الإسلام عبر الألفيات الثلاث 1 - 3 د, خليل بن عبد الله الخليل |
نافس الاسلام ومازال ينافس الاديان السماوية والأيدلوجيات الأرضية والامبراطوريات العظيمة منذ الثلث الاخير من الالفية الاولى الى بداية الالفية الثالثة التي عايشنا وهجها وبهجتها, اخذت تلك المنافسات أشكالاً والواناً ومسارات متعددة في كل حقبة وبقعة, شملت تلك المنافسات بل الصراعات والصدامات الجوانب الفكرية والعقدية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والعمرانية والاجتماعية والادبية.
وكان الاسلام دائماً متفوقاً اذا كان أهله على قدر كاف من الاهلية في الجوانب الفكرية والعلمية والسياسية، وكان متقهقراً اذا غلب على المسلمين الخواء الفكري والديني والتفكك السياسي، الا انه عندما يحصل خواء في الفكر وانقسام في السياسة,, تبقى جذوة الاسلام مشتعلة الى حين بزوغ من ينهض بالمسلمين فكرياً ويجمعهم سياسياً ويقودهم عسكرياً.
وفي الألفية الأولى طلعت شمس الاسلام ببعثة الرسول الامين محمد بن عبد الله عليه وعلى اصحابه وآله اشرف الصلاة واتم التسليم عام 609م من بطاح مكة وكانت دولة الاسلام الاولى في المدينة المنورة بعد الهجرة الشريفة والتي انطلقت منها الغزوات والكتائب هادية وفاتحة ومعمرة وحامية.
دخلت الالفية الثانية والمسلمون في أوج حضارتهم التي انطلقت من المدينة المنورة عاصمة الدولة المسلمة في خير القرون، ثم من دمشق ثم من بغداد، ثم الاندلس ثم المغرب العربي ومصر, ازدهر العلم وشيدت المعاهد وافتتحت المكتبات وراج الأدب وانتعشت الفنون وعرف العالم نمطاً مختلفاً من الحضارات, حضارة انسانية تنسجم مع الفطرة البشرية، وتحترم العلم، وتنتصر للحق، وتفاضل بين البشر على اساس العمل والتقوى، وتورث المرأة وتعترف بالتعددية الدينية والثقافية، وتؤمن بالمنطق، وتشجع العلم الطبيعي وتلغي الكهنوتية وتحرم الظلم والعدوان، لذا قال المسيحيون إبان فتح القسطنطينية في منتصف الالفية الثانية عمامة الشيخ ولا قبعة الكاردينال .
تخللت المسيرة الاسلامية المجادلات الفكرية، والحملات العسكرية، والمحاورات الادبية، والاكتشافات العلمية، وكانت الشعوب التي حكمها الاسلام عن طريق الاحتلال العسكري او الاقتناع بسبب التجارة او التغلب مساهمة في النهضة بل شريكة اساسية فيها, لم يعد العرب بين المسلمين الا اقلية مع انهم حملوا الاسلام لتلك الشعوب، فأصبحوا محكومين في نهايات الدولة العباسية من قبل خلفاءوامراء وقادة غير عرب، وهذا هو الاسلام المنافس علىمر القرون يحمله وينتظر له وبه من يقتنع به ويجاهد في سبيل اعلاء شأنه ونشر مبادئه.
بنى الاسلام اسس الحضارة الانسانية المثلى، وكانت الشعوب التي تعرفه وتحضنه تقاتل من أجله، ولم يعرف التاريخ شعباً تخلى عن الاسلام بعد اعتناقه بالطواعية، لذلك مازالت الاقليات المسلمة في الصين وفي جنوب شرق آسيا وفي القوقاز وفي افريقيا وفي غيرها من بقاع الأرض محافظة على الدين الاسلامي بالرغم مما تتكبده من القوى المعادية من مصاعب، وعلى الرغم من قلة امكاناتها، وكثرة امكانات الارساليات التبشيرية التي تجد الدعم المالي السخي والحماية السياسية المعلنة والمبطنة من القوى الكبرى المتنفذة، وعلى الرغم من نسيان الدول المسلمة لها مع انها تمثل 50% من تعداد المسلمين في العالم، لم يفقد المسلمون شعبا واحدا بالكلية عدا ما حدث لشعوب اسبانيا التي حكمها الاسلام ثمانية قرون، وتفسير ذلك معلوم,, حيث كانت محاكم التفتيش تطارد معتنقي الاسلام فرداً فرداً.
صمد الاسلام ونافس وصارع ووصل تعداد معتنقيه المليار نسمة موزعين في القارات الخمس، محتلين افضل المواقع الاستراتيجية جغرافياً، مالكين اهم الثروات اقتصادياً,, بالرغم من انتكاساتهم السياسية والعسكرية في نهاية الالفية الثانية.
حافظ المسلمون على الكثيرمن مقومات دينهم الاسلامي وهم طوال تاريخهم في منافسات وصراعات مع أقوى الطوائف وأعتى القوى والامبراطوريات وأشرس الأيدلوجيات وأكبر الاحلاف، وكانوا إما منتصرين أومتراجعين ولكنهم استطاعوا المحافظة على بقائهم في الميدان باعتبارهم أمة منافسة بشكل أو بآخر يحسب لها الغرب والشرق الف حساب.
ليس ذلك فحسب، بل أن المسلمين حافظوا في أوقات تراجعهم على مقومات البقاء للأمم ومن ذلك حنينهم لتراثهم وتمسكهم بصفاء الدين، وعدم قبولهم للتحريف والتبديل مثلما حدث للأديان الاخرى، واعتقادهم بأنهم على الحق وان لهم مستقبلاً، وحفاظهم على مقومات الاسرة في مجتمعاتهم، وتوكلهم على الله، وعدم نزوعهم للالحاد والفساد بشكل لا أمل فيه، واحترامهم للدين وللمثل الانسانية العليا.
حافظ المسلمون ماضياً وحاضراً على توازنهم الحضاري وانتمائهم الديني وتماسكهم الاجتماعي واصروا على انهم علىحق، وهذا من أعجب الامور التي أدهشت الكتاب والمؤرخين الذين عنوا بمتابعة تاريخ المسلمين ودراسة شؤونهم.
بقي المسلم على مر العصور خامة مهيأة للنهوض والعودة لحلبة النهوض والمجابهة والمنافسة، ولذا فالتاريخ الاسلامي غني بالمصلحين والقواد المجددين الذين هيأهم الله لقيادة الأمة في عصور الظلام والانحطاط والهزائم حتىانه حسب الاستقراء لا يخلو عصر من العصور منهم.
والاسلام اليوم ما زال ديناً مؤثراً ومنافسا، بل ان الحرب التي تدور رحاها في الشيشان، والتوجهات السياسية في السودان وتركيا والباكستان وايران وماليزيا والاستنفار الذي اعلنته الدول الغربية للحفاظ على حدودها من الهجمات الارهابية في خضم مرور الالفية الثالثة موجهة اضواؤها نحو المسلمين ما هو الا جزء مما عليه هذه الامة المسلمة الرافضة للهيمنة والظلم والانحطاط والعدوان، وأملنا ان يسود الاستقرار وتتصحح المسيرة، وان يكون الرفض ايجابياً، وان يكون شرعياً وحضارياً,, ليتفق التغيير هدفاً واسلوباً مع الدين الاسلامي العظيم الذي بنى للغرب باعتراف أهله حضارتهم على الاسس التي أسستها مبادئه وحضارته وقلاعه في نهاية الالفية الأولى ومعظم عقود وقرون الالفية الثانية، والاسلام الذي اسس تلك المبادىء العظيمة واسهم في صنع الحضارات التالية له، وظل صامداً امام الحملات العسكرية والفكرية,, ما زال حيا في النفوس وضارباً في اعماق المعمورة.
إن الدول الغربية التي تحتفل بدخول الالفية الثالثة لميلاد المسيح عليه السلام متفاخرة بمبادئها ونظمها وقدراتها في الميادين العلمية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والسياسية والصناعية والتقنية,, الخ,, لم يكن لها ذلك الا منذ اقل من قرنين من الزمان، وكانت تغط في سبات عميق وتعيش عيشة همجية ملؤها الخزعبلات والمظالم والتناحر والتصادم والفقر والعصبية, ولقد اطلق الغربيون انفسهم على تلك الحقبة عصور الظلام وتناقلها كتابنا ومفكرونا,, مع انها لا تنطبق علينا نحن المسلمين وانما تنطبق على الغرب المسيحي والشرق الوثني، اما بالنسبة للمسلمين فماكان يسمى بعصور الظلام كان عصراً زاهياً وزاخراً بالعلوم والممالك والانجازات التي استنارت منها الحضارة الغربية وانطلقت من معاهدها جحافل الاصلاح والتنوير والابداع في العالم.
لقد بدأت اوربا تتململ للصحوة في القرن السادس عشر الميلادي,, في الوقت الذي انحدر المسلمون فيه على اثر القوة والفتوحات والانجازات، ما اجمل ما ذكره المحقق والعالم المعروف محمود شاكر رحمه الله والذي أرخ في كتابه (مدخل لثقافتنا) نهوض الغرب وانحدار المسلمين بفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله, ذكر الاستاذ محمود شاكر رأياً حسب اطلاعي لم يسبق اليه وهو ان فتح القسطنطينية الذي انتظره المسلمون قروناً طويلة ازعج الكنيسة الغربية فاستيقظت وسخرت جميع امكاناتها لدرء الخطر الاسلامي ولايقافه من دخول اوربا، وبالتالي تتهاوى آخر قلاعها,, بينما اصيب المسلمون بالارتخاء على اثر ذلك النصر المجيد فمالوا الى الترف والدعة.
على أية حال بقي الاسلام صامداً منافساً بل القوة الاولى في مطلع الالفية الثانية الى القرن السادس عشر الميلادي الذي استنهضت الأمم الغربية نفسها فيه، وسعت جاهدة للتخلص من عناصر ضعفها,, وتحقق لها ذلك بعد انتصارات مكلفة وانتكاسات وصراعات مروعة,, وكان للثورة الفرنسية التي دعت للعلم والحرية والنهوض أكبر الأثر على النهضة الصناعية الغربية التي اصبحت ثورة عالمية بكل المقاييس.
تغيرت موازين القوى فتقدمت أمم وتراجعت أمم، وكان من سوء الحظ ان نصيب الامة الاسلامية في نهاية الالفية الثانية التراجع والتقهقر والتمزق بالرغم من بقاء هيكل طليعتها المتمثل في الخلافة العثمانية حياً الا انه كان هزيلاً وعرف فيما بعد بالرجل المريض الى ان زال بالكلية عام 1924م.
تقدم الغرب مستزيدا من العلم والصناعة والاختراعات والبحوث والنشر والمناظرات، وتأخر المسلمون وقد قبعوا في الزوايا التقليدية ونفروا من المستجدات العلمية باعتبارها نتاج الحضارة المسيحية المعادية,, فانهزموا عسكرياً وسياسياً.
مع ذلك ما زال عمر الحضارة الغربية الحديثة قصيراً وما زالت امامها العقبات، تلو العقبات وتلك العقبات أو بعضها تواجه الامة الاسلامية ايضاً,, إلا انه من الخطأ ان نظن بان الامة الاسلامية فقدت مبررات وجودها وفقدت صلاحية مبادئها,, مقارنة بالحضارة الغربية المهيمنة في العصر الراهن.
|
|
|