مع الحالة الشعرية في اليابان خيول ومربعات علي الدميني |
كان للدكتور عضيمة أن يعلن تساؤله: لم رشّحني أدونيس لهذه المهمة في حين كانت تنتظره بالأساس؟
المعرفته بالمآل الذي سأبلغه حين أغيب في هذا الأرخبيل الذي يتشابه فيه اليابانيون وليس فيه شعراء، والذي يقطع التلفزيون برامجه لتحية زهرة جديدة تفتّحت على سياج بيت قديم فيما سيقف الناس صفوفاً طويلة في الغد تحية لها!
وكان له أن يتبرّم بوضعه كأستاذ زائر لتدريس الثقافة العربية حين تم إسكانه في أطراف المدينة في شقّة تفوح منها روائح تشبه ما أسماه بيوت بنات الهوى الرخيصة وأن يعتبر ذلك مقياساً لعدم جدية اليابانيين في تعليم العربية من جهة، وفي تهميشهم للدراسات الإنسانية على وجه العموم، ولكن ما لم يكن للدكتور عضيمة تجنبه هو ذلك الاندماج الطويل في الحياة اليابانية عشر سنوات إلى اليوم! حتى وإن حاول اخفاءه تحت طيات تلك المرارة السائلة من صفحات كتاب المرايا؟
ذهب عضيمة متلبساً بثياب الفاتحين العرب ليقيم رأس جسر مع بلاد الشمس تسمح لجحافل العروبة بالدخول إلى هذا الفراغ القصي، ولكنه أدرك فشل المهمة مبكراً فمضى إلى قاع الصفوة من صعاليك المدينة متتبعاً ما تيسّر من متعها ومغامراتها وكاد يعود بعد ذلك إلى منافيه القديمة في باريس والجزائر ولكنه تعرّف على الشعراء الحقيقيين فأعادوه إلى توازنه وأحالوه بغمضة عين سحرية من مبشّر بثقافة عربية إلى دارس للثقافة اليابانية مدشّناً بذلك جسر تعارف معاكس يصلهم بنا فيما نبقى مجهولين لهم كما كنا، ومثلما يليق ربما بنا!
قرأت حتى الآن ثلاثة كتب للدكتور عضيمة عن حياة وشعر وأدب اليابان هي سيرته في المرايا اليابانية وكتابين ترجمهما عن اليابانية بمساعدة بعض اخواننا اليابانيين المستعربين هما سفينة الموت حوارات وقصائد ومفارقات الحداثة الخمس للياباني كامبانيون وقد وجدتني معها أتعرف على عالم له حساسيته المغايرة وشعريته المختلفة وتركيبته النفسية والثقافية المتفردة مما أصابني بعدوى الاهتمام بعالم اليابان الثقافي، ولم أكن من قبل أعير أدنى اهتمام به، ولعلي أتذكّر هنا حماس الدكتور سعيد السريحي لنشر نصوص شعرية يابانية متأثراً برحلة قام بها إلى اليابان، وكذلك الأمر في تجربة الدكتور سعد البازعي الذي قدم محاضرة في احدى المراكز اليابانية وأفاض في الحديث عن تجربته فيما بعد، لكن كل ذلك وسواه لم يفعل بي ما فعله كتاب عضيمة، الذي يحرضني على الذهاب إلى اليابان.
كان عضيمة يصرخ: أين هم الشعراء في هذا الارخبيل فلا يجد سوى زحمة المدينة، أما بعد أن عرف الباب السري المؤدي إليهم فإنه يصرخ أيضاً: الشعراء هم ملح الأرض وهم المفاتيح السرية لفهم الشعوب، وحين يرى الشاعرة روميكو تنتظره عقب موعد هاتفي استطاع تمييزها من بين العشرات المتماثلين لأنها كانت تبتسم ابتسامة شاعرة! , إذن ما علاقة الياباني بالشعر وما هي أسسه الجمالية يا د, عضيمة؟
ويجيبنا في كل هذه الكتب الثلاثة بما ملخصه إن الياباني يحب الشعر، وهناك ملايين الشعراء الذين يستطيعون نظم الشعر القديم التانكا والهايكو وشعرية هذا النمط التقليدي تنبثق من نفسية الياباني الذي يحترس من المبالغة ويجد الجمال في السهل والساذج والبسيط، كما أن الناس العاديين يميلون إلى الايقاعية، أي المتعة الغنائية والسماعية, لذلك لا يموت شكل التانكا والهايكو حسب قول الشاعر شونتارو ، أما الشاعرة كورا روميكو فترى أن الشعر الياباني حسي جداً، حسيته حادة جداً، وقد لا توجد فيه ميتافيزيقيا، ولكن الرمزية معلم من معالمه .
والابداع بالنسبة للياباني كما يقول عضيمة ليس إلهاماً أو حياً، بل هو محاكاة وتقليد، هو أخذ عن مثال موجود، هو اعادة انتاج نص موجود بصيغة أخرى، هو ترجمة نص عن لغة الى أخرى بتصرّف.
إذن هي نفس الذهنية التي ابدعت حداثتها التكنولوجية، تقليداً واعادة انتاج، اختطت نفس المسار في مجال الشعر، وحتى الشعر الحديث مأخوذ عن الآخر، فالشعر الحديث حرّ تماماً من ضرورات الشكل ويتسم بصفة اللاموسيقية، الأقرب إلى النثر سيراً على هدى التجربة الشعرية في الغرب.
والذهنية اليابانية لا تقوم في جذورها على رؤية كلية للكون ولا تهتم بالفلسفة ولن تهتم بها كما يقول عضيمة لذا فهي ذهنية حسيّة بامتياز، ولا تشغل ذاتها بالتجريد بحيث ان الياباني يركز اهتمامه على الموضوع الموجود أمام عينيه فيفقد النظرة الشمولية كما يقول الشاعر ريوسي، وفي سؤال للشاعر يوشيماسو، عن ماذا تمثل المرأة بالنسبة له، يجيب بحسم: ذهني البليد لا يستطيع أن يعمم المرأة ، في حين لو سألنا أدونيس مثلاً عن مفهوم المرأة بالنسبة له لقال كما في حوار معه في جريدة الحياة : المرأة ليست مجرد موضوع أومجرد آخر بالنسبة لي، بل لا أستطيع تصورها إلا وفقاً للأسطورة القديمة عندما كان الرجل والمرأة وحدة لا انفصام بينهما، ثم حدث وانفصلا فأصبح ما يسّوغ وجودهما هو سعي كل منها نحو الآخر , ولذا فقد مضى الشاعر الياباني وهو يتجرع مرارة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية باحثاً عن طوق النجاة ومسوغ البقاء في تقليد واعادة انتاج نص مغاير خارج الموروث على صعيدي الشكل والرؤية فاستعار شكل قصيدة النثر الغربية، وبدأ يتشكل كرؤية ذات طابع كلي تنحو منحى تجريدياً ميتافيزيقياً لاستعادة التوازن بين الحسيّة الثاوية في الأعماق وظلال الهزيمة المدمرّة بعد الحرب, لذا غدت قصيدة ت,اس, اليوت الأرض الخراب عنواناً لمدرسة شعرية في اليابان, لكن ما الذي حدث لجمهور الشعر بعد ذلك؟
|
|
|