهم ويناقشهم وفي حديثهم الجد والهزل، والغث والسمين، ثم ينصرف الفتى قبيل المغرب، ويجلس مع اخواته، فاذا تناول طعام العشاء معهن، نزل الى فناء الدار، ليجلس مع ثلة من الاصدقاء، لا يتجاوز عددهم الثلاثة، غير ان السهر لا يمتد بهم الى اكثر من هزيع الليل الاول، فاذا هجع اهل الدار، ودار الكرى على اهلها، بدأ الفتى يسامر لوناً جديداً من الوان الحياة، يقول الفقي: فانكب على دراساته الادبية يطالع حيناً، ويكتب احياناً حتى يغلبه الكرى على امره فيسلم جفنه اليه، في هذه الفترة الجائشة باحلام الشباب وامانيه نظم الفتى شعراً كثيراً، وكتب عدداً من القصص القصيرة وبحوثاً ادبية جمة كان يغلب عليها طابع التشاؤم والحيرة والشك، وهو طابع عجيب في مثل هذه السن التي يغلب عليها التفاؤل واليقين والمغامرة .
وكأن نبرة الحزن الشديدة التي كانت تفري كبد الشاعر، وتقطع اوصاله قد اخذت تنقشع غمامتها في حديثه عن كفاحه في معترك الحياة، على عكس فصول ثلاثة سبقت تحت عناوين حزينة ميلاد حزين، طفولة الحس المرهف، الفجيعة في الاب، التي تنقل الى نفسك أحاسيس الأسى والألم، وتأوهات نفس مرهفة حزينة، فجعت بيتم الام، ثم كملت بمصيبة الأب، وتحملت اعباء الحياة ومسئوليتها وهي ماتزال يانعة فتية، تتطلع الى ما يتطلع اليه اترابها من فراغ ومرح وسعد، وقد خلقت هذه الظروف في الفتى جهامة وقطوباً، فما يرى الا متجهماً كئيباًكأنما تظلله سحابة دكناء، لكن الفتى كان قوياً صاحب ارادة لاتقهر، وعزم لا يفل، فيصور حاله وقواه: واستحالت قواه كلها الى اكباب على الدراسة والتحصيل، والى شغف غريب بالادب والفلسفة والتاريخ، فما ترك كتاباً حديثاً ولا قديماً الا اقتناه والتهمه قراءة من الدَّمَة الى الدفة ثم هجره الى سواه بحسب ما تستطيع له مواده واوقاته، فقرأ وهو لما يعد الخامس عشر ربيعاً، معظم ما انتجه ادباء مصر وسوريا ولبنان والعراق والمهجر وحشداً ضخماً من التراجم لكبار ادباء الغرب وفلاسفته ومؤرخيه، واعجب بالأدب العربي القديم فدرس مراجعه، وامهاته نثراً ونظماً بنهم عجيب، وكان لهذه الثقافة الادبية اثر كبير في اثراء عقله وذوقه وحسه، فقد ساهم في النهضة الادبية، وكان من ابرز حملة مشاعلها، وحدثت امور جمة، كانت نهايتها تعيينه رئيساً لتحرير صحيفة صوت الحجاز وقد كانت هي الصحيفة الشعبية الوحيدة آنذاك، وليس في هذا الشاب عيب الا حداثة سنه، وقلة خبرته في اضطلاعه بمسئولية رئاسة التحرير ولكن الامور سارت في صالح هذا الشاب اليافع، وعين رئيساً للتحرير ولم يتجاوز العشرين الا بسنيات قليلات، واضطلع بعبء المسئولية وحده، فكتب وراجع ودقق وصحح، ولكن الامر اثقل كاهله، وطالب بصحفي يساعده، ولكن محاولاته باءت بالفشل، ويصور الشاعر جهاده وكفاحه في هذه الصحيفة، فيقول واصفاً حاله: وكاد يستقيم به الحال لولا الارهاق الذي اضناه، واكل من صحته، فقد كانت الصحيفة تقوم على اكتافه وحده تحريراً وادارةً وتصحيحاً فذوى جسمه، واستدارت دوائر سود حول عينيه، ولكنه واصل العمل، وثبت في الميدان،,, ، كان قد مضت عليه ستة شهور في كفاح صحفي ناجح، وقد اثمر هذا الكفاح، ثمراته الطيبة فوطد مركزه الاجتماعي، ووسع من شهرته، وخلق له اصدقاء من طراز يعتمد عليه في الحياة، فلما حاول محاولته الاخيرة مع ادارة الصحيفة لتوسيع نطاق ادارة التحرير قليلاً، وفشلت المحاولة لوح باستقالته، وكانت منه خطوة دهش لها عارفوه لانها تتنافى مع طبعه الوديع المسالم الذي يؤثر الرضا ويتفادى الملاحاة وانتهت بهذه صلة الشاب بالصحيفة ليتصل بوظيفة حكومية، وبراتب جيد، سعت اليه، ولم يسع اليها، ورغم تحسن اوضاعه المادية، ومعرفته في الاوساط الادبية، وتطلع النفوس اليه، الا انه كان في حزن دفين، يلعج فؤاده، وتترأى ملامح منه على وجه الكظيم، ومرت الايام به عصيبة كما يقول: يستشري فيها داؤه فيتجرع صامتاً الآلام، ويعاني ضروباً من المحن، والواناً من الشقاء يشيب لهولها الوليد، فما يزيد على الخلوة والبكاء، حتى اذا اراحه الدمع مسح اثاره الواقذة من عينه، وقابل الناس بوجه باسم، وقلب كليم فما يقص على خلصائه بل ولا على كل من يراه ما يفري احشاءه من هم مبرح والم مكظوم .
ثم حدث امر كان له اكبر الاثر في نفسية هذا الفتى، الذي رأى شقيق روحه، وصديق نفسه، وكان يومها له من العمر سبع عشرة سنة، وصديقه خمس عشرة سنة ولكن البراءة كانت تطبع وجه ذلك الصديق، ويتراءى لك نور يشح من عينيه المغناطيسيتين، فتطالعك نفسه ككتاب مفتوح لا تقرأ فيه الا ما يعجبك ويسرك، وقامت صلة قوية خالصة، ولسان حالها يقول: لم تستطع قوة بشرية ان تنال منها او تزعزعها طوال ثلاث وعشرين سنة، ومازالت قائمة باذخة كالطود الشامخ تتحدى البشر وتضرب لهم الامثال ولم يفصح شاعرنا الكبير عن اسم صديقه هذا، ولا حتى الاول منه، وكل ما كان يفعله هو الرمز لاسمه بحرف ص وكان يجلسان ويتحدثان في كل شىء خاصة في وقت المساء، ويصفه يراع الشاعر، بأن البدر قد سكب ضياءه الناعم على هذا الكوكب فملأه بهجة وحبوراً، واسبغ عليه من السحر والفتون ما ينعش الاخيلة والاحلام ويجزل الغبطة والجزل، وجلس الفتى في هذا الجو الاريحي يتحدث لصديقه ص عن الزواج، ويقلبان معاً بنات الفكر والخاطر، ويتناقشان في امور جمة حول الفكر والادب والحياة والزواج والتربية والاطفال، فما كان من الفتى الا ان اكتشف ان صديقه غدا فيلسوفاً ان المحاورات والايحاءات قد اثمرت ثمارها اليانعة، وكان صديقه متعة الروح، فاصبح متعة الورح والعقل ، وتزوج الفتى بعد الحاح من الأهل، واقناع من رفيق روحه ص ، ورزق باولاد حرص على تربيتهم وتعليمهم، ثم ابتعثهم خارج المملكة، وادخلهم في مدرسة داخلية خاصة في مصر، وكان الذي دفعه الى هذه امور تتعلق بخوفه من البيت والشارع والمدرسة وضعف ايمانه بها في ذلك الوقت، وحول موضوع نذير الشيب صور الشاعر ما حدث في نفسه من رعب وقلق وهو الفارس المغوار، فقد انهارت اعصابه، وفقد شجاعته، في هذا الحادث التافه، وهوالرجل الحديدي الاعصاب، ولقد هزته شعرة واحدة، ولم تهزه من قبل اشد الظروف، واحنك الازمات، واستمر صديقه وشقيق روحه في اقتناعه حتى ذهب الشاب وقد سرى عنه وانصرف يردد مع صّر در قوله:
ومالشعرات البيض الا كواكب مطالها رأسي وفي القلب نورها |
ولقد كان لهذه الشعرة البيضاء التي لمعت في حالك السواد، وكانت كضياء الفجر يتسلل هادئاً في سواد الليل البهيم، اكبر الاثر الكامن المتواري في نفسية هذا الشاعر العظيم، فكتب موضوع ترجمة حياته الأخير واسماه حقيقة الشباب، كتبه وهو في الاربعين يودع اطلال الشباب ويحيى سنوات الرشد والنضج القادمة ومالشباب الخالد الا شباب النفس والروح، وقرر فيها حقيقية هامة حيث قال: والفى ان الاربعين وهي قمة الشباب، قد ينحدر جسم صاحبها رويداً من القمم الى السفوح اذا لم يكن له رصيد مدخر من غابر ايامه لقابلها، اما الذهن والشعور فلن يزيدها الزمن الا مضاء والقاً وعراقة وفحولة .