لماذا تميز الشعر عن النثر,, فسمي شعراً، وسمي النثر نثرا,, لأن له قواعد وجرساً ووقعاً في القلب,, ولأنه يطرب عند سماعه، ويهز وجدان المحب، ويهيض مكنونه, وما التبس على هذا الجيل الشعر إلا لأنهم تلقوه من غير جذوره ونهلوا من غير أصوله ومنابعه,, فتلقفوا المترجمات الغربية، وقرؤوا لغير القادرين على صياغة الشعر الحقيقي,, فظنوا أن هذا هو الشعر, ولذلك نرى بعضهم إذا ما سمعوا قائلاً ينسق القول ويختار اللفظ ذا الصورة الشفافة قالوا,, يقول شعرا, وهذا خطأ فادح دأب عليه كثير من جيل اليوم ففقدوا حاسة الشعر الحقيقية,, وضاعت عليهم ميزاته المطربة.
ولم يسم شعرا عبثاً,, لكنه سمي بذلك لأنه يتميز عن النثر بقواعده الضرورية كالجرس الموسيقي، والقافية,, ولم نر شعرا من هراء التالين وقد حفظه الرواة, لكن الشعر الحقيقي,, هو الذي خلد في الاسماع، وسرى مع الزمن وما زلنا نقرؤه, ونردده ونتعجب من قدرة قائليه على صياغته.
لقد أبدع الشعراء الحقيقيون سواء في الغزل أو المدح أو الهجاء أو العتاب وما تركوا بابا من أبواب الشعر إلا وأبدعوا فيه, ولذلك ما يسمونه أخيرا شعرا يعجز عن تعدد الأبواب, وما ذاك إلا لأنه قول من الأقوال قد يتفنن قائله في صياغته فيسمى نثرا فنيا, وقد تخونه العبارة فيسمى قولا من الأقوال التي تسمع,, ولا تروى,, تعالوا نسمع قول شهاب الدين محمود الحلبي, وانظروا كيف يتلاعب بالصور والألفاظ.
يقول:
رأتني,, وقد نال مني النحول وفاضت دموعي على الخد فيضا فقالت بعيني هذا السقام فقلت صدقت,, وبالخصر أيضا |
ويقول ابن نباتة:
وملولة في الحب لما أن رأت أثر السقام بعظمي المنهاض قالت تغيرنا فقلت لها نعم أنا بالسقام,, وأنت بالأعراض |
ودواوين الشعراء المشهورين مليئة بالصور ذات الابداع,, لا تصل إليها مثل هذه التي يدعي قائلوها انها من الشعر الحديث, فالشعر له سمته المتميزة فليس بقديم ولا بجديد, أو حديث وإنما هو وصف لنوع من القول الذي يخالفه النثر وقديما قيل, كلام العرب نثر وشعر, ولكل واحد صفاته,, وقيوده, أما ما مارسه مدعو الشعر في هذا الزمان فليس من الشعر في شيء وإنما هو من المترجمات التي خدع بها كثير من الشباب الذين لا يعرفون عن أدبهم العربي على مر العصور أي شيء, ومن المؤسف أن هذا الفهم الخاطىء قد سهل الأمر للكثيرين حتى للذين لا يعرفون من اللغة العربية شيئا ولا من الفنون البلاغية ما يشفع.