حفظ الفروع,, و ,, تضييع الأصول!! (1/5) د,علي بن محمد التويجري |
حفظ الفروع وتضييع الاصول,, عنوان لافت,, أسر انتباهي وشدني وجذبني إليه, قرأت الخاطرة التي كتبت تحت هذا العنوان فظلت تشغلني مشغلة ملكت على نفسي شهورا متعاقبة,.
شغلتني إلى الحد الذي جعلني أتساءل طوال تلك الفترة كلما هممت بأمر أو فكرت في موضوع,, أو عرضت لي حادثة في طريق أو شاهدتها في التلفاز أو رواها راوٍ,, لم يحدث شيء من هذا أو ذاك إلا وساءلت نفسي من بعدها ترى أهذا الأمر وذاك الموضوع وتلك الفكرة فرع أم اصل؟
وهل إذا فكرت فيها أو تمسكت بها أأكون متمسكا بفرع أم بأصل؟
وإذا تشددت في المحافظة على أمر رأيته فرعا ,, هل تنسيني تلك المحافظة أصلا لا ينبغي أن ينسى؟
وهل أتناقض مع نفسي أحيانا فأحافظ على فرع من الأمور وأهدم عامداً أو بصورة مواربة أصلا لايجوز هدمه أو نقضه أو إغفاله؟؟
والذي صاد هذه الخاصرة وسجلها تحت هذا العنوان ماذا أراد لنا من حكمة نجتنيها من وراء تدبرها؟
وهل هي حقا تخفي تحت جدارها كنزا يستخرجه الفرد أو المجتمع متى بلغ أشده فكرا وتأملا,,؟؟
من هنا طرحت أسئلتي كما تواردت إلى نفسي كي أشرككم معي بالذي أرهقني.
فالذي صاد الخاطرة العميقة هناك يصيد في الوقت نفسه عقول الذين اجتذبتهم إليها ليتدبروها متى عرض صيده عليهم.
وأنا هنا أعرض بضاعتي صريحة لا أراوغ فيها مراوغة الصياد يقدم طعما يخفي سنا مسنونا أو يدفن فخا في التربة,.
لقد أردت أن تتأملوا طويلا هذا العنوان الصيد ,, حفظ الفروع وتضييع الأصول وأن تعايشوه,, وأن يأخذ منكم بالعدل ما أخذ مني، فتسألوا أنفسكم مثل ماسألت في أول هذه الصحائف, فقد أحسست بحاجة حياتنا الماسة أفرادا وجماعات لفض التشابك واللبس والتعمية بين الفروع والأصول في شؤون حياتنا كلها ومراجعة شرعية توزع اهتماماتنا بينهما، وما يحدث أحيانا من مواراة للأصل خلف الفرع ربما إلى حد الضياع,,!!
فإذا خرجت من نطاق نفسك لتقف منها موقف المحقق العادل مع المتهم وأجبت على تساؤلاتها، فطف بفكرك فيما حولك ومن حولك وأعرض بضاعة أسئلتك على الناس، والمؤسسة والمصنع والمزرعة والمدرسة والمختبر والجامعة, سل من يعلونك إن استطعت ومن هم دونك إذا وثقوا فيك ودوِّن إجابتك وملاحظاتك المتأملة، وذلك محاولة للإجابة على مثل تلك الأسئلة.
هل ترى تطبيقات لهذا المبدأ الهدام حفظ الفروع وتضييع الأصول؟
هل تتسع تطبيقات هذا المبدأ أم تضيق؟
هل هناك سمات للمجتمعات التي تطبقه نعرفها بها؟
وهل لمجتمعات أخرى ترفضه وتطارده ملامح ومكانة مختلفة ندركها ونميزها بها؟
***
لقد روى في شرح هذا المبدأ الخطير حفظ الفروع وتضييع الأصول قصة طريفة عن إخوة يوسف عليه السلام، ذلك أنهم حينما سمعوا صوت المنادي:
إنكم لسارقون ,,! قالوا: تا الله,, لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض! وما كنا سارقين ,, ولقد صدقوا,, ولكن,,!!!
جاء في التفسير أنهم لما دخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا تتناول ماليس لهم,, فكأنهم قالوا: لقد رأيتم أننا كممنا أفواه إبلنا ومنعناها عن قضم حزمة أو حزمتين من هنا أو هناك,,!! فكيف نسرق؟
أي كيف لمن يدقق هذا التدقيق فلايحل لنفسه أن تأكل إبله النزر اليسير من زروع غيره ,, كيف له أن يستحل السرقة؟
ونسي إخوة يوسف في غمار دفاعهم الحار، ذلك التفاوت مابين التورع عن اختطاف أكلة لايملكونها، وبين ارتكابهم لجريمة إلقاء أخيهم يوسف عليه السلام في الجب معرضا إما للهلاك أو للبيع بدراهم معدودة إذا انتشله بعض السيارة, ولقد حملتني القصة حملا إلى سورة يوسف أتزود منها بما نقص من الذاكرة,, وهرعت إلى التفسير لأحيط بالأجواء التي حملت أبناء يعقوب بن اسحق على الوقوع في جريرة حفظ الفروع وتضييع الأصول ولأتملى من مشاهد حركة الكيدين المتواجهين,, ومنتهاهما في الفصل الختامي ملامح الكيد والتدبير للشر وتتجلى في أفانينه من الحبكة والتنفيذ الماهر إلى التلفيق المرتب,, حين يتشيطن الإنس,,!
والكيد المضاد تدبير لعودة الخير وسيادته,, بالذكاء البشري الخير وعناية الله تبرق وتشرق من خلال مجريات الأحداث.
(إنهم يكيدون كيداً، وأكيد كيداً، فمهل الكافرين، أمهلهم رويدا) (الطارق: آية 15 17).
,, فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه، ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون! قالوا: وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون؟
قالوا: نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم.
قالوا: تا الله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، وماكنا سارقين,,!
نتذكر مع استنكارهم للاتهام أنهم مفسدون في الأرض,, المشاهد الهامة التالية تعلمنا من فنون مكائد النفس البشرية حين تنحرف فطرتها وأسلوبها في التحايل وتدبير للجرائم,.
(يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف؟؟ وإنا له لناصحون), وفي موقع آخر,, وإنا له لحافظون,, وفي موقع ثالث لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون!!
وننتقل للمشهد الصريح وبعد الاختلاء بفريستهم,, نتعلم من هذه الواقعة بين يدي القرآن الكريم كيف يمكن للإخوة أن يصنعوا حين ينزغ الشيطان بينهم فيستجيبون له اقتلوا يوسف، أو اطرحوه أرضاً ,, ثم,, وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب!!!
ثم المشهد التمثيلي الملفق بعد الجريمة: وجاءوا أباهم عشاء,, يبكون! .
وتدبير الأدلة الباطلة: وجاءوا على قميصه بدم كذب!! .
وهكذا نغلق القوس تعليقاً على قولتهم ماجئنا لنفسد في الأرض,,! )
وهكذا فإن أعمال الإفساد في الأرض,, تحتاج للتدابير الدقيقة السابقة، ثم مضيا في هذا الطريق المخيف,, إعدادا للجرائم: الإعداد لمسرح الجريمة لتنفيذها بلا إمهال، الترتيبات اللاحقة لإخفاء الجريمة والتنصل منها، الثبات والصلابة على اثار الجريمة (عدم التأثر بحزن الأب وهو أبوهم).
تلويث المجني عليه عند أول بادرة ومتى سنحت الفرصة إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ,,!
قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟,, قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، كذلك نجزي الظالمين, فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه,, كذلك كدنا ليوسف، ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله,,!
نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم.
قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل!!!
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم, قال: أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون!
قالوا: يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً، فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين.
قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده, إنا إذا لظالمون ,هذه هي المشاهد التي تنتهي بمجموعة الجب إلى اتهام يوسف عليه السلام بالسرقة وهم يعلمون من أنفسهم وعنه مايعلمون!,, أردت أن أنقلكم بها لمعاشرة أحداثها ولأجواء الانفعال بها، لتكشف لنا مدى جهود العقل الضائعة المبددة حين يذهل الناس عن الأصول ويتمسحون بالفروع، إن العقل البشري وحده دون حراسة من عقيدة,, أو ضمير مثل قوى الذرة حين تنطلق من قمقمها بلاكوابح,,! .
والله الموفق.
|
|
|