شهد الاقتصاد السعودي توسعا ونموا كبيرا في اعقاب سنوات الوفرة الاقتصادية التي اعقبت ارتفاع اسعار النفط العالمية في بداية السبعينيات, ولقد انعكس هذا النمو في صور متعددة كان اهمها النمو المتزايد في معدلات الاستهلاك بشقيه الخاص والعام مما ساهم في زيادة فرص الاستثمار المتاحة للمواطن السعودي, الا انه نتيجة لعدم وجود نظام استثمار دقيق، ونتيجة لعدم وجود نظام سليم يعنى بالتخطيط الجغرافي للفرص الاستثمارية فقد شهدت مدن المملكة عشوائية لا مثيل لها نتج عنها تكرار في الانشطة الاستثمارية وازدواجية غريبة في المحلات التجارية حتى اصبح من المحال التعرف على قراءة مستقبل الفرص الاستثمارية في السوق السعودي, ولقد كان من ابرز سلبيات هذه العشوائية الاتي:
* الخسارة الكبيرة التي تعرض لها المستثمرون ولاسيما اولئك الذين كان لهم السبق في انشاء المحلات التجارية حيث جاء الواقع مخالفا لتوقعاتهم السابقة نتيجة لزيادة عدد المنافسين وبدرجة فاقت حاجة السوق.
* انتشار ظاهرة التستر وما صحابها من مشكلات ذات ابعاد مختلفة نتيجة لفشل الكثير من المحلات التجارية في تحقيق مكاسب مرضية للمستثمر السعودي مما دفعه في النهاية الى القبول باليسير تلافيا للخسارة الكبيرة.
* الخسارة الكبيرة للاقتصاد الوطني الناتجة من سوء توجيه مدخرات المواطنين وفقدان الفرص الاستثمارية البديلة حيث كان بالامكان توجيه النشاط الاستثماري والاموال المستثمرة الى نشاطات استثمارية اخرى اكثر ملاءمة لحاجة السوق بدلا من التماثل والتنافس غير المنطقي في الفرص الاستثمارية المتشابهة.
* خلق معوق رئيس امام سياسات توطين فرص العمل في القطاع التجاري حيث لم يعد بامكان المحلات التجارية القائمة تحقيق سياسات التوطين المنشودة نتيجة لفشلها في تحقيق عوائد كافية لتغطية التكلفة الاضافية الناتجة من احلال الايدي العاملة السعودية في فرص العمل المتاحة.
* عدم القدرة على تحقيق المزايا الناتجة من خاصية اقتصاديات الحجم حيث نتج عن عدم وجود تخطيط سليم للفرص الاستثمارية انتشار المحلات التجارية صغيرة الحجم ذات الامكانات المحدودة مما يعوق توسعها المستقبلي واستفادتها من اقتصاديات الحجم المتاحة للمشاريع الاستثمارية الكبيرة.
* ادت العشوائية في تخطيط فرص الاستثمار الى خلق مشكلات امنية ونظامية واجتماعية واقتصادية ملحوظة ساهمت في اشغال وتشتيت جهود الجهات الحكومية ذات العلاقة والى زيادة كبيرة في اعباء الانفاق العام.
* ادت العشوائية في السوق السعودي الى عدم قدرة الجهاز الرقابي على متابعة المتغيرات الهامة في السوق مما ساهم في وجود مشكلات صحية خطيرة يعمد لها المخالفون كوسيلة للكسب السريع خاصة في ظل غياب او قلة الرقابة والمراقبين.
* واخيرا وليس آخرا ادت العشوائية في تخطيط المدن والفرص الاستثمارية المتاحة الى خلق فرصة عمل كبيرة للعمالة الاجنبية حيث ادى انتشار ظاهرة التستر الى تحول قرار التوسع في الاستثمار والتوظيف الى العامل الاجنبي الذي من دون شك سيسعى الى جلب اقاربه وابناء جلدته دون ادنى اكتراث بالمصلحة الوطنية, ولقد اقتصر دور المواطن على تأمين الغطاء النظامي لتحركات وتعاقدات المستثمر والعامل الاجنبي, وفي اعتقادي اننا في الوقت الذي نلوم فيه المواطن على مخالفته النظامية وتضحيته بالمصلحة الوطنية، نلوم ايضا الجهات الحكومية المعنية بتخطيط المدن والفرص الاستثمارية المتاحة.
واذا كان الواقع يكتسي بكل هذه السلبيات فان من حق كل مواطن ان يتساءل عن الجهة المسؤولة التي تسببت في هذا الواقع المر؟ في اعتقادي ان وزارة الشؤون البلدية والقروية هي الجهة المعنية التي فشلت في وضع اطار مناسب للشكل العام لمدن المملكة بما في ذلك الفرص الاستثمارية المتاحة, لقد سمحت وزارة الشؤون البلدية والقروية بالتوسع الافقي في العمران دون حساب دقيق للتكاليف المرتبطة بذلك كتكاليف ايصال الخدمات العامة وتنقل المواطنين بين ارجاء المدن حتى اضحينا نعيش في مدن داخل كل مدينة وحتى اضحينا نشاهد احياء داخل العاصمة تشتكي من عدم وجود الخدمات الرئيسة ومتطلبات الحياة الضرورية.
لقد فشلت وزارة الشؤون البلدية والقروية في وضع تخطيط سليم للفرص الاستثمارية بحيث تكفل لكل حي ومربع سكني ما يحتاجه من متطلبات الحياة المختلفة بعيدا عن التكرار والتماثل في الفرص الاستثمارية حتى اصبحنا قاب قوسين او ادنى من تحقيق المقولة لكل مواطن سعودي مثلوثة والتي يطلقها البعض كتعبير عن العشوائية التي يشهدها الاقتصاد السعودي.
بل ان الامر قد يتجاوز ذلك الى التصديق بأن هذه الوزارة لا هم لها سوى ما تجنيه من رسوم في مقابل اللوحات الدعائية وتلك التي تتزين بها المحلات التجارية دون مراعاة لما يترتب على هذا التوسع غير المدروس من آثار سلبية على الاقتصاد الوطني في الاجلين القصير والطويل.
ولكن ما هوالحل؟ في اعتقادي اننا نحتاج اولا الى الايمان بأن المحافظة على الحرية الاقتصادية التي يكفلها الشارع للمستثمر لا تعني السماح له بالعشوائية ولا تعني ترك باب الاستثمار مشرعا لكل مستثمر وفي اي نشاط واي موقع يريد ولكن الحرية الاقتصادية تعني السماح للمستثمر بالاستثمار كما يريد وفقا للخطة الاستثمارية التي تحفظ المصلحة العامة,
لقد لاحظنا ان غطاء الحرية الاقتصادية قد قادنا الى واقع مر لا يمكن تجاوزه الا بتجاوز مفهومنا الحالي للحرية الاقتصادية, ونحتاج ثانيا الى تحديد الاطار العام للاستثمار ومن ثم ترك الفرص للمستثمرين للتنافس على الفرص المتاحة وبالشكل الذي يحفظ حق المستثمرين الاوائل ويحقق اقتصاديات الحجم ويضمن تطبيق الانظمة والسياسات المرتبطة بالنشاط الاستثماري كسياسات السعودة ونظام الاقامة ونحوها.
ونحتاج ثالثا الى وضع خطة زمنية لتصحيح الواقع من خلال جدول زمني يكفل التخلص من الانشطة الزائدة عن حاجة السوق, ونحتاج ايضا الى عدم تكرار الاخطاء في الاحياء الجديدة اذ يلزمنا تحديد حاجتنا من الفرص الاستثمارية والمواقع الجغرافية الملائمة لكل فرصة وعدم السماح بالتنافس الا في حدود الخطة العامة لهذا الحي او الجزء من المدينة.
فعلى سبيل المثال نستطيع القول إن الكيلو متر المربع يحتاج الى بقالة بحجم ست فتحات وحلاق ومطعم للأكلات الشعبية ومحلين للخضار وهكذا ومن ثم تترك الفرصة للمستثمرين لتنفيذ الفرص المتاحة دون السماح بتجاوز العدد المطلوب من كل فرصة, بشكل عام نحتاج الى تصحيح الاخطاء وتنظيف السوق من العشوائية السائدة فهل تتحرك وزارة الشؤون البلدية والقروية؟ نتمنى ذلك.
اشارة: آمل من القارىء الكريم اخذ جولة في احد الشوارع القريبة من مسكنه ليتعرف على التكرار غير المنطقي للانشطة الاستثمارية ليزداد معي قناعة بضرورة التدخل الجراحي السريع لتصحيح الوضع.
* استاذ الاقتصاد المشارك بكلية الملك فهد الامنية .