الناقدة العراقية فاطمة المحسن تحكي لـ الجزيرة عن الغربة والوطن والشعراء أكثر شعراء العراق عاشوا في المنفى وعلى رأسهم الجواهري والبياتي وسعدي يوسف |
* القاهرة مكتب الجزيرة شريف صالح:
أول ما يراه المرء في وجه فاطمة المحسن هو الطيبة والحزن الكامن,, لكنها عندما تتحث عن العراق,, عراق الشعر والأدب,, تعلو نبرتها وتتألق وتتكلم بطلاقة,, عن السياب والبياتي والجواهري وسيركون بولص،,, تبوح بحميمية عن الرواية العراقية التي تشكلت في المنفى,, لقد حاولنا بصعوبة ان نتحادث معها عن تجربتها الخاصة,, تجربة المنفى والرحيل,, ورغم ان كلماتها جاءت قليلة ومقتضبة الا انها موجعة ومؤلمة,, وربما كشفت مساحة الصمت عما تخفيه من أسى دفين,, وشيئا فشيئا عاد وجهها الى سمته الأول,, الى الطيبة والحزن والصمت البليغ,, وهكذا يشعر القارئ ان الصمت في هذا الحوار كان أحيانا أبلغ من الكلام:
الرجل الناقد والمرأة الناقدة
* في مرحلة بعيدة من حياتك مارست كتابة الشعر,, كما انك تكتبين القصة احيانا,,!! فلماذا لم تنشري أعمالك الابداعية مجموعة؟!
اعتقد حتى الآن انني أكتب القصة كجزء مني ولا دخل للقارئ بها، ليس رهبة امام عملية الابداع وانما لاحساسي انه امر خاص بي,, لقد نشرت بعض تلك الاعمال في الصحف لكني لا اذكر اين ومتى,, ربما يذكّرني الاصدقاء بذلك احيانا,!
* ربما نقول ان طاقة الابداع بداخلك انتقلت الى الكتابة النقدية؟
يجوز ان يكون هذا صحيحا,, لأن العملية النقدية ليست مجرد فحص موضوعي للنص، فدائما لدي علاقة مع النص تتداخل فيها الأحاسيس المختلفة، ولا تقتصر على الجانب المعرفي، وبالتالي تحتوي العملية النقدية او تحتاج على الاقل بالنسبة لي الى طاقة عالية من ذاتي، الى استعمال الوجدان واللاشعور احيانا بغرض التقاط الخفي من النص، والتقاط العناصر التي سأبلورها في صيغة نقدية معينة, لا اظن ان النقد عملية موضوعية باردة او خارجية انما هي جزء مني,, جزء من كياني,, لهذا فإن الكتابة تتعبني احيانا، وقد تملؤني بالرضا وقد تملؤني بالغضب، واصل معها في أوقات كثيرة الى الشعور بالانهاك العقلي والروحي.
* أثمة أدوات اخرى للناقدة غير ما يمكن تسميته بالتعاطف مع النص,؟
أنا لا اقصد كلمة (التعاطف) لكني اقصد البحث عن التكوين الآخر داخل النص، عن خلق صلة روحية معه بجانب الصلة العقلية، لأنه لا يمكن الاشتباك مع النص على كافة المستويات الا بهذين الامرين، بجانب التأمل والتفكر بالنص,, وان يكون لدى الناقد نوع من التراكم المعرفي في مجالات متعددة.
* هناك رأي يقول بأن المرأة الناقدة تختلف عن الرجل الناقد؟
لا يوجد فارق حقيقي بين الرجل والمرأة في ذلك المجال، فلكل منهما وسائله الخاصة في التعامل مع النص,, لكن اذا صح ان نقول: ان هناك ذوقا أنثويا، فلربما تكون علاقة المرأة الناقدة بالنص مختلفة بعض الشيء عن علاقة الرجل.
الرواية العراقية في المنفى
* لقد قدمت عددا من الدراسات الهامة عن الادب العراقي الحديث، وكانت اطروحتك للدكتوراه في هذا الموضوع,, الآن وأنت في المنفى كيف ترين الأدب العراقي؟
بالنسبة للرواية من الصعب ان نلخص ملامحها في المنفى، لكن هناك اشتراك في المضامين نوعا ما,,, ربما لأن الاحداث العراقية تكاد ان تكون ساخنة، فمثلا هناك الحروب المستمرة منذ فترة طويلة، وكذلك الاهتمام بقضية الهجرة، لأن الكاتب العراقي يحاول ان يضع نفسه في داخل المحيط الجديد ابداعيا، مما يجعله يعيش حالة توتر دائم بين عالمين، يعاني الغربة عن الوطن ومحاولة الاقامة في مكان آخر, هذا هو الاتجاه الاساسي للرواية العراقية في المنفى,, ورغم ان العراق بلد الشعر بالاساس فإن كثيرا من الكُتّاب لجأوا الى كتابة الرواية ربما لاحساسهم بأنهم يمرون بأحداث تاريخية كثيفة وعالية التوتر، لا يكفي الشعر لتوثيقها، فالرواية كانت تعني توثيقا للحدث، وقد ساعد المنفى العراقيين في تكوين تقاليد الرواية العراقية، وازعم ان تقاليد الرواية العراقية نشأت في الخارج ومنذ فترة طويلة، فأول روائي عراقي مكتمل الملامح هو غائب طعمة فرحان الذي عاش في القاهرة وتأثر بمناخها وكان تلميذا لنجيب محفوظ، وذلك في فترة الخمسينيات، وأطول رواية صدرت في المنفى حتى الآن هي رواية الشاعر والروائي فاضل العزازي التي تحكي عن مدينته بشكل فانتازي.
بلد الشعر
* وبالنسبة لتجربة الشعر في المنفى؟
كثير من شعراء العراق هاجروا وعاشوا المنفى ومن اشهرهم الجواهري وسعدى يوسف وانضم اليهما فيما بعد البياتي,, لكننا لا نستطيع ان نقول ان الشعر العراقي استفاد كثيرا من المنفى، ورغم ترجمة شعرائنا لنماذج متعددة من الشعر الغربي إلا ان تأثرهم بها كان محدودا، وبقيت تقاليد الشعر العراقي منذ السياب مهيمنة,, لدينا اسماء كثيرة وهامة من الجيل الثاني من شعراء الستينيات وما بعدها امثال: سعدي يوسف وفاضل العزازي وهاشم شفيق وعبدالكريم قاصد,, وهناك سيركون بولص الذي تأثر بالشعر الامريكي، لكن بقيت له نكهته الخاصة واجواؤه المتميزة، فقصيدته واضحة التضاريس، تعتمد على اللعب الواضح باللغة، وتمتاز بالتورية، وبالعاطفية، ويمكن ان نصفها بأنها قصيدة قوية ونظيفة وشديدة التماسك دون غموض، انه يقتحمنا بقصيدة نثر متماسكة البناء بعكس ما هو سائد عن قصيدة النثر التي تعاني التشتت والغموض.
* هل قصرت اهتمامك على الادب العراقي فحسب,؟
بطبيعة الحال لا,, فكما قدمت دراسات عن البياتي وسعدي يوسف والرواية العراقية، اهتممت كذلك بالأدب الفلسطيني وبالشعر الفلسطيني وبحركة المهجر وبمدرسة الديوان في مصر,, وما زلت اعمل واعيش في وسط عربي ولكني اركز اكثر على اضاءة الادب العراقي,, فرغم اشتراكنا كعرب في لغة واحدة ما زلنا بحاجة الى التعرف على بعضنا البعض، وخاصة ان الاديب العراقي بطبعه يميل الى العزلة، لولا ان الظروف السياسية ارغمته على الهجرة وعلى الانفتاح على الآخرين، فتعلَّم العراقي ان يغادر (جلده) برغ مما قد يعانيه من شروخ نفسية زاد منها الحصار السياسي بعدما صار من حروب,, والحقيقة انه برغم ما كان يقام من احتفالات ومرابد إلا ان الابداع العراقي ظل محصورا ويحتاج الى إضاءة.
حالة حزينة
* بعد كل هذه السنين ألا تفكرين في العودة؟
ابتسمت بحزن انا ممنوع عليّ,, ربما يقتلونني عند الحدود،,.
* لماذا,,؟
لقد غادرت العراق منذ عشرين سنة (1979م) بطريقة غير قانونية، حيث سُجنت في العراق وعانيت عناء شديدا، بسبب الاختلاف الفكري مع النظام، ثم اضطررت للهروب,, وصمتت عن الكلام .
* ألا تريدين الحكي عن تلك التجربة,؟
ما فائدتها,؟ لا اعتقد انها مفيدة للقارئ,, ويكفي الحكي عن الجانب الأدبي؟
* لكن هذه الذكريات الحزينة جزء من تجربتك كناقدة ومثقفة؟
لقد خرجت من العراق عن طريق كردستان حتى وصلت الى ايران، إبان بداية التوتر بين البلدين، ولم تكن معي وثائق تساعدني على الرحيل، وكان هناك وقت للملمة الانفاس ثم سرعان ما خرجت الى بيروت، ومن بيروت بدأت حياة الغربة والترحال بين العديد من المدن,, وحاليا استقر في لندن,.
* اذا قلت لك,, كيف تصفين شعورك وانت بعيدة عن الوطن منذ عشرين عاما؟
في البداية كان الأمر صعبا,, لا وطن,, لا مكان,, إحساس بالغربة,, بالشوق الى العراق,, الى الناس والأهل,, لكن مع الوقت تعودت على الانتقال، بل اصبحت اعتاد عليه وكأن الترحال اصبح جزءا من تكويني,.
* قلت مازحا كالطير المهاجر؟!
رأيتها تبتسم ثم تطفر دمعة متوارية في عينيها,, وصمت كلانا عن الكلام,!!
|
|
|