سنا البرق
ماذا بقي من الكرامة,,؟
وكم ليترا بقي من الدم في الجسد؟
حال الجوع والخوف,, والعطش والدمار,.
نفسها تصرخ من الأنين والألم,.
ونحبس أنفاس البكاء,, في هجير وبرد,.
يتمزق كل يوم فيه علم,.
أين الهَنا ؟ أين السعادة؟
أين راحة البال؟
أين طمأنينة القلب؟ وهدوء الأعصاب؟
كل شبر يقطر دما على أرضنا,,!
وكل ركن يبكي من رحيل,, مر,, لأحد أبنائنا,.
لم يبق في الطرقات حجارة,, فكلها,, أوصدت الشوارع!
وأصبحت أكواماً تنقلها الشاحنات الاسرائيلية الى خارج أسوار المدينة,,!
أية أسوار,, وهل لها حدود هذه المدينة؟
انها فلسطين ,, تلك الخيمة بلا أروقة,.
ومركب بلا مقود أو اشرعة!
بلد,, تتنازعه قوة الطغيان.
وجبروت يهودي لا يعرف للعربي,, أو بالأحرى الفلسطيني أي طريق للكرامة أو التكريم,, غير الذل والهوان,,!!
ما هو ميثاق الشرف عند هؤلاء اليهود,, لا شيء,,!
ماذا يعني العهد,, حبر على الورق,, لا شيء,,!
متى,, متى,, متى,,؟؟؟
سؤال يتكرر في ذهنية وقلب كل فلسطيني,, وعربي,, تجري في أوردته دماء العروبة الخالصة وبطولة صلاح الدين وأفعال القادة المسلمين.
***
تدخل العجوز ذات التجاعيد الكثيرة في وجهها إلى منزلها، وعائلة ابنها ذي الثلاثة صبية,, وفتاة في الشهر السادس من العمر,, ولدت بعد مخاض أمومي عسير بين المدرعات الاسرائيلية وأصوات القنابل اليدوية المدوية.
خرجت إلى الدنيا وهي تسمع رصاص البنادق بدلاً من الزغاريد,, تشرب عصارة الأمراض كدراً بدلاً من آخر منتجات حليب الأطفال ، رضعت أصبع الندم وهي صغيرة بدلاً من زجاجة الحليب ذات الجودة الصناعية الفائقة,.
العجوز السمراء بفعل عوامل الزمن ,, تضع منديل رأسها الأبيض المتقادم,, تهم بالجلوس,, يختل توازنها فتسقط قريباً من ابنها الذي يسارع في مساعدتها للنهوض,, يحاول أن يخفف عنها عبء السقوط وهي تقول له: إن السقوط أرضاً باختلال توازن الانسان في منزله وهو ينعم بالحرية أفضل! مليون مرة من أن يسقط واقفاً على قدميه وعلى عتبة داره,, من القهر والظلم والتعسف, ونحن كذلك,, لم يبق في العمر أكثر مما مضى يا بني,, ولن أتحسر على فقد حياتي بقدر تحسري على أن وطني لم يرجع، وتراب بلدي يؤخذ بسهولة كالبساط يسحب من تحت أقدام أبنائها,, أنا يا بني,, لست أتوجع على عجزي عن الصمود,, ولا عن التصدي,, ولكن أتوجع من ألم الفؤاد ووخز الضمير وحياء من الرب عن استرداد بيت من بيوت الله,, فهذا هو ألمي يا ولدي,, وهذا هو جرحي الذي لن يندمل حتى وان كنت أرقد تحت الثرى أو أرقد بجوار صندوق القمامة,, هذا اذا أكرمني العدو,, وكان كريماً معي وابقاني بجوار ذلك,, لأشم رائحة بقايا وطني,, ورماد الابطال الفدائيين.
تتحدث زوجة الابن أم نبيل وهي تفرد الفراش المتمزق لابنتها الصغيرة لتنويمها قائلة: لا عليك يا خالتي، إذا أنت أو نحن اندثرنا واصبحنا كسابقينا,, فهؤلاء الصبية كفلاء وأكفياء لان يبذلوا ويقدموا ما عجزنا عنه نحن النساء، فانتظري إن غدا لناظره قريب .
الابن يجلس على فرش قديم يتلوى تحته ألماً لكثرة الجلوس عليه,, وهو يلوك قطعة من البلاستيك، ويسمع حوارهما باهتمام,, الى أن استفزته كلمة زوجته عندما أشارت إلى الصبية الصغار بأنهم أكفياء,, مما جعله ينتصب واقفاً ملوحاً بقطعة البلاستيك,, قائلاً: لن أظل إلى أن يكبر هؤلاء الصبية,, لأصبح عندها شيخاً كبيراً لا وقار ولا كرامة,, سأذهب الآن يا أمي الى مجابهة هؤلاء الأوغاد وسأسحقهم وأدمرهم,, بقدرة الله قدر استطاعتي يركل ما أمامه من أوان نحاسية ,, يهرول مسرعاً,, ينظر إلى الجدار بحسرة، ويطلق تنهيدة ألم بتمني لو كان لديه بندقية معلقة على هذا الجدار الأخرس,, ويتذكر كيف أخذ سلاح الكرامة، منه عنوة,, عندما ضربوا زوجته وأمه,, وخروجهم وزوجته تعاني من ركلات المتوحشين في بطنها وهي حامل بابنتها,, يبصق على الجدار أماماً وجانباً وهو يهّزئ نفسه ويستهتر بحاضره وماضيه الذي أفناه,, يسأل نفسه,, من أين لي الآن بسلاح؟! كيف لي أن أحصل على ذخيرة,, إذا حصلت على السلاح؟؟ يتذكر أبناء حارته وأصدقاءه,, يقرر أن ينتظر إلى المساء,, بعد أن يظل الجميع في سبات عميق.
يرتفع ستار الفوضى والانتشار,, يزحف كالسلاحف جانبا من جانب زوجته لئلا يوقظها خشية الفزع,, يحبو على أعضائه الأربع كالطفل الصغير,, يتسلل بخفة إلى الخارج يفتح الباب قليلاً,, يصرصر,, تتحرك الزوجة والأم في آن واحد,, يهدأ في كمون تام,, بضعة ثوان بعد أن هدأت حركتيهما,, يفتح الباب ويغلقه خلفه خشية أن تستيقظ أمه أو زوجته أو يراه أحد من أفراد العدو ويقتله, باعتبار حظر التجول ليلاً !.
يسحب نفسه زاحفاً على الجدار كالأفعى,, مرة ينحني,, وأخرى يفرد قامته,, إلى أن وصل إلى منزل أبو صلاح ,, ينظر من شقوق الباب الخشبي إلى الداخل فلا يرى سوى فانوس صغير مضاء ومعلق فوق خشبة صغيرة ناتئة من الجدار,, ينظر,, لا يميز أجساداً أو بشرا.
يطرق طرقاً خفيفاً على الباب,, ثم يكف,, لئلا يلفت انتباه أحد يقظ, يعاود طرق الباب من جديد,, وإذ به ينفتح,, ينتظر أن يخرج إليه أحد ليسأله من يكون,, لا أحد البتة,.
يدخل رأسه مقرا من الباب واذا بيد قوية تجذبه إلى الداخل,, يصرخ,, أنا أبو نبيل,, يا أبو صلاح,, أنا أبو نبيل,, يا أبو صلاح,, تكف اليد القوية الجاذبة عن الخبط في جسد أبو نبيل ,, يضغط على الجزء الذي يستطيع أن يلمسه من جسده,, ليفركه من الضرب,, ينظر إلى الماثل أمامه,, وإذا هو أبو صلاح ,, يتبادلان التحية,, ويعتذر كل منهما للآخر,, فيوقظان بقية الرجال,, وكل منهم يفرك عينيه عن النوم,, يلقي عليهم السلام,, وعقل كل منهم يسأله عن سبب وجود أبو نبيل بينهم وفي مثل هذه الساعة، بادره أحدهم بالسؤال!!
أبو نبيل هل أنت جاسوس للعدو؟ يرد أبو نبيل بكل تأفف واشمئزاز ما الذي تقوله يا حاتم ؟ لقد أتيت لاخبركم بأنني قد قررت عمل خطة نحبط فيها العدو ونرد ولو جزءاً بسيطاً مما سلبه الأوغاد من أرضنا ان استطعنا, يتوثب الجميع متحفزين لسماع ما سيقوله أبو نبيل عن هذه الخطة، الجريئة, حركة خفيفة بالخارج بعيدة,, ثم تقترب الحركة,, واذا هي صوت أقدام تمشي، ليست لشخص بل لاثنين أو يزيد، يهدأ الجميع,, يتوقف المشي، تعود نفس الحركة، وهذه المرة أمام منزل ابو صلاح ، يهرع الجميع كل إلى فراشه تظاهراً بالنوم، يركل أحد الجنود الاسرائيليين باب المنزل بقدمه، ينفتح، يدخل ثلاثة جنود من أفراد العدو، أخذ أحدهم يرفع الغطاء عن أبو صلاح ورفاقه واحداً واحداً، ليطمئن أنهم نائمون، وفي هذه اللحظة كان أبو نبيل يرقد تحت سرير أبو صلاح ، متشبثاً بالحدائد المتشابكة,, أسفل السرير,, التصاقاً حتى لا يراه أحد من هؤلاء الزمرة الطاغية,, عندما ينظر بحثاً عن عناصر مختبئة.
يسمع أبو نبيل أصوات الأواني وهي تتدحرج بفعل أقدامهم عند خروجهم,, وأصوات رشاشات توضع على الأكتاف تمنى حصولهم عليها .
سبع دقائق تمر مليئة بالخوف والرهبة تبرز فيها العروق ناتئة هلعاً، يهدأ بعدها كل شيء,, ويخيم السكون على المنزل,, لِمَ نسميه منزلاً وهو عبارة عن غرفة وحمام فقط,, مطبخهم أمامهم بجانب أسرتهم الحديدية .
يظل الجميع هادئين بعد السبع دقائق,, ثلاثا أخرى,, ليتأكدوا من أن لا أحد يترصدهم داخل الغرفة,, يفزع كل من مرقده,, ومسامعهم منفتحة لسماع خطة أبو نبيل ، وكلهم حماس بعد هذه اللحظات القاسية التي أشعرتهم بالخوف والإهانة ، وجردتهم من شجاعتهم.
يبدأ أبو نبيل بسرد تفاصيل الخطة ابتداء من خروجهم من منزل أبو صلاح واتجاههم إلى مقر مركز قيادة العدو,, ودخولهم ساحة القتال والوصول لمخزن الذخيرة الاسرائيلية,, ومن يقع فعليه تحمل نتيجة وقعته,, فلا اهانة بعد اليوم ,, مللنا من الحجارة , تعاهد الجميع على أن يكونوا إخوة لا يدخل الشيطان بينهم ولا يفرقهم سوى الموت في سبيل الوطن، وضعوا أيديهم في أيدي بعض ليضم كل واحد منهم الآخر مهنئاً اياه على بسالته وشجاعته وفدائيته.
يسأل حاتم: ماذا سنفعل الآن لابد من ورقة وقلم لنخطط، حتى نعرف الطرق المؤدية إلى مخابئ ومكامن الجنود الاسرائيليين؟.
أبو نبيل: عين الصواب يا حاتم ، فالخريطة هي ما نحتاجه للوصول إلى مخازن الأسلحة أولاً، ومن ثم أماكن استراحات جنود العدو، وعلينا قبل أن نبدأ بوضع الخطة مرتبة في أذهاننا واستيعابها ومن ثم نرسم الخريطة ونوزعها علينا.
الجميع بصوت واحد، هذا رأي حسن وصائب، اتفق الجميع على أن تكون الساعة الثانية عشرة ليلاً هي بداية الهجوم، وعلى من يمسك ألا ينطق بأي كلمة مهما كانت الوسائل المستخدمة لارغامه على الحديث أوالادلاء بأي معلومات، فالموت في سبيل انقاذ الوطن من شراذمة كهؤلاء اشرف من أن نموت في عقر دارنا وعلى أرضنا.
جلس الجميع في منزل أبو صلاح ، وهم ينتظرون عودة أبو نبيل من عند عائلته، لذهابه للاطمئنان على عائلته وليخبرهم بالا ينتظروه، فهو سيدخل معركة,, إما أن يكون منتصراً وإما مقتولاً لا مهزوماً ولكن لا للهزيمة.
ينظر حاتم إلى ساعته بعد أن سأله رفيقه أحمد ,, انها تقترب من الحادية عشرة والنصف وخمس دقائق، وأبو نبيل لم يعد بعد! الجميع يعيشون لحظة من القلق لتأخر رفيقهم أبو نبيل .
ينظر أبو صلاح إلى ساعته، لقد قاربت الساعة على الثانية عشرة وما كاد يتم، إلا وسمعوا طرقاً على الباب، فأوجسوا في قلوبهم خيفة, أخذ ينظر بعضهم إلى بعض، وكل منهم يقول في نفسه ان هذه ليست طرقة أبو نبيل ؟ فمن عساه أن يكون؟ ظلوا لمدة ثلاث دقائق وهم صامتون لا يلوون على شيء!!.
صرخ حاتم قائلاً: أشك أنها امرأة,, فهذه حركات امرأة أمام الباب وليست رجلا.
همّ أحمد بالوقوف لفتح الباب,, وإذا به يطرق,, عرف بعدها أن هذا هو طرق أبو نبيل ,, ابتسم الجميع.
فتح أحمد الباب,, وإذا به أمام امرأة عجوز,, وكانت المفاجأة والذهول امعنوا النظر وإذا بها أم محمد ! والتعب كان بادياً على محياها وشعرها متطاير من تحت المنديل أمسكها أحمد,,لئلا تقع من شدة الاعياء والتعب,, بمساعدة أبو صلاح ,, أدخلاها إلى الداخل,, وقدما لها الماء لتهدأ من روعها,, جلس الجميع ينظرون إليها بشغف وفضول لمعرفة ماذا بها؟ وما الذي ستخبرهم به؟ فأي خبر سيىء ينتظرهم؟ أبو صلاح وأحمد يقفان بجانبها وحاتم وخالد أمامها جاثيان على ركبتيهما قبالتها على الأرض.
بعد أن هدأت ثائرتها قليلاً,, طلب منها أحمد أن تتكلم وتقول ما لديها هذا كله والساعة كانت تشير إلى الثانية عشرة والربع,, ولديهم موعد,, أجهشت أم محمد بالبكاء المرير والنواح,, وهي تردد أخذوا إبني محمد ,, أخذوا ابني,, ردد الجميع بصوت واحد لا حول ولا قوة إلا بالله ,, حاتم يهمس لأحمد: يا سبحان الله كأنها تعلم بخطتنا ، سألها أبو صلاح : كيف أخذوه,, هل حضروا إلى البيت واقتادوه؟ أم كان يتجول ليلاً كعادة الشباب المندفع؟ أم مشتبه فيه؟ أم ماذا؟
ردت أم محمد وهي تبكي قائلة: لقد دخلوا بعد أن كسروا نافذة منزلنا، قلبوه رأساً على عقب، جذبوا محمد من سريره، أخذوا يسألونه وهم يبصقون في وجهه تارة وأخرى يضربونه على عنقه,, ويداه مقيدتان خلف ظهره، وهو ينظر إليهم بعين الفزع والجزع,, لا يدري من أمره شيئا,, ولا يعرف ما الخطب؟ وأحدهم يجره من شعره والآخر يركله بقدمه,, وذاك يسحبه بقميصه,, وإبني يتلوى ألماً,, والدم من فمه وجبينه يسيل,, والدمع من عينيه ينهمر,, وأنا أراه أشعر أن شرايين قلبي تتمزق,, عارضتهم,, فضربوني,,وقفت في طريقهم أحاول منعهم من الخروج بصقوا في وجهي,, وانتزعوا خصلات من شعري الأبيض,, فلم أتمالك نفسي بعدها,, فسقطت مغمى عليّ,, إلى أن افقت بعد ساعة من الزمن,, بقدرة الله.
كل هذا الحديث والكلام والجميع فاغرو أفواههم جزعاً,, حسرة,, ألماً,, جميعها في قلوبهم تتحرك .
هدّأ الرجال من روعها وهم ينظرون إلى بعضهم البعض وكأن الواحد منهم يقول للآخر: ماذا بعد هذا؟ ما الذي يبقينا الآن,, نظر أبو صلاح الى ساعته وهو يصرخ: أنظروا كم الساعة الآن! انها الواحدة وخمس دقائق,, وأبو نبيل ,, وما كاد يتم: حتى طرق الباب ودخل منه أبو نبيل ,, والذي أصيب بالدهشة وهو يرى أم محمد ,, ما الذي حدث؟ ولماذا هي هنا؟ جلس إليهم انضماماً,, فاخبروه بكل تفاصيل الواقعة,, أثناءها صرخ: أحمد، حاتم، بصوت واحد ,, الواحدة والربع,, لقد تأخرنا,, ثم إن الوقت ليس مناسباً للخروج فالجنود الاسرائيليون قد استلم كل منهم مكان الآخر في الحراسة.
يضرب حاتم بقدمه الأرض ويركل إبريق الماء,, بحنق وغضب,, لقد تأخرنا، وها هم الآن يستمتعون ب,,,, آه,, يا للأسف يا للندم,,، يرجع كل منهم الى الوراء جلوساً بخطوات قليلة,, وقد أطرق رأسه بين راحتيه، ها هو حاتم يمسح بكفيه شعر رأسه الفاحم الى الوراء، وذاك أبو نبيل ، اتخذ جلسة الاتكاء على مرفقه يفكر بعمق وهو يعبث بطرف البطانية بقوة الغضب الكامنة في أعماقه.
يهب أحمد واقفاً,, وفارجاً يديه قائلاً: الآن يجب علينا أن نخلد للنوم لنغفو ولو قليلاً، نريح أجسادنا وعقولنا من التفكير على أن ننفذ ما اتفقنا عليه غداً مساءً إن شاء الله.
وافق الجميع على اقتراح أحمد فانصرفوا جميعهم الى النوم، بعد أن اطمأنوا على أم محمد وزودوها بالبطانيات,, عند عودتها إلى منزلها لشدة البرودة التي تسكن عظامهم من فصل الشتاء.
خلد الجميع للنوم إلا أم محمد فقد بقيت في منزلها وعيناها ساهرتان لا تستطيع اغماضهما وكأنهما أصيبتا بالرمد الحبيبي ,, في جفنيها,, فالعيون أصبحت كالسيل المنهمر من شدة البكاء، وقلة الحيلة,, تتذكر ذلك الشاب الذي عذبوه,, وهو كالغصن الطري الرطب الذي ينثني ولا ينكسر,, تردد أم محمد حسبنا الله ونعم الوكيل.
في الساعة الخامسة صباحاً,, يستيقظ الجميع فزعين وكأن أحد الجنود قد وخزهم باجسادهم بالبنادق,, كل منهم ينفض بطانيته عن جسده,, ينظرون الى بعضهم البعض وهم واقفون كالحلقة,, كل منهم يزيل القذى عن عينيه.
يبصر كل منهم الآخر وقد رآه استولى على سلاح الايمان والعقيدة, يلقي أبو نبيل نظرة إلى ساعته فيجدها قد تجاوزت الخامسة بست دقائق، يبتسم أبو نبيل ابتسامة خفيفة,, يستغرب زملاؤه,,! يسأله أبو صلاح قائلاً: ما بك يا أبو نبيل ؟ فيرد عليه بأن الوقت الآن الساعة الخامسة وثماني دقائق صباحاً ولسنا في الخامسة مساءً,, وأخالكم حسبتموها كذلك,, عندما نهضتم فزعين,, والآن فلنؤد الصلاة جماعة ومن ثم نخلد للنوم.
عادوا لاستكمال نومهم بعد أداء الصلاة إلا واحداً بقيت عيناه جافتين من انعدام النوم والقهر الذي يسكنهما,, يقضم أظفاره,, كيف لي أن أنام ونحن في بلادنا أذلاء مقهورين,, لا سلطة لنا,, ولا نفوذ,, وجود بلا كيان موجود,, لابد من عمل شيء أو القيام بخطة لنستطيع ان ندافع بها عن حقوقنا المسلوبة حتى ولو كانت فقط من أجل خلق البلبلة وزرع الفتنة بين الأعداء واحداث الأرق.
يطلب من الجميع النهوض,.
يقفزون جميعهم بكل فزع وجزع,.
متسائلين، ما بالك يا أبو نبيل ,, ؟ يسأل أبو صلاح ؟:
أجابه,, بأنه لم يستطع النوم,, أو حتى ان يغمض له جفن وهو يعيش القهر بكل ألوانه في كل يوم وليلة وساعة ودقيقة!
لم يستطع ,, وهو يتذكر فرحة ابنائه المسروقة لتجريدهم من طفولتهم وزرع الخوف والقلق في أفئدتهم وعقولهم الصغيرة.
أومأ أبو صلاح برأسه,, مؤيداً على فعلية الحديث ومنطق الحوار وسأل أبو صلاح ,, ما الذي يدور في ذهنك يا أبو نبيل ؟
طلب أبو نبيل من الباقين الالتفاف كحلقة واحدة,, بادرهم بقوله: انه لكي ننجح لابد من وضع قواعد وأسس لنبدأ العمل على نهجها,, لتتحقق الفائدة التي ننشدها,, ومن الممكن أن تحدث معجزة وننعم بها استقراراً,.
ما هي هذه القواعد يا أبو نبيل ؟
أجاب: أولاً علينا أن نضع هذه الخطة التي حدثتكم بشأنها,, لنتمكن بها من الحصول على السلاح,, الذي بواسطته يمكننا أن نقدم أرواحنا فداء للوطن,, والاستشهاد في سبيل المحاولة لتحرير القدس الشريف وأولى القبلتين.
الجميع أجاب,, بذهول,, نعم,, هذه هي الغاية المنشودة تحفنا بها ان شاء الله العناية الالهية,، ولكن,,! كيف؟
علينا قبل ذلك أن نكسب ثقة الجنود الاسرائيليين؟ كيف؟ سأشرح لكم قالها أبو نبيل : وهذه الخطة تحتاج الى اثنين مضحيين بنفسيهما ومن يريد أن يقوم بالتنفيذ فليقل, حاتم، أحمد ,, وافقا على القيام بهذه المهمة, تمنى لهما الباقون النجاح والتوفيق .
أبو نبيل: حسنا,, وهل في ذهنيكما خطة للوصول إلى تخطي حاجز الثقة، والدخول إلى عالم الجنود، وخصوصاً حراس المستودعات.
حاتم، أحمد: لا,, ثم انهم ليسوا من الغباء بحيث نستطيع أن نخترق حواجزهم ونحن فلسطينيان ؟!
أبو نبيل: أعرف، ولكن بالحيلة، والمراوغة والكذب المباح على العدو، وادعاء الانتساب الى جماعاتهم هو الطريق الوحيد لكسب الثقة، ثم أننا لن نقوم أنا وأبو صلاح بأي عمل الا بعد ثلاثة أشهر أو أكثر لحين بلوغكما الهدف وستنقطعون عن الاتصال بنا خلال هذه الفترة,, حتى لا نكون عرضة للشك ومن ثم محونا واياكم من على وجه الأرض لا سمح الله , وبعدها عليكم باعلامنا عن طريق أوراق مكتوبة باحرف متناثرة تضعونها داخل علب فارغة ومتفرقة على الطريق الترابي,, ونحن سنحصل عليها بطرقنا الخاصة أنا وأبو صلاح ,, ومن ثم نحدد مكان الالتقاء، ومطالبتكم بشرح الخطة لنا، واعداد الخريطة لخطة الهجوم والقيام بالتنفيذ,, ولكن عليكما أن تكونا حذرين في كل خطوة، وأن تحافظا على هدوئكما,, وكأن شيئاً لم يكن.
ومن الغد عليكما بارتداء الملابس القريبة من ملابسهم وترديد بعض الشعارات الخاصة بهم، والانسلاخ من كل ما يدعو إلى اظهار شعوركم بالامتعاض من الاضطهاد والاهانة كعرب فلسطينيين ، فالحجارة وحدها تقلق ولكن لا تكفي,, عملياتنا لابد أن يسبقها الحصول على الأسرار والمعلومات، دون عشوائية، ونحن ان شاء الله سوف نتمكن من تحقيق جزء بسيط مما نشعر انه سيثير الذعر والخوف بينهم.
ثم انه عليكما باتباع سياستهم وهي فرق تسد ، وجعلها كالسهم المعكوس عليهم، فاشيعوا بينهم العداوة والبغضاء واجعلوهم يقتتلون فيما بينهم، ادخلوا اماكن اللهو والترفيه,, وعندما تشعرون أنهم بدأوا بالاطمئنان اليكم، قوموا بالمتاجرة بالبضائع الصغيرة كبيع السجائر والمناديل والحلوى والهدايا الصغيرة: كحلقات المفاتيح وغيرها, ينظر الجميع الى بعضهم فيبدأون بالضحك والمرح وكل منهم يشعر أن همّاً ارتفع من على صدره، ولكن هل سيضحكون الى الأبد؟ أم سيكونون موتى في الشوارع فاتحي أفواههم كأنهم يضحكون، قضوا نحبهم من أجل الذود عن الوطن؟ ولأنهم عملوا من أجل تحريره وهذا جزاؤهم.
تبقى قصة لن تكتمل الى أن تصبح أولى القبلتين عاصمة الثقافة العربية وحينها,, سيكون هذا هو العرس الفلسطيني.
|