عقارب الساعة تحث الخطى مسرعة نحو الثامنة صباحاً موعد بدء الدراسة بعد عيد الفطر المبارك.
في هذا الجو المربعاني حيث الشمس عابسة والرياح يسمع انينها من بعيد التلاميذ الذين ارغمهم اهلهم على الحضور للمدرسة جاءوا شبه نائمين حيث نصفهم تبدو عليهم اليقظة والنصف الآخر ما زال عليه من بقايا النوم اثر كبير!.
المربعانية فرضت علينا جميعاً ان نحشو أجسادنا داخل ملابس ثقيلة جداً حتى بدا الواحد منا وكأنه في حفلة تنكر! يقف التلاميذ المحشوون داخل (اكواتهم) فيما يسمى بطابور الصباح يجدون صعوبة بالغة في ممارسة تمارينه المملة ربما (للفنائل) المتراكمة على اجسادهم دور في عدم قدرتهم على رفع ايديهم الى الاعلى وانزالها الى الاسفل حركتهم تبدو وكأنهم يمارسون رياضة تسلق الجبال!!.
نجتاز نحن والتلاميذ الجزء الأول من طابور الصباح بفشل ذريع، نعلق فشلنا كالعادة على الظروف المحيطة بنا، لن نجد هذه المرة افضل من (المربعانية) لتكون السبب المباشر وحتى غير المباشر لان يمارس ابناؤنا رياضة الصباح وهم نائمون!! ننتقل الى الجزء الاكثر مللاً في طابور الصباح! ولأن الطلبة لم يستعدوا بعد لتقديم ما يسمى بكلمات الصباح,, كان علي ان اقوم عنهم بهذا الدور الذي تحمست له بعدما احسست بالحياة وبدأت تدب في اعين التلاميذ,, افتعلت الشجاعة, وقفت امام الميكروفون وعلى طريقة مقدمي برامج الأطفال في التلفزيون كدت ان اطرح سؤالها المكرر والممل جداً والذي يقول (من عنده انشودة)؟! لكنني عدلت عن ذلك,, وقلت في نفسي طالما اننا ما زلنا نعيش فرحة العيد فليكن حديثنا عنه,, سألت التلاميذ عن شعورهم حلوة شعورهم وهم في يوم العيد؟! وكيف قضوه؟! خيم عليهم صمت رهيب,, انتابني خوف من ان يكون النوم عاود اجفانهم ثانية!! حاولت تبسيط السؤال والعودة الى اسئلة مقدمي برامج الاطفال! تلك الاسئلة التي تكون اجابتها محصورة بين نعم ولا! قلت هاه عساكم استأنستم في العيد؟!.
قالوا: نعم!.
قلت: بالطبع زرتم اقاربكم؟
قالوا: لا!!.
قلت: لماذا!!
قالوا: لانهم نائمون!!.
وجدت انه لو انني استمررت بطرح اسئلتي تلك الى موعد طابور الغد فلن تتعدى الاجابة (النعم,, واللا)!! قلت إذن فلنختم هذه الاسئلة التقليدية المملة بسؤال اكثر حيوية,, فاجأتهم قائلاً: هاه وش اخبار (الطراطيع)؟! علت وجوههم ابتسامة عريضة البعض منهم صار يتحسس جيوبه وكأنه يبحث عن شيء راودتني فكرة مجنونة بعض الشيء,, عندما كدت ان اداهمهم بعملية تفتيش مفاجىء علني اجد معهم بقايا تلك الألعاب التي يقال انها خطرة ومع ذلك تباع حتى في البقالات!! عدلت عن فكرتي المجنونة خشية ان اكون بذلك اتجاوز حدود عملي!! عندما هممت بالإذن للتلاميذ بالعودة الى فصولهم الباردة جداً سمعت تمتمة احد التلاميذ الذي ربما يكون طرح علي سؤالاً لكن صوته لا يسمعه سواه!! ولا عجب في ذلك فشعار جلنا في التعليم (اسكت يا شاطر)!! قلت جلنا ولم اقل كلنا لكي لا اضاعف علي غضب الاخوة المفتشين اقصد المشرفين التربويين فوق غضبهم عليّ خصوصاً اني بت معلماً غير مرغوب فيه لدى اغلبهم، شجعت التلميذ على اعادة طرح سؤاله بصوت مسموع, قال الطالب وهو يجد صعوبة بتحريك شفتيه المتجمدتين ليقول: أنت كيف قضيت العيد يا استاذ؟ لم اشأ اغتيال فرحته بطرح السؤال رغم استخدامه كلمة شبه محظورة في التعليم وهي (استاذ) ثم انني التمست له عذراً فهو لا يعلم انها استبدلت بكلمة (معلم)!!.
تقدمت خطوتين نحو الميكروفون,, افتعلت الشجاعة ثانية,, استعدادا للاجابة,, فرت الكلمات التي كنت اعتقد انني اختزنها في ذاكرتي، انتبهت الى صوت يخرج من فمي يقول ان عيدي قد لا يختلف كثيراً عن عيدكم,, فقط انتم استمتعتم في (الطراطيع) وتركتم لنا الافطار على وجبة (رز مع لحم حاشي) تعالت ضحكاتهم وهم يهمون بالعودة الى الغرف شبه المتجمدة لنصطدم واياهم بأولى مفاجآت اليوم الدراسي الأول حيث لم تصل الكتب الدراسية بعد!! رغم اننا قرأنا بالأمس القريب تصريحاً لوزارتنا يقول (غداً يتوجه ابناؤنا الى مدارسهم,, بعدما هيأت لهم الوزارة كل المستلزمات المطلوبة) لكن يبدو ان مثل ذلك التصريح موجود اصلاً في كل جريدة,, فقط تعاد كتابته مع بداية كل فصل دراسي!! اواه الكتب ليست بتلك الاهمية لكي تتواجد مع اول يوم دراسي!! عرضت ذلك الغياب للكتب امام الاخوة الزملاء,, قال احدهم بسيطة (ينقز احدنا) الى المستودع ويحضرها بس انت لا تجعل من الحبة قبة كالعادة!! قلت لكن ليس من مهامك كمعلم ان (تنقز) كما تقول للمستودع وتأتي بالكتب!! قال احدهم يا حبك للشماتة! كان لتلك العبارة من القسوة ان بلغت حد الألم,, استدعيت للفصل بعدما وصلت اخيراً الكتب بدت الحياة تدب شيئا فشيئا في فصول المدرسة,, الأطفال في قمة الفرح وهم يقلبون كتبهم الجديدة,, فجأة يدلف علينا المشرف التربوي بعدما تأكد ان الشمس بسطت نفوذها على الارض، واستطاعت ان تهزم البرد ولو قليلاً,, ليحتل الدفء موقعه في تلك الغرفة الباردة,, وقفت على حافة السبورة,, تهيأت لمراسيم استقبال التهنئة بالعيد أولاً وبالعودة الى المدرسة ثانياً,, ولكن ذلك لم يحدث!! ولم افهم لماذا لم يحدث! وحين لا افهم يتسلل احباط جديد الى الاحباط المقيم اصلاً بداخلي,, تنتهي مراسم زيارة (الموجّه) ألقي بنفسي بين ذراعي الصمت,, والتأمل,, أقاوم رغبة البوح,, في عمق هذا الصمت الممزوج بالوجوم لينتشلني صراخ الاطفال وهم يستعدون للخروج من المدرسة,, انهض,, اغلق نوافذ مملكتي,, أوصد الباب,, ابصم بدفتر الانصراف,, اتسلل الى الخارج لأصير بعضا من الأشياء التي تتحرك حولي,, ألقي بجسدي المرهق خلف مقود سيارتي,, تنطلق بي وسط منعطفات الطريق الكثيرة,, أحاول اكتشاف الشبه بين الموت وتلك المنعطفات الضيقة لكنني لم اعد ارغب في اكتشاف ذلك الشبه المخيف اكتشفت فقط ان اليوم الدراسي قد انتهى.
سعود محمد السعدي
حائل مدرسة الكرامة