Wednesday 2nd February, 2000 G No. 9988جريدة الجزيرة الاربعاء 26 ,شوال 1420 العدد 9988



منعطفات
الداء العربي,, وكلب الست!
د, فهد سعود اليحيا

امتلأت أمسيات شهر رمضان الكريم بالمسلسلات التلفزيونية الجيدة, ولم أتمكن إلا من متابعة المسلسل الذي يؤرخ لأم كلثوم، وأكثر ما شدني فيه براعة السيناريو في الرسم الدقيق للشخصيات, وتذكرت وأنا أتابع المسلسل ما قرأته عن حادثة وقعت في أوائل الستينيات: فقد حدث أن عدداً من طلبة التربية الرياضية كانوا يسيرون في منطقة الزمالك لحضور مهرجان رياضي مع كلية أخرى في الزمالك، وفجأة هجم كلب على أحد هؤلاء الطلبة ومزق بطنه بشراسة، وتم تسجيل محضر في قسم الشرطة، وبعد ذلك بينت التحريات ان الكلب المفترس هو كلب أم كلثوم، بالطبع تغير الموقف، وظهر خبر صغير في الصحف المحلية يقول ان المحضر قد أغلق لأن الخدمات التي قدمتها أم كلثوم للدولة تعفيها وكلبها من المسؤولية الجنائية، وبعد أيام ظهر ريبورتاج مصور في احدى الصحف للطالب المعضوض إسماعيل خلوصي حيث صرح بقوله: أنا سعيد لأن الكلب اللي عضني كلب أم كلثوم , مما حدا بالشاعر العامي الشهير أحمد فؤاد نجم أن يكتب قصيدة بعنوان كلب الست جاء في آخرها:
هيّص يا كلب الست هيّص,, لك مقامك في البوليس
بكره تتولف وزارة,, للكلاب ياخدوك رئيس .
بالطبع استخدمت أم كلثوم علاقاتها ونفوذها للملمة القضية، بل من المؤكد أن كثيرين تطوعوا تقرباً منها، وتزلفاً لها، أو لمن هم في السلطة للتدخل حتى من دون طلبها, ولو حدث هذا في بلد غير عربي لتم تغريم صاحب الكلب، وتعويض الضحية، وربما إعدام الكلب دون أن يمس ذلك من قدر أو مكانة المالك، وفي توقعي أن ضحية كلب الست ربما تسلم مبلغاً على سبيل التعويض أو المراضاة ولكن لم يتم ذلك من باب إحقاق الحق، ولكن من باب التكرم والعطف.
أن يهاجم كلب أم كلثوم أحد المارة ليس ذنبها وإن كانت مسؤولة عنه، بيد أن تعاملها مع القضية بهذا الشكل هو المأخذ عليها، وفي النهاية هي مثل باقي البشر لها عيوبها ونقائصها، وليست معصومة عن الزلل ولا ملاكاً، ولكن المسلسل أظهر كل صفاتها الجيدة من ذكاء ولماحية ومثابرة وانضباط وجد وإتقان وسرعة بديهة، ولم يظهر عيباً واحداً مثلاً، أظهر المسلسل عن حق موقف أم كلثوم الوطني الرائع بعد هزيمة يونيو 1967، حيث قدمت حفلات من المحيط وإلى الخليج وبعض من أوروبا تبرعت بدخلها دعماً للمجهود الحربي، ولكنه في نفس الوقت أغفل أن مسابقة رسمية عام 1956 لاختيار أفضل نشيد وطني أو أغنية ظهرت إبان العدوان الثلاثي, وفاز نشيد الله أكبر فوق كيد المعتدي لمحمود الشريف وهو النشيد الوطني لليبيا اليوم وأُعلم هو بذلك وبأن جائزة قدرها 5000 جنيه في طريقها إليه، وجاءت والله زمان يا سلاحي لأم كلثوم في المرتبة الثانية، وثارت ثائرة أم كلثوم وتدخلت لتعكس الأوضاع وظهرت النتيجة الرسمية بأن أغنيتها فازت بالمركز الأول!
إغفال العيوب والمثالب، وتضخيم المزايا والصفات الحسنة، والمغالاة في التمجيد، عند التطرق لتسجيل سير الشخصيات هو ما أسميه تجاوزاً الداء العربي، لأن الأدواء العربية كثر وليس داء واحداً، فلم أر فيلماً أو مسلسلاً يؤرّخ لأحد من المشاهير والقادة والعظماء والكتاب والفنانين سواءً كانوا من المعاصرين أو القدامى إلا وأظهره كامل الصفات، تام المزايا، حلو الشمائل، طيّب القلب، صافي النية، نقي السريرة، طاهراً مطهراً، لا يحقد، ولا يغضب، ولا يحسد، ولا يستمع للوشاة، ولا يتآمر، ولا يسب، ولا يفحش في القول، وكأنه من طينة غير طينة البشر، وهذه نوعية لا توجد إلا في خيال الكاتب، فحتى الملائكة يخطئون وقد يكون خطأهم قاتلاً مثل هاروت وماروت، ومنهم من استكبر وكفر مثل إبليس الرجيم.
وكذلك لم أقرأ مذكرات لأي عربي زعيماً أو كاتباً أو فناناً، ولا عملاً أدبياً مبنياً على سيرة ذاتية للمؤلف إلا وكان هو الصادق الصدوق، العاقل النزيه، الحكيم الحصيف، الأديب الأريب، المؤدب المهذب، الواقعي الرصين، الذي لا يخطئ في القول، ولا يزل في العمل! وأن أباه كان مثالاً في الحصافة والحدب والرعاية، وأن أمه كانت مثالاً في التضحية والحنان والتفاني, وأن إخوته كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها حسناً وبهاء, وأن عمومته أنقياء الجوهر، أتقياء المخبر، بهاة المظهر, وأن جده لأبيه كان فارس الميدان، وجده لأمه كان أوحد الزمان، استثني فقط محمد شكري وهو الوحيد فيمن يحيط بهم علمي القليل الذي ضمن مذكراته المعنونة بالخبز الحافي بعضاً من أخطائه وآثامه، ومثالب أهله.
هذا الداء العربي خطير وخطورته تتمثل في عدة أمور: أهمها القطيعة مع التاريخ والتراث, فكتب التاريخ الرسمية التي تدرس في المدارس بمختلف مراحلها وكتب السير التي تمتلئ بها المكتبات تفرغ الشخصية من إنسانيتها، وتسبغ عليها الصفات الحميدة الملائكية، وتسهب في ذكر المآثر والامتيازات, وذلك نتيجة دراسة انتقائية لأمهات الكتب، وعيون الأخبار، وكتب التراث, فيقع في روع القارئ أن أيامنا الخوالي كانت كلها عدلاً ورخاءً، ومساواة وأمناً، وبحبوحة عيش وراحة بال، حتى ثلاثمائة عام مضت أو حتى الاجتياح المغولي على أحسن الأحوال.
والثاني أن يلم اليأس والقنوط بالمعاصر العربي وتغزو رأسه الأفكار الجانحة عندما يرى أوضاعه الحالية ويقارنها بما تحتويه مخيلته من معلومات مغلوطة فيفقد الأمل في أي تحسن أو تقدم.
والثالث أن يشعر الفرد بدنو قدره، وضعف حظه من الخلق والعلم فكيف سيكون مثل فلان أو علان وهم على تلك الصفات من السمو بينما هو إنسان مأسور في حدود قيود بشريته.
أما الرابع فهو أن العالمين ببواطن الأمور يرتعون فيما يشتهون، وهم مطمئنون بأن تاريخاً بهذه الطريقة سيغفل كل العيوب وسيتغنى بالمآثر، صادقها ومزيفها، ويغفل كل المثالب والأخطاء، وأبشر بطول سلامة يا مربع!
Fahads * Suhuf.net. sa

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

الجنادرية 15

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved