تصطدم عيناه الذابلتان بالنافذة، فيسدل أهدابا كان يكوم العتمة بين طياتها حائلا دون تدفق النهار الى عمقها، لا فرق بين النوم والصحوة,, ولا فائدة يجنيها من اغراق يقظته بهواجس يومية عاصفة، تململ الى الجانب الآخر تدفعه رغبة ملحة في مواصلة الكسل، يجب أن يغفو من جديد,, يجب أن يفعل، همه العظيم يتغلغل في خلاياه المحترقة,,كل يوم يجلده بسياط الندم، لذلك سيواصل الليل بالنهار,, سيغرق وعيه بالسبات، حتى يبدد تلك المنغصات التي تكتظ بها أوقاته، ولكن مع سطوع الوعي في رأسه كان يغادر حنجرته تثاؤب جامح,, خمول جعله يرمي بأنظاره على الجدران المشروخة أمامه,, ثم ينقلهما الى المرآة المهشمة في الركن المتداعي من حجرته، لا شيء في المكان يغويه على النهوض، ومع ذلك هب يجلس في سريره بامتعاض,, حيث سرعان ما غادره الى ممر مجاور,.
الاصوات القديمة تعبث برأسه الدائخ، يتلاشاها بتناول شطيرة جافة,, وحبات من الزيتون، لو يجيء الحظ بقادم يطرق بابه,, مستجديا قصائد وجده المرهف,, ليأخذ منه قوت هذا النهار، كالعادة آخذ يستعرض طابور الذكريات,, مستعذبا وساوسها البهية، قبل عامين فقط,, كانت القوافي المندلقة من عبقريته تلون حياته بالرفاهية,, تنحتها بكنوز الأحرف المخبأة في أصابعه، ما عدا تلك الحادثة المشؤومة التي هتكت ستره على فوهة الفضائح,, لربما ما بقي غير ثروة جناها من النجومية,, نجومية كان يرصع بها جباه الآخرين,, ضوء ينزلق من ابداعه الخوافي,, ويغمر به وجه الغرباء,, تعاوده الأصوات الساخطة من قاع جرحه الذي ينزف بالوجع، يومه المكهفر ذاك,, كان يحترق بين براثن الدسيسة,, في عيون الوشاة,, وشماتة من يصادف في الممر المؤدي الى القاعة الفاخرة,, توجس في نفسه خيفة وهو يصعد السلالم الى الدور العلوي، وكلما أمعن في الصعود كان يترسب في أسماعه صوت صديقه عمر:
أنت مبدع يا حبيب,, فلماذا تتاجر بهذا الجمال؟
لو كان لديه حينها جواب آخر,, لما قال له:
نحن في زمن المال يا رجل,, فلا تُعثر دربي المفروش بالثروة بهذه المثاليات
سقطت رعشة كان يحملها الفزع الى أطرافه,, تأمل الرجل مليا,, في وجهه المطل من مكتب عظيم رأى الكثير من الأسئلة المتكومة بالدهشة، قلب مضيفه عديدا من الأوراق دون أن ينظر اليه، وحين تمددت الهيبة في شراينه، رفع الرجل اليه طرفا محترقا،
إذن,, أنت حبيب المازني؟!
علا صخب أنفاسه، وهو يجيب متعلثماً:
أجل,, أجل يا سيدي
كلمات ظن أنها قد تناثرت من ثغر الرجل المهيب، واستقرت في أذنه الشاردة، سمعه يقول:
لا قترافك هذه الجريمة الشنعاء في التجارة بالأدب، فقد تقرر تحويلك الى التحقيق
تلك كانت النهاية، بدأ يستعيد شيئا من إدراكه وهو يسمر أنظاره على باب حجرته الخشبي، منذ أن انتقل الى هذا المكان الحقير,, ومنذ أن أُوقف قسرا عن الابداع,, لم يعد يحيا إلا مثل الصعاليك,, ومتشردي الطرق، يفضي بذاكرته الى تقريع صديقه عمر,, أراد أن يستنجد به في الخروج من المأزق,, كيف يفعل بعد ذلك,, ومن أين يعيش، هنالك لطمه عمر بعبارات غاضبة:
قلت لك,, كفاك غشا,, إنك تصنع من المزيفين نجوما وشعراء,, من أجل حفنة من المال
أريد أن أعيش,, فلست مؤهلا لوظيفة أو مهنة أخرى غير الابداع
إذن تعلم,, أو اصنع لنفسك ابداعا,, ولكن لا تدع الاحتيال يدمرك
قالها,, وخرج من حياته لا يلوي على شيء، تركه وحده يحصد ثمار الجريمة,, الخطيئة التي تنهشه,, الخطيئة التي حولته الى مرتزق ومتسول للمال,, كان يطرق ابواب المحسنين والكرام يسألهم فائض رزقهم,, لكنه في كل مرة، يرجع مهزوما كسير النفس، تقبض يده على مئات الريالات التي يدفعها في اسكات وعيد,, المدينين بينما لياليه تنطوي على حرمان عنيد,.
سارت به اقدامه العارية الى صخب المدينة، من شرفته الصغيرة، رأى في الطريق كهلا تصفع الدروب خطاه المتعثرة، سمع نداءه المبحوح,, ولعله كان يتوهمه,, شيخا يحمل في يديه علبا مكدسة لمحارم ورقية,, يشير بها الى المارة,, وسائقي السيارات السريعة:
مناديل ورقية,, من يشتري,,
قبل ولوجه الى حجرته الكئيبة,.
القى على الشيخ نظرة أخيرة، فلم يجد في نفسه سوى إحساس جارف بالخزي والخجل,, شعر بأن يدا تمتد الى عنقه بالاختناق,, وتزلزل أوصاله الخاملة, في ذلك اليوم، خرج حبيب المازني بوجه يشع باصرار عجيب,, حيث لم يعد الى بيته الحقير أبدا,.
سحر الناجي