انطلق الأدب من فكر ومشاعر الإنسان بدءاً، بعد أن أرسلت بعصافيره تُحلِّق جلساتُ السَّمَر، وحلقات المساءات تحت مظلة السماء، تَشحَذُه كلُّ نبضة انفعال عند حركة قوادم الجياد، أو بروق نحور ذوات الخمار، أو هدير السيول بين خبايا صخور الجبال، أو رعدة انفعال تنبجس معها العروق بالدماء، أو كلمة تقع في غير لحظتها أو مكانها، مَعَ أو مِن فَتُهَيِّجُ معها نخوة التعبير، وصولة الكرامة، أو حديث دافىء بين الصغار ومحاضن الأمهات يُرسلن إليهم بطيوف الخيال، وحواره عند النوم،,, حتى تطور الإنسان، وتبدلت مواقع إرساله واستقباله، وتفاعل مع حركة كل متغيرات طرأت، وظهرت، وجاءت إلى حياته فبدَّلت مفاهيمه، ونَمَّت مقدراته ومكتسباته، وبلورت عطاءاته، وجلّت له عن أمور في فكره ومعارفه، بما زاد ولا يزال في خبراته، فاستعمل كل هبة إلهية في صالحه، ولا يزال الإنسان يبحث عن مزيد.
وكان لجلسات الفكر والأدب دورها في ثقافة الإنسان وفي بعث هممه نحو المزيد، وليس الحديث هنا عن تأريخ مراحل، ولا عن تحديد عوامل، ولا عن تخصيص أمر فكري للحديث عنه، أو الوقوف عند قضية من قضاياه، إنما هو مرور عابر بدور حلقات النقاش الفكري ومدى إثرائها وتحفيزها للقول المُثَمَّن لصاحبه، وكثيراً ما كانت هذه المجالس مدارس,, تَخرَّج فيها الموهوب، وذو القدرة، وصاحب الرأي، ولا ننسى أن العصر الحديث قد خصص لمثل هذه المجالس ساعات دراسية ضمن البرامج التعليمية في الجامعات في إيمان مطلق بأهميتها وُسمت بحلقات النقاش أو حلِّ المشكلات ، أو بالندوة ، أو بقاعة بحث ، ونحوه مما ساعد على تنظيم القول حتى لو جاء في جلسات اختصاص.
وحدث ذلك ويحدث في المجتمعات التي تؤمن بدور الإنسان في لقاء الإنسان، وظلت المرأة في مجتمعنا تفكر بمفردها، وترسل بأفكارها دون أن يحدث حولها نقاش يثريها أو يحفِّزها، حتى أخذ المجتمع في تركيبته الفكرية يضع له أبنية خارجية تمثلت في النوادي، والمراكز، والأنشطة، والجمعيات، هذه الأبنية ملتقيات تتيح الحوار، والنقاش، وتحفِّز الكامن، وما كان للمرأة من نصيب فيها إلا منابر تأتيها لتلقي فيها ما تضعه بمفردها ، وما لم يُعرض أو يُتَح له النشر الشفاهي قبلاً، وليس بالضرورة أن تكون هذه الحوارات هي أول مواقع استقبال ما يرسله المفكرون، أو يكتبونه، وإنما هي واحدة من ضمن كثير من مرتكزات نهضة القول من مكامنه الخفية.
جاءت سلطانة السديري,,.
بكل حماسها، وصفائها، وحبها للآخر في شكل ينمُّ عن أصالة، ما خَدَشَها الزمن بكل خبطاته، وانزلاقات أبنائه، وبعشقها الفطري للكلمة، وبحسِّها الشفيف، وبقدرتها على التقاط كلِّ عابرٍ من الإنسان، والوقوف عنده، والتمعن فيه، ومن ثمَّ التعبير عنه في تلقائية عُرفت بها,,, فنزلت في القلوب,,, إذ ما رأيت حشداً لا يُحصَى إلا حين تكون المتحدثة هي سلطانة عن قهر الإنسان، وتجاربه، وظلمة النفوس، ودكن الالتواء، وخداع الصديق، وود الصاحب، وبُعد القريب، وقُرب البعيد، ورقة الوفاء، وعمق الصدق,,, وهي:,,, هي الصدق وهي الوفاء، وهي القرب,,, فكلُّ اللاتي يعرفنها يدركن أنها من يأتيه القاصي والداني حين تجلس لتقول بنبض الحس في الصدور لكل من تعجز أن تقول,,, فتتحدث بلغتها وفطرتها وصفائها,,,، لا تتعمَّد الصناعة، ولا تَحفل بما يقيد قولها أو يُقصيه,,.
جاءت سلطانة عبدالعزيز السديري لتقيم في منزلها العامر بالود والخير وعصافير البوح صالوناً تلتقي فيه الشاعرة، والقاصّة، والباحثة، والإذاعية، والصحفية، والمكتبية، والرسامة التشكيلية، والمثقفة، والمختصة، والإدارية، ليتحلَّقن في جو أسري يكسر القيود، ويلغي الحدود، ويقرِّب وجهات النظر، في موضوعات تمسُّ الحاجة وتساعد على بلورة الفكر، وتؤكد منطلقات تُعين على سلامة الخطو، لا تقف عند رفاهية ولا تحلّق في الأحلام، إلا من خلال واقع يتطلب أن تجد المرأة فيه من يقول لها: من هنا لتكن بدايتك,,.
لذا جاء موضوع ثقافة الطفل في جلسة صالون سلطانة مساء الأربعاء أمس الأول على درجة بالغة في الأهمية,, ستكون حديث اليومين القادمين.
تحية لسلطانة,,.
تحية لصفائها وصدقها وودِّها العامر كشجرة العنب تظلل تحت أوراق عريشتها الكبرى وتُطعم النفوس والأذهان والاحساس,,.
تحية لبادرتها هذا الصالون النواة للتفاعل الحيوي بين عناصره،
تحية لجهودها نحو أن يكون للأهداف التي رسمتها له، وتعينها عليه كلُّ من تُكبرُ لها هذه الوقفة عند تأريخ أدوار النساء في مجتمعنا.
يتبع غداً