Tuesday 18th January, 2000 G No. 9973جريدة الجزيرة الثلاثاء 12 ,شوال 1420 العدد 9973



لما هو آتٍ
حين يحضَرُ المطرُ
د,خيرية إبراهيم السقاف

حين يهمي المطر، تنتابني حالة غير اعتيادية، لا أقوى على فعل أيِّ شيء سوى الإحساس بالمطر، استنشاق التُّراب الذي يُرسل بزخمه فيعطِّر الحاسة بنكهته النَّدية العميقة، الاغتسال بزخّاته في شعورٍ لا إرادي بالذوبان في غياهبه العميقة اللا مُدركة، وسوى التأمل في صفحة المدى الذي يحمل الكثير من الأسرار الغامضة، والرهبة الكامنة، والدفء المُحتَوي لما حوله في قوة ليست قاسية، وليست ساخنة، إنما هي شيء من التَّلبُّس الذي يُفقِدُ من يحتويه، وما يحتويه سيطرتَه على ذاته,,.
حين يهمي المطر تتلبَّسني مشاعرُ كامنة في أظهرها الفرح، وفي أبطنها البكاء,,,، ولا أدري لماذا يجمعُ المطرُ بين الفرحةِ والدمعةِ؟,,.
الصغار ليسوا وحدهم من يقفز للمطر، الكبار أيضاً يقفزون,,.
والمطرُ له سطوةٌ,,.
حين يتحوَّل إلى جارفٍ,,, يُكشِّرُ عن وجهه الآخر,,, حينها لا أمدُّ له يدي، إنما استنهضُ الإحساسَ بالخوف,,,، وهو ليس خوف الجبناء، ولا خوف الخطَّائين، إنما هو الخوف الرَّاهب يتملَّكني في صومعة التَّبتُّل,,,، ذلك لأن وراء سطوته نذيراً,,,، والمخاطب حينئذٍ هو الله تعالى فيا رب,,.
وحين يتحوَّل إلى ساقٍ، ينمُّ عن وجهه الدافىء الحنون، حينها تُفتح له منافذُ، ومسامُّ كلِّ ذرات الكيان، يتفاعل مع نبتة صغيرة بين حجرين لم تكن تجد قطرة تُرويها فاصفرّت وجاءها المطر يمسح عنها اصفرارها بلمساته المنعشة، وتلك الدابة الصغيرة التي دسَّت رأسها في أيِّ ثُقب، تنقِّب عن قطرة رُواء تبلُّ جوفها الصادىء، يأتيها المطر بالرُّواء،,,, وتلك السُّطوح التي كلحت من وهج الشمس، ولفح الهواء، وجفاف التراب,,,، يأتيها المطر فيطهرها، ويغسلها، ,,, وكلُّ ثقب تملؤه القطرات المطرية,,, يرتوي,,, فينتشي، يُرسل إلى الصَّدر بوهجة البسمة، وانتعاشة النَّدى,,.
المطرُ,,, رسالةٌ غيبيةٌ ذات رموز,,.
حين يهمي في زخَّاته، وفي قوته، عند مروقه وعند استوائه,,, يفكُّ الرموز، في حالة تتلبَّسني أقاويل كثيرةٌ، أُثرثر بها مع المطر، أجادلُه، أحادثُه، أضاحكُه، أباكيه، أهرب من كلِّ شيء، وأيِّ شيء إليه,,.
اللحظة، وأنا أكتب داهمني المطر,,.
أزحتُ أوراقي عن مكتبي,,.
أبعدتُها من تحت يديَّ,,.
أسرجتُ قلمي في يدي,,.
أسندتُه فوق حافة نافذتي,,.
وعلى كفي كتبتُ أوّل ثرثرتي مع المطر,,.
قلت له ما لم تقله قطرةُ الدَّم تنبجس من عروق ضحية حرب،
باغتُّهُ بدمعة حزن لم يدر عنها عصفورٌ عاد لعشِّه ليجد أمَّه قد رحلت،
هاجستُه بحنينٍ لم تُعبّر عنه صبية كانت للتَّو تلتقم خبزَها,,,، فسقط عنها في هوة لا تلحق بها,,.
ساررتُه بشيء عبر في المدى، فالتَقَطتُهُ رؤىً جميلة لأيام ستأتي,,,، قلتُ له ما لم أقله منذ زمن الجفاف، والفقد، و,,, الحنين,,.
سألتُه عن موطنٍ يضمُّ الصدى، هل باغته بالرُّواء؟، وعن ألوانٍ داهمتها الشَّمسُ هل بخّرها؟ وعن شجر ينتظر عند حافة النهر، هل أرسل إليه القطرَ والندى؟ عُدتُ من النافذة، وقد تبلل معصمي، وذوّب المطرُ حبري، وامتزجَ بكفي,,,، وسرى في عروقي مع دمي، فأدركتُ أنه استوى بين الشِّغاف والشِّغاف، وبأنَّ الورقة فوق المكتب سوف تمتلىء حروفاً، وطيوفاً,,, وأحاديث المطر,,.
ولاتزال أصداؤه تداعب السطوح,,.
ومزاريب السطوح تُرسل بهديرها عند كل منسرب,,.
وأوجه الأرض,,, والسطوح,,, والجدران,,, وسفوح المرتفعات,,,، والعربات، وكل ما قابل المطر,,, ينتعش رهجةً، أو بهجةً، أو دموعاً,,.
رسائل المطر الثلاث,,.
فأي منها يرتهج,,, يبتهج,,.
وما يبتهج,,, يرتهج,,.
وما يرتهج يدمع,,.
وما يدمع,,, يشعر,,, يحس,,, يتفاعل,,.
وهي نواتج المطر,,, الشعور والإحساس والتفاعل,,.
والحديثُ مع المطر ينبثقُ بشعورٍ احتوائيٍ تفاعليٍ يفوق حدَّ القدرةِ في العجز عن التعبير عنه، ما لم يكن المطرُ,,, قطرةً قطرةً بين الشِّغافِ والشِّغافِ,,.
,,, ,,,
عُذراً جاء المطر,,.
وحين يأتي المطر لا أقوى على محادثة سواه,,.
لكنّه لايرفضُ أن يكون الحديث معه مسموعاً,,.
ذلك لأنه يرسل أقواله منثورة فوق صفحاتِ المدى، والفضاءِ، وكلِّ المساحات,,.
ولا أحلى من الثرثرة في حضرة المطر.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

نوافذ تسويقية

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.