الرئة الثالثة قرنٌ,, بأية حال جئتَ يا قرن!! عبدالرحمن بن محمد السدحان |
سأسطو اليوم على (معلّقة) طيب الذكر، أبي الطيب المتنبي,, واعيد صياغة مطلعها الشهير: (عيد بأية حال عدت يا عيد) بما يلائم المناسبة والزمان,, فاقول:
(قرن باية حال جئت يا قرن,,)؟ وأعني بذلك حلول الألفية الجديدة التي استقبلها العالم باسره قبل حين بمشاعر يتقاسمها التفاؤل، وقدر من الوجل والحذر! وفي الوقت نفسه، ودع العالم قرناً حافلاً بالنوائب والأحداث، فقد شهد ذلك القرن حربين عالميتين أتتا على الأخضر واليابس، وقتلت وجرحت أو أعاقت ملايين من البشر، ورمّلت ويتّمت وشرّدت ملايين آخرين، وشهد ايضاً انفجار عشرات من الحروب الثنائية والاقليمية وشبه الدولية، لم تبرأ جراح بعضها حتى الآن! وهو القرن الذي شهد تطور النظام الرأسمالي، وقيام وسقوط النظام الشيوعي، وتراجع نذر الحرب العالمية الثالثة، وأفول الحرب الباردة بين قطبي العالم، وانفجار الثورة الصناعية وتقنية المعلومات، بدءا بالبرقية,, وانتهاءً بالاشارة الضوئية العابرة للقارات، وانتشار معجزة (الانترنت)! واخيراً ,, حلول فتنة العولمة التي تعني في مجمل ابعادها ونتائجها هيمنة الأقوياء على الضعفاء! وقد يأتي الغد بما هو أعظم!
***
والآن,, ونحن العرب نودّع قرناً,, ونستقبل آخر، أتساءل كما تساءل عبقري الشعر المتنبي يوماً,, فأقول مجدداً (قرن باية حال جئت يا قرن)؟!
لن اتنبأ بشيء,, فذاك أمر ينفرد به علّام الغيوب رب العالمين، ولن احاول (قراءة) المستقبل، فتلك (شعوذة) يمارسها الدجالون الذين يكذبون حتى ولو صدّقهم بعض الناس او كانوا هم احيانا صادقين!
***
لكنني، رغم ذلك، سأحاول استشراف بعض الظواهر مما يندرج ضمن عموميّة الحال الراهن للعرب بناء على استقراء حذر لبعض احداث الماضي والحاضر، وسأطرح صوراً ومشاهد هي في مجملها (أماني) ارجو من خلالها صلاح الامر للعرب في قرنهم الجديد,, فاقول:
اولا: اتمنّى ان يتحول حال الخُلف القائم بين بعض العرب الى وئام دائم وفهم قائم على المصارحة الايجابية لا (حبّ الخشوم)، فذاك (خُدر) يردم الجمر ولا يطفئه!
ثانياً: اتمنّى على العرب ان يواجهوا مشكلاتهم الراهنة بشجاعة ونيّة خالصة مخلصة، وأن يرسموا منهجاً للمستقبل في ضوء الطموحات والمصالح المشتركة والموارد الممكنة بعيداً عن شعارات الرومانسية السياسية و(اليوتوبيا) الاقتصادية، وال(نستولجيا) التاريخية التي يغلو بعض العرب في ذكرها وتذكّرها,, وكأنَّ الآباء والأجداد لم يبقوا لعرب اليوم من فرص المجد ما يصنعون ,, حاضراً أو مستقبلاً!
***
نعم,, كان للعرب والمسلمين نصيب من الحضارة والمجد في غابر الايام,, وكانت الشمس لا تكاد تغرب عن معظم مناطق نفوذهم في الشرق والغرب,, لكنهم كغيرهم من اهل الحضارات لم يكونوا في مأمن من الضعف، فذبلت شمسهم، ووهنت عزائمهم، وغدوا ضحية للخُلف بينهم، وللطامعين فيهم من بين ايديهم ومن وراء ظهورهم,, بدءاً بالاستعمار الغادر لبلادهم,, ثم ما تلا ذلك من انقسامات وخصومات وخطوب فرقت شملهم، واوغرت صدور بعضهم على بعض، حتى ليحسبهم المرء جميعا وقلوبهم شتّى!
***
ومن ثم، فإن الاصرار على اجترار امجاد الماضي,, وتهميش الحاضر، وتغييب فرص العمل من اجل المستقبل كل ذلك لن ينفع العرب في شيء، بل سيزيدهم همّاً وشقاء وفتنة في انفسهم,, وسيزيد الهوّة سعة بينهم وبين ما يحلمون بتحقيقه مستقبلا!
***
ثالثاً: اتمنّى ان يدخل العرب الألفية الجديدة بإرادة تهزم اليأس وتفلّ البأس تخلصاً من هواجس الأمس ورومانسياته، وان يكرسوا العمل المشترك لصالح الانسان العربي، وان يردموا المسافات بين اقطارهم اقتصادياً وتربوياً وثقافياً، وأن يبتعدوا ما امكن عن بؤر الخلاف والاختلاف بينهم مما يفرق ولا يجمع، ويهدم ولا يبني!
***
رابعاً: اتمنّى على العرب ان يتعاونوا تعاوناً صادقاً ودائماً واميناً في مجالات يتوفر لها الحد الاعلى من الاتفاق لا الاختلاف ومن التكامل لا التنافر، فليست الشعارات المفرّغة من المضمون هي التي تجتمع حولها الشعوب وتتحد كلمة وصفاً، وليست اللقاءات بين اهل الحل والعقد من قادتهم هي الوسيلة المثلى لبلوغ الوحدة المنشودة، لكن المصالح المشتركة هي الصراط الى ذلك، وفق خطط مدروسة تستوعب حيثيات الزمان والمكان وعقلانية الحاجة.
***
خامساً: اتمنّى على العرب في ألفيتهم الجديدة ان يُعيروا جيلهم الشاب الكثير من اهتمامهم تربية وتعليماً يؤصِّلان في وجدان الشاب انتماءه الى حاضره ومستقبله، وينميان رصيده من التفاؤل والعزم والقدرة على بناء هوية ثقافية صحيحة تقوم على العمل الشاق المبدع، لا على الانتساب الى الموروث فحسب والترنّم بملاحم من سالف العصر والاوان!
***
سادساً: واخيراً,, اتمنّى على العرب ان يضاعفوا استثمارهم في مجال البحوث الجادة التي تستشرف المستقبل ولا تنبش التاريخ، وتفجر ينابيع الامل,, ولا تنكأ جراح الماضي، وان يزيدوا اهتمامهم بترجمة الجديد المفيد مما أبدعته بعض العقول في الشرق والغرب,, في مجالات المعرفة الانسانية، وليتذكروا ان يابان الامس التي دمّرتها القنبلة النووية,, وارغمتها على الركوع امام مائدة الاستسلام,, هي نفسها يابان اليوم التي صنعت لنفسها بنفسها معجزة صناعية غزت (اعداء) الامس في عقر ديارهم، وخلطت كثيراً من الأوراق في الساحة الاقتصادية المعاصرة, ولم تكن اليابان لتبلغ ذلك بدون العلم والبحث والترجمة والاصرار على اعادة بناء الذات بإحكام عنيد!
وكل قرن,, وأمتنا العربية في حال أفضل!
|
|
|