على امتداد ربع القرن الأخير يبدو أن تغييرا أساسيا قد حدث في اسلوب الأداء الرأسمالي في السبعينات، كان حديث الأزمة هو الذي يشغل الكثيرين, وفي الثمانينات، دار حديث الغالبية حول اعادة الهيكلة واعادة التنظيم, وفي التسعينات، لم نعد متأكدين من ان أزمة السبعينات قد انفرجت بالفعل، وبدأ رأي يسود مفاده أن تاريخ الرأسمالية ربما يكون في نقطة تحول حاسمة, يقول جيوفاني أريجي: ان تغييرات تحدث في أسلوب الأداء الرأسمالي، محليا وعالميا، منذ نحو عام 1970م، وان كان الجدل لا يزال دائرا حول طبيعة هذه التغييرات,, ولكنَّ بحوثا وكتابات كثيرة تتفق على ان هذه التغييرات ترقى الى مستوى الأساسيات.
في السبعينات، كان التوجه السائد هو نحو اعادة لتسكين عمليات تراكم رأس المال لينتقل من مناطق وبلاد الدخل المنخفض الى مناطق وبلاد الدخل المرتفع, والعكس في الثمانينات، كان التوجّه السائد هو نحو اعادة مركزة رأس المال في مناطق وبلاد الدخل المرتفع، ولكن، أيّا كان مسار واتجاه الحركة فان التوجه السائد منذ عام 1970م كان نحو حركية جغرافية متزايدة لرأس المال, ان الرأي التقليدي الشائع في العلوم الاجتماعية والخطاب السياسي ووسائل الاعلام هو ان الرأسمالية واقتصاد السوق هما الشيء نفسه، وان سلطة الدولة نقيض الاثنين, اما الاقتصادي بروديل فانه على العكس يرى ان الرأسمالية في نشوئها ونموها وتوسعها تعتمد اعتمادا كليا على سلطة الدولة، وانها هي النقيض لاقتصاد السوق, وفي عبارات أكثر تحديدا، يعتبر بروديل الرأسمالية هي الطابق الأعلى في مبنى من ثلاثة طوابق, وفي هذا البناء، كما هي الحال، في الأبنية المتعددة الطوابق، لا تستطيع الطوابق الأعلى ان توجد إلا بوجود الطوابق السفلى التي تقوم عليها.
والطابق الأسفل، والذي كان الى وقت قريب هو الأكبر، هو الطابق الذي فيه اقتصاد شديد البدائية، وفي غالبيته مكتف ذاتيا.
ويطلق بروديل على هذا الطابق اسم طابق الحياة المادية وفوق هذا الطابق الأسفل تأتي أصلح تربة لاقتصاد السوق، بما فيها من اتصالات أفقية كثيرة بين اسواق مختلفة، وهنا توجد عادة درجة من التنسيق التلقائي، الذي يربط بين العرض والطلب والأسعار.
ثم، فوق هذا الطابق، تأتي المنطقة التي يمكن تسميتها منطقة ضد السوق، حيث يسود قانون الغاب، وتحوم كبار الكواسر، وتلك هي المنطقة التي كانت في الماضي كما هي في الحاضر قبل الثورة الصناعية وبعدها، هي السكن الحقيقي للرأسمالية.
ان اقتصاد سوق عالمي، بمعنى اتصالات أفقية كثيرة بين اسواق مختلفة، بزغ من اعماق الطابق الأسفل للحياة المادية منذ أزمنة طويلة سابقة، قبل ان تبزغ الرأسمالية كنظام عالمي فوق طابق اقتصاد السوق.
يبدو ان الرأسمالية تزدهر ليس بمد جذورها الى أعماق أكبر في الطابقين الادنى للحياة المادية واقتصاد السوق ولكن بانتزاع جذورها منهما.
ان أيامنا هذه تعتبر من أنسب الأوقات للاستجابة لدعوة بروديل وغيره، سعيا الى اكتشاف محل الاقامة الحقيقي للرأسمالية.
وفي ختام هذه المقالة القصيرة أقول: لقد تعالت أصوات، وطبعت مؤلفات، وعقدت ندوات ومؤتمرات وحلقات دراسية، ودارت نقاشات علمية واعلامية حول الرأسمالية,فمن قائل ان الرأسمالية تجدد نفسها، ومن قائل ان الرأسمالية تحمل بذور فنائها في داخلها، ومن قائل ان الرأسمالية في طريقها الى السقوط، ومن قائل ان الرأسمالية تعاني من مواجهة الرأسمالية أي نفسها,ومن ثم، فأي تلك الاقوال والآراء والتنظيرات أقرب الى الصواب، وأصدق واقعا.
ان الأيام القادمة ستكشف لنا حقيقة الرأسمالية ومستقبلها ومآلها.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود ,- عضو الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي - عضو الجمعية العربية للبحوث والاقتصاد - عضو جمعية الاقتصاد السعودية