في عام 1924م قام احد المصانع في امريكا بمدينة شيكاغو بتجارب للكشف عن تأثير العلاقات الانسانية وأسلوب معاملة العاملين على الاداء العام، وذلك بدراسة محيط وظروف العمل وتحسينها وعلاقتها بالانتاجية وازديادها، حيث قام المصنع باستدعاء عضو هيئة التدريس من كلية الدراسات العليا ادارة اعمال بجامعة هارفارد وهو إلتون مايو, حيث بدأ مايو وفريقه تجاربهم لمجموعة من النساء العاملات ممن كن يركبن قطعاً معينة في اجهزة الهاتف, وقد اكتشف مايو وزملاؤه نتائج باهرة, فقد قام الباحثون في فريق عمل مايو لمدة سنة ونصف خلال هذه الدراسة بتحسين حالة الموظفات المتعلقة بالعمل مثل وضع فترات مجدولة للراحة وتوفير غداء من الشركة وتقصير ساعات العمل وإشعار العاملات بأنهن عنصر اساسي في الشركة وقد توصلوا الى نتائج باهرة في زيادة الانتاجية, ثم ارادوا ان يوسعوا من دراستهم وذلك بالذهاب في الاتجاه المعاكس لمعرفة تأثير ذلك عليهن فقاموا بتجريد العاملات من جميع هذه الصلاحيات والعودة تماماً الى ما كن عليه سابقاً عند بداية التجربة, وكان متوقعاً ان يحدث هذا التغيير المفاجىء نتائج سلبية وذلك بانخفاض الانتاجية والعودة الى عدم الاحساس بأهميتهن في الشركة وعدم المبالاة بالعمل, ولكن الذي حدث ان انتاجيتهن قد زادت ويعود ذلك الى العلاقات الانسانية، فنتيجة للاهتمام الكبير المعطى للعاملات عن طريق الباحثين والادارة فقد شعرن انهن جزء مهم من الشركة لا يمكن الاستغناء عنه, فقد كن يعملن بترابط قوي فيما بينهن والاهتمام الذي منح لهن جعلهن يشعرن بأنهن ينتمين الى الشركة بقوة ويعملن على تطويرها ورفع انتاجيتها بكل حرص.
وقد وجد فريق العمل من هارفارد بقيادة مايو انهم اكتشفوا ظاهرة فريدة تؤثر في مجال العمل وتزيد الانتاجية وهي بسيطة في مفهومها وأساليبها وتتمثل في العلاقات الانسانية وأهميتها في الادارة, ولذلك فقد وسع فريق مايو من مجال هذه الدراسة وذلك بمقابلة اكثر من عشرين الف موظف من جميع اقسام الشركة, وقد وضعت المقابلة لتساعد الباحثين والاداريين على التعرف على وجهة نظر العاملين حول ظروف العمل والمصنع وعن زملائهم وأساليب التعامل والاساليب الادارية المستخدمة وأي مشاكل اخرى يواجهونها وماعلاقة هذه الاتجاهات والمشاعر والمشاكل التي يواجهونها بإنتاجيتهم وتأثيرها عليها.
وبعد عدد من المقابلات الكثيرة وجد فريق الباحثين ان المقابلة المصممة على شكل اسئلة وأجوبة غير مفيدة للحصول على المعلومات التي يريدونها, لذلك فقد تم الغاء الاسئلة المعدة سابقاً وأعطي الموظفون والعاملون المجال للحديث حول اي شيء يريدونه واعتبر الكثيرون ان هذه الخطوة هي افضل ما تم عمله حيث استطاع الموظف ان يتحدث بكل حرية عما يواجهه من مشاكل وعن الادارة وعن ساعات العمل وغيرها, وقد وجد مايو انه عندما يتم مراقبة العمال بشدة وعندما لا تعطى الثقة لهم فان الانتاج يبقى كما هو في مستواه العادي او ينحدر, اما عندما شعر الموظفون والعاملون بأن الشركة بدأت تنظر لهم كعناصر مهمة فقد تغيرت اتجاهاتهم تغيراً ايجابياً كبيراً, فقد شعروا انهم يشتركون في القرارات والتخطيط وأن آراءهم ومقترحاتهم يؤخذ بها ولاتذهب سدى فزادت الانتاجية وأثبتت التجربة نجاحها, هذه النتائج كانت مهمة لأنها اجابت على اسئلة كثيرة حيرت الاداريين حول لماذا تكون انتاجية بعض المجموعات عالية بينما تتأرجح بعض المجموعات الاخرى في المستوى الادنى من الانتاجية؟ وقد شجعت هذه النتائج الادارة على اشراك العمال في عملية التخطيط والتنظيم والتحكم في العمل في محاولة لتأمين تعاونهم الايجابي.
وقد رأى مايو ان مجتمع العمل بما يمثله من مصانع وشركات ومؤسسات يعامل الانسان كآلة معدومة الاحساس مهمتها الانتاج فقط وكل ما يهدف اليه هو المنفعة الاقتصادية للمؤسسة او الشركة, ولهذا فانه قد تم تعليم العمال للنظر الى العمل للحصول على المال مقابل ما يؤدونه من عمل وبصورة مجردة, وقال مايو ان العمل في المصانع والشركات الامريكية يعني الإذلال في بيئة عمل روتينية ومملة وصعوبة مهمة الفرد وعدم وجود الحرية, هذه البيئة لا تؤدي لإرضاء الفرد وأرضاء حاجات تقدير الذات وتحقيق الذات في العمل حيث ان الحاجات المتبعة هي الحاجات الفسيولوجية وحاجات الامان, ونقص الطرق المؤدية لإشباع الحاجات الاخرى يؤدي الى التوتر والقلق والإحباط, وهذا الشعور بالضعف سماه مايو بالأنومي ANOMIE وهذه الحالة تتصف بشعور العمال بعدم اهميتهم وارتباكهم وانفصالهم عن بيئتهم.
وبينما كانت الأنومي من صنع المجتمع ككل، فقد شعر مايو بأن تطبيقها بشدة وجد في المصانع حيث تفترض الادارة افتراضات سلبية في طبيعة الناس, وطبقاً لمايو فان العديد من المديرين اقترضوا ان المجتمع يتكون من افراد عتيقين غير منظمين همهم الاول حفظ ووقاية انفسهم او منفعتهم الذاتية, وقد افترض ان الناس يسيطر عليهم بشكل اساسي بواسطة الحاجات الفسيولوجية وحاجات الامان، فهم يريدون ان يتحصلوا على اكبر قدر من المال بأقل مقدار من الجهد والعمل, ولهذا فان الادارة تنظم العمل اعتماداً على القاعدة التي تفترض ان العمال بشكل عام مخزن قديم عديم الاهمية وقد سمى مايو هذا الافتراض بافتراضية رابل وقد ندد بأسلوب العمل التسلطي.
وبالرغم من تطور نظريات الادارة وتغيرها وبروز مفاهيم وطرق جديدة للعلاقات الانسانية وإدارة العمل وبالرغم من بعض الانتقادات التي وجهت لنظرية العلاقات الانسانية، الا ان ما انجزه مايو وزملاؤه يعد كشفاً مهماً في اسلوب ادارة الاعمال وعلاقة الانتاجية بحسن المعاملة وتقدير الفرد كموظف وكعامل وكمنتج في المكان الذي يعمل فيه, فمل زالت الكثير من المؤسسات والشركات تعامل موظفيها وعامليها كآلات مهمتها العمل فقط دون اعتبار للمشاعر والظروف الانسانية فما دامت الانتاجية تزداد بتحسين ظروف العمل والاهتمام بعامل العلاقات الانسانية فلماذا لا تتخذ هذه الخطوة كخطوة اساسية من خطوات الادارة وكعامل من عوامل نجاحها؟ وبالرغم من أن هذه الدراسات قديمة الا ان قيمتها ما زالت عالية, وهنا بامكاننا محاولة تطبيق هذه الاساليب في بعض المؤسسات الحكومية او الخاصة في مجتمعنا، وذلك بتقسيم بعض الموظفين الى مجموعتين تطبق بعض الاساليب على مجموعة تجريبية وتترك المجموعة الاخرى على حالها او تطبق عليها اساليب اخرى ثم مراقبة وملاحظة ما يصدر من المجموعتين وبعد ذلك دراسة هذه النتائج وتأثيرها على مجال العمل والانتاجية, وعلى الله الاتكال.
* كلية التربية جامعة الملك سعود