Tuesday 1st February, 2000 G No. 9987جريدة الجزيرة الثلاثاء 25 ,شوال 1420 العدد 9987



قصة قصيرة
أنا ،، وموعدنا الذي أتى

لم يتمكن عساف المقبل من الهرولة مع رفيق دربه سند، تلفت في جميع الاتجاهات، ولم تجد نفسه إلا نفسه وحيدا في دهاليز وأزقة حارته القديمة، نفض عن ثوبه الغبار الذي علق به من الجدران التي تفصل المزارع فيما بينها حيث لا يوجد طريق يسلكه بسهولة، تذكر تحذير أبو سند له في كل مرة أنا ماقلت لك لاتجي مع الخرقة الباب الخلفي ، تعال مع الباب، افتح الباب وادخل ولكن هذا التحذير ربما فقد في المساحة الفارغة من رأسه الكبير.
تمتم بمفردات غير معروفة، وانتابته حماقة مصطنعة، ربما أنه افتعلها ليلفت انتباه الشايب أبو سند، الذي يأخذ من أطراف مزرعة ابنه الوحيد سند سجلا يسطر فيه ذكرياته الحلوة التي حفل بها تاريخه الطويل قبل أن يصبح عالة حتى على أشجار ونخيل مزرعة ابنه سند.
وأحيانا يأخذ من بعض الأخاديد التي جرفتها السيول في أطراف المزرعة نوافذ يطل منها على من تبقى من أصدقائه القدامى، وعلى المارة ومرتادي الجر طريق المحاذي لجبل السمراء .
ماذا يريد عساف التبن؟ أدار ظهره له لأكثر من مرة، ليوحي له بأنه لا يرغب في زيارته الثقيلة، ولكن عساف ببلاهته المعهودة اقبل وهو يقوم بدلا من أبو سند بالترحيب بنفسه داخل المزرعة، وعندما اقترب منه أحس من نظرات أبو سند أنه غير مرغوب فيه، وأن عليه العودة من حيث أتى.
لو تمهل هذا الشيخ قليلا، وأعطاني فرصة أخرى للحديث معه، والتحدث إليه، لكنه عنيد، وراسه يابس سرح عساف قليلا، وباغته أبو سند بصوت أجش أنت وش جايبك، وش تبي من حلقي، ليش ما تجي عقب صلاة العصر مع الرجال وتقهوى مثلهم .
عاد عساف أدراجه بعدما فهم من مضمون كلام أبو سند أنه مشغول الآن، وأنه مدعو بعد صلاة العصر لتناول القهوة مع الجماعة.
انتفش عساف كالديك، ورفع صدره كعصفور امتلأت حنجرته قمحا، واستغل وجود مجموعة من الضويف في مجلس ابو سند بالعشة وقال بعد أن أشار بإصبع سبابته: ياجماعة الخير، والله العظيم، كلمة، كلمة وحدة،، وحدة بس، قلتها بعد رحيل سند بمدة طويلة، ولم تعجب هذا الشيخ الهرم، قلت له: الله يالدنيا، تصدق ياعمي إني أتذكر صديقي سند عندما أستمع إليك أو أنظر إليك تتحدث, وأردف بصوت عال هذي بالله عليكم وش فيها؟ ، فجأة، نهض أبو سند من مجلسه، وظن الحاضرون أن ما فعله أمامهم كان إيذانا ببداية غضبة شرسة لم يتوقع أحد من سيكون ضحيتها.
سحب ملقط الجمر من وسط النار ، وتجول ملوحا به، أرجاء العشة، أطرافه ترتعش ، وعيناه تقدحان بالشرر:
: وأنت ياهالسفلة ما تجي لمجلسي إلا على شان تذكر كلبك،،،، باهالكلب؟ لا، قل بعد أني أشبهه يوم أنت واياه تسرقون نعجة راعينا ابو شلاش وتبيعونه بالمحطة على شان تشرون بثمنه تتن وبيبسي لكلابكم .
: لا ، حاشاك ياعمي، عن السوالف الردية الله يهديك،،، لكن ياعمي، بصراحة، أنا ماقلت شيء غلط أنا على نياتي ياعمي,, أنا أظن إني مدحتك،؟
: تمدحني بولد,,, لكن خله على الله.
تردد في إتمام ما قد عزم على قوله خوفا من شماتة الجالسين، وهو الذي يوهمهم دائما أن ابنه بخير وأنه على صلة قوية به، ولقد حاك آلاف الأكاذيب والخرافات ليدفع عن ابنه شر ألسنتهم الحادة، وليوحي لهم انه بخير، وانه لا يحتاج إلى أي واحد منهم.
تمتم عساف بكلمات غير مفهومة، وتلفت طالبا من الحضور البحث له عن مخرج، وأردف موجها حديثه إلى من حوله:
: يشهد الله أنني قلت له مرارا أن كل ما يقوله صحيح، وأن هذا الحديث الذي يحدثه أبو سند لضيوفه هو ما ينبغي أن يسمعه ويستفيد منه كل من هم في عمري وأعماركم ياجماعة، وذكرت له أيضا أن كلامه وطريقته في الحديث تعجبني، وأنني أحضر إليه، وأبحث عنه عندما أشتاق إلى متعة الحديث معه، وأن أحاديثه عن مقامراته ورحلات الصيد التي كان يقوم بها برفقة والدي وأعمامي كانت مثيرة، وممتعة.
حاولت لمرات متكررة أن أوضح لوالد أعز أصدقائي أنني آسف، وأن ما فرط به لساني الخبيث هو زلة لسان لن تتكرر، ووعدته بأنني سوف أبذل كل ما في وسعي لإرضائه.
للمرة الألف أجد أن محاولاتي تتهشم على صخرة ازوراره، وتعمد الانشغال ببالهجيني،، أو بملء عظمه من تتن الشاوري وتجاهل وجودي بالاستمرار بالغناء مرددا هذا البيت الذي لم أستطع فهمه حتى الآن لاصار بالدنيا صديقك يخليك، مامن ورا عوج النصايب صداقه.
في حين أنه لا يفتأ يرمقني بنظرات حادة حارقة بين الحين والحين توحي لي بأنه لا يطيق رؤيتي بعد سفر ابنه سند، وتركه المدينة إلى مدينة أخرى بعيدة.
تدخل أحد الضيوف قائلا: يابو سند، المسامح كريم، والرجال يعتذر ،، ويودك، وما بقي من العمر كثر ما مضى، وحنا جماعة وحده، الواحد منا يدرأ خطأ رفيقه لو هو مخطي أغمض أبو سند عينه اليسرى طالبا من الضيف عدم التدخل لأن السالفة ما تخصك!
سند بعد سفره بأعوام أوكل زميله عساف المقبل لشراء مزرعة ورثة عمه ابو سعدي بعدما عرضها وكيل الورثة للبيع لاقتسام تركة مورثهم، وطلب من عساف تأجير منزلها، وإسكان والده بخيمة صغيرة في إحدى زواياها.
سند العلي لا يتذكر متى تعرف لأول مرة على عساف، ولكنه من المؤكد يتذكر أنه رآه طفلا مع والده في مجلس والد سند، ولا ينسى في تلك المرة أنه لم يحاول التحدث إليه، ولكنه لا يتذكر فيما بعد متى أصبحوا صديقين حميمين يشتركان في صيد الحجل، وتسلق جبل السمراء والسير في عرض الوادي صباحا ومساء لا يفرقهما عن بعضهما إلا النوم، وما بين لقائهما وفراقهما تنسج آلاف القصص التي ليس لها نهاية من اللعب والمضاربات والمضايقات وسرقة التمر والرمان ومحصول الحنطة من المزارع المطلة على الوادي، والتسابق مع الحصاني على اقتناص دجاج الجماعة، والعبث بكل ما تقع عليه أيديهما.
عساف المقبل طائر فقد توازنه منذ أن فر عنه صديقه سند، يتجول بين مزارع الحارة، يقتات الإشاعات والأخبار، وينسج أحلاما خيالية، وشهد كل التحولات التي حدثت في حارتهم، أدرك وعيه بعضا منها وحزن ، وبكى، وفرح، وضحك، ومرت البقية عليه مرور الكرام ولم تخدش وعيه، وكأن الأمر لايعنيه، ولكن حدثا واحدا لا ينساه في حياته، وكان له دوي لا يزال يدمدم في صدره وهو ضياع معالم الوادي مسرح الحارة !، وتشويهه، وفقدانه المهام الكثيرة التي كان يسديها للحارة ولسكانها.
يجد في مجلس والد صديقه سند ميدانا يمارس فيه مهاراته في الاستماع والإعجاب والإشادة بكل من لديهسوالف زينه ويتحدث في المجلس.
أمضى بعد ذلك كل المدة التي غابها صديقه سند عن المدينة.
يحرق الساعات والأيام والليالي في انتظار ما قد تحمله له من أخبار من مرتادي مجلس أبو سند وخصوصا أن سند وعده بتدبير عمل له في الشركة التي يعمل بها.
تنازل عساف تدريجيا عن كل الشروط التي يريدها في وظيفة المستقبل وأكد على رشيد الذي يسافر لجلبالبنزين من المدينة التي يعيش فيها سند، أنه على استعداد للقبول بأي وظيفة كانت.
يمسد الشيخ أبو سند لحيته البيضاء الكثيفة ويقذف عساف بنظرات متتابعة تنذر بهجوم مباغت أعد له بعد نفاد صبر وقلة حيلة، وبعد يأس من عدم قدرته على إعادة ثوره إلى حظيرته التي هرب منها قبل خمسة وعشرين عاما: لولا سند لما كنت حتى مكنتك من دخول شبك المزرعة وإزعاجي في كل لحظة، ولكن ينبغي أن تحمد الله لأن أملي في عودة فلذة كبدي لم ينقطع، ومن المؤكد أنه سيسأل عنك عند عودته مباشرة، وأخشى أن يغضب ويعود مرة أخرى من حيث أتى إن هو عرف بخبر طردي لك، ككلب.
الذي مكنك من اقتحام خلوتي في كل صباح هو ذلك الابن العاق الذي اسمه سند، وهو الذي دفعني لأن أروي لك قصصا خرافية لم يكن لها أساس في الواقع، وهو أيضا من تركني أهيم على وجهي على غير هدى في صحراء الخيال، وأجعل من والدك وأعمامك وجميع أفراد عائلتكم الموقرة أبطالا خرافيين في صحرائي المجدبة!، وهو أخيرا من لم يقدر شيخوختي ويختار له صديقا يفاخر به ابناء عمه وأقاربه الذين يحرصون على انتقاء أصدقائهم بعناية فائقة، ويحرصون على أن يستفيد من هذه الصداقة جميع من يعرفون ومن لا يعرفون, أما أنت ياعساف ياوجه العنز فمنذ ربع قرن وأنت تتردد على مجلسي، تتلقف مني أخبار ابني العاق سند، تركت المدرسة، ولم ترض العمل بوظيفة شريفة تدر عليك رزقا.
هل تعتقد أن من ليس فيه خير لوالديه سوف يغدق عليك كل الخير ويحضر ليحملك على أكتافه ويجلسك على مكتب الوظيفة التي تحلم بها؟ وبلهجة ساخرة معهودة عنه أردف:
هل تظن أنه انتظر كل هذه المدة الطويلة يبحث لك عن وظيفة؟، ويتأكد من أنها تناسبك؟، وأنها لا تصلح إلا لك؟ ، ولا تصلح أنت إلا لها؟.
وظننت ، ياثور سلبادا ويأيها المخدوع بآمالك وبخرافاتي أني أنا المدرسة التي سوف تحشو رأسك مثلما حشت راس الحمار الثانيسند بالعقوق والجحود، ونكران الجميل، والجري كثور أبله لا يرى إلا قدميه خلف زوجته سعدي,, الله لا يعيد الساعة اللي عرفته به، تقارب حاجباه، ومط شفتيه إلى الأسفل، وسقطت من عينيه دمعة برقت وانحدرت حتى مؤخرة ذقنه، وضاعت في بياض لحيته الكثيفة
الله يرحمك يا بوزيد أبو زيد ياجماعة يقول لي أنه سامعه باذنه، ما يقول يقولون، سامعن سعدي باذنه تقول له: كان تبينا نرجع ونعيش بمزرعتك سجله بدار العجزة، سجله بدار العجزة وفكنا من شره, أنا تزوجتك أنت، أنا ما تزوجتك على شأن أخدم أبوك، تسمع وإلا لا ، أنا تزوجتك أنت،،،.
عاد يقول أبو زيد: يابو سند: كان هالجدار اللي بجمبك تحرك فانه تحرك، النذل.
ويقول ابو زيد إن الله فكه من كذبه، كذوبة يابو سند يقول: مافيه واحد بالحارة ما ألصقت به سالفة, إن كيدهن عظيم، , سكت برهة وأجال نظره في وجوه الحاضرين ليتأكد من تفاعلهم مع ما يقول.
ردد الحاضرون: عظيم!،
علق عساف ضاحكا: ياعمي أبو سند، كان تبي الصدق، والله، أنا ما أشوف فيه فرق بين كذبك وكذب سعدى، أنت تكذب وتضحك، ولا نصدقك، وسعدى تكذب وتبكي، وتخبر ولدك سند، رحيم، ويصدقها.
رد ابو سند بحنق قاصدا إسكاته:هها زين، ما تصدق على الله لقيت لك سالفة!.
غرز أصابعه في مؤخرة شعر رأسه ولمعت عيناه كبرق خاطف، أجال بنظره بعيدا كأنما يتهيأ لتوريد شهادته أمام قاض والله لو ان فيه خير لوالديه كان ماطاع سعدى وأجر البيت وتركن مثلاللوقي بين العشة وغرفة المكينة والخيمة، لكن ما أقول إلا الله حسيبه يوم دنيا واخره.
وأنت ياعساف الشمتة تريد مني أن أكرر لك ماتعتقد أنه كذب، تريد مني أن أكرر لك سوالف الحدرات يوم الواحد منا ما يشبع فصم، والنشيط منا هو اللي يروح للعراق مشي، على رجليه، علشان يشبع تمر ويجي.
تريد مني أن أكرر الكذب أو ما تعتقد أنه كذب لآلاف المرات، وتحرمني، بعدما شخت وتقدمت بي السن، من التوبة من هذا الكذب الذي مارسته عليك وعلى الثيران مثلك كل تلك المدة الطويلة ومنذ أن بدأت مشواري مع الوحدة ومنذ أن بدأ قلبي المرهق يعتصر بالألم والحرقة بعد وفاة أم سند ورحيل ابني سند، لكن ما أقول ، ياعساف ، يابو مقبل إلا الله يونسك بالعافية، ويخليك، ,,,,, و,,.
صالح بن عبدالعزيز العديلي



رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

لقاء

نوافذ تسويقية

القوى العاملة

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved