كاتب علّمني جاسر عبدالله الجاسر: الثقافة العربية ثقافة أبوية المثقف الحقيقي هو المنفتح معرفياً على جميع التجارب القائمة |
*اعداد : أحمد زين
هنا وعبر هذا المحور كاتب علمني نحاول تلمس الاضافات او التطورات التي عادة مايحدثها الاطلاع على معطيات ثقافية او فكرية لأشخاص او شخص بعينه في نتاج ابداعي أو ثقافي لمبدع أو لمثقف ما,, بمعنى التعرف على مقدار مايتعلمه او يكتسبه مثقف ما من مثقف آخر سابق له، ومدى حيوية هذا المقدار وقدرته على التجذر ومن ثم المساهمة الفاعلة في التكوين الثقافي أوفي تشكيل رؤية فكرية أو ثقافية جديدة تنعكس او تتحكم في العلاقة مع الاشياء والموجودات,, الناقد جاسر الجاسر ترك جانبا المقاصد التي دفعتنا الى طرح مثل هذا المحور والمشار إليها قبلاً، يعني انه لم يتحدث لنا عن شخصية محددة اضافت له أو علمته شيئا اثراه أو انعكس ايجابا أو سلباً على رؤيته الثقافية مثلما فعل آخرون تناولوا هذا المحور، بل راح يحفر في جذر المحور محولاً إياه أو واجداً فيه جزءا من إشكالية كبيرة تمس وضعيتنا الثقافية والاجتماعية أخذ في لمسها بشكل لافت وعميق مايشير الى انها هذه الاشكالية حاضرة في ذهنه وأنها موضع تأمل دائم وملاحظة دقيقة من قبله، فإلى ما قاله عن (كاتب علّمني):
اللافت في الموضوع اتصاله باشكالية أساسية أعاقت نمو الثقافة العربية، أو على الأقل، جعلت من بعض محاولات نموها أقرب ما تكون عمليات تمرد وانشقاق وعبث, هذه الاشكالية تتمثل في تواطؤ سلوكي له جذره التاريخي الممتد اجتماعياً، أسهم في ترسيخ تبعية معرفية تجعل من تتابع اجيال المثقفين سلسلة تناسخ كلي له بدايته المعروفة لكن نهايته معلقة بتحولات الزمن, وعندما يكون هذا هو حال المثقف فإنه يفتقد شخصيته الابداعية ويغدو مجرد نسخة مكرورة من كاتب اسبق ما يعني بالضرورة غياب الفعل الثقافي الحي وارتهانه في وضعية من السكون المميت حتى إن أي محاولة تحرر لاحقة تفقد زخمها الايجابي في الجسد الاجتماعي والثقافي لانقطاعها الزمني عما سبقها، ولما تتصف به من عجز، أخلاقي في الدرجة الأولى، عن تجاوز السابق الراسخ وفتح مسارات جديدة كلياً.
هذه التبعية ليست قصراً على المثقفين بل هم أحد صورها، فهي سلوك اجتماعي شامل يستند إلى مفاهيم الأبوة والبنوة في النمو الاجتماعي والحضاري بحيث تكون أي علاقة اتصال واحتياج لمعرفة مهما كانت أولية ومشاعة ذات طابع تسلسلي هرمي يجبر الطرف الأضعف فيها على القناعة بقاعدته ما يجعل من الضروري وفاة الأب قبل إحداث أي تحرك جذري, ولعل أبرز مظاهر التبعية وأكثرها شيوعاً يتمثل في الولاء التقليدي للمعلم باعتباره مفتاح المعرفة من دون التمييز بين الفعل الخلاق لرائد يستنبت مسالك جديدة، والأداء المهني لموظف يؤدي عمله الرسمي، لذلك تخلقت وضعية التبعية المطلقة من منطلق الأقدمية، فالأب أفضل من الابن لأنه أسبق وجوداً، والمعلم أرقى معرفة من الطالب لأنه أقدم تعليماً، والسلوك الاجتماعي السائد أنقى من المستحدث لأنه نتاج الجيل المتقدم زمنياً.
إن المتابع لحال الثقافة العربية يجدها لا تختلف في آليات تعاملها عن تعامل الابن مع أبيه، فالأقدمون في الانتاج والسابقون في التجربة هم آباء لكل من يجيء بعدهم، وعلى المستجد، تبعاً لذلك تقديم الولاء والتبعية والتأكيد عليهما.
المثقف الذي يحصر مصادر معرفته في مثقف آخر وحيد يكون له المرجع والمهتدى هو، في النهاية، مجرد تابع يعيد بث مقولات معلمه وشرح دلالاتها، ومن أقرب الشواهد الحية وأكثرها حضوراً علاقة هاشم صالح مع محمد أركون، إذ أن حضوره الثقافي لا يتجاوز ترجمة مؤلفات أركون وتبيان مقاصده ونواياه، والدفاع عنها إن لزم الأمر.
المثقف الحقيقي، وأعني غير المؤدلج الذي يتحرك في اطار مرجعية منغلقة وحتمية لا يمكن له تجاوزها، هو المنفتح معرفياً على جميع التجارب القائمة، والمستقرىء بوعي للتيارات الثقافية المختلفة بحيث يستطيع ان ينتفع من شتاتها وتناقضاتها ونزعاتها في بناء تكوينه الخاص غير المنغلق، ويوظف هذه الحصيلة في استيلاء آلية ابداعية تسعى للمساهمة الفاعلة في التجربة البشرية مهما كان اطار تأثيرها المباشر، والتي لا يمكن الوصول إليها الا عبر حالات متوالية من التفاعلات التراكمية والمتنامية للمواد المعرفية الأولية المتنوعة والمتعددة المصادر.
من هنا فإن كل مثقف يتعلم من آخر سبقه جزئية معينة قد تكون ظاهرة الوضوح في نتاجه مما يلحقه بالتقليد لا التميز، وقد تضيع في خضم الجزئيات التي التقطها من مصادر أخرى تبعاً لأصالته الابداعية واستقلاليته المعرفية وتكاملها, ولعل ما نعايشه من ذوبان لمعوقات الاتصال التقليدية، نتيجة امكانات الاتصال بدرجاته، يتيح لكل مثقف مبتدئ أو جاد الثقافة الكونية في أحدث نتاجاتها يقلص كثيراً حالات التبعية الثقافية الطاغية ويولد تيارات جديدة أكثر تماسكاً وثراء وابتكاراً نتيجة الاحتكاك الثقافي المباشر والمكثف مع ملامح التجربة البشرية كافة.
إن قيمة الكاتب/ الأب كانت حاضرة وملحوظة في مراحل زمنية سابقة اتسمت بندرة مصادر الاطلاع المعرفي وصعوبة العثور على ما يمكن قراءته إما بسبب الترجمة أو الرقابة أو عدم العناية بالتنمية الثقافية ما يجعل الرمز الثقافي في الوسط الاجتماعي مصدراً اساسياً يتكتل حوله تلاميذ الثقافة ليتحول، تالياً، الى مانح للرؤية المعرفية ومحدداً لسياقها المفترض كما كان الحال مع العقاد تحديداً, كما أن نموذج الكاتب/ الأب شائع في المجتمعات المنعزلة أو المعزولة ثقافياً أو المتشككة تجاه الآخر والجديد مما يتطلب وجود رمز يرسم الخطوط العامة ويرشد المتشككين.
ومع أن البصمات المهمة للثقافة العربية ارتسمت عبر محاولات ريادية للانعتاق من أسر التبعية والثبات، إلا أن الملاحظ ان كثيراً من المثقفين البارزين حالياً يحرصون على تكريس مفهوم التلمذة الكلية والنزوع للتمتع بمزايا الاستلاب الثقافي إذ يفترض أحدهم أن بروز صوت ثقافي متميز يجب أن ينسب إليه لمجرد أنه درسه في المرحلة الجامعية أو اشرف على رسالته، متجاهلاً طبيعة النمو الثقافي وافتراقات الأجيال الحتمية حتى وان تشابهت ملامحها العامة ما يؤكد تجذر فكرة التبعية اجتماعياً وصعوبة التخلص منها ويجعلها خطراً حقيقياً يهدد مستقبل الثقافة خصوصاً وان من الداعين لها رموز المعرفة التجديدية.
المرء، وهو يحاول بناء شخصيته الثقافية، يتعلم من أناس كُثر ليسوا جميعاً من الكتّاب بالضرورة ، ويتأثر بعوامل مادية كثيرة، لكن الذي يعلّمه حقيقة هو الذي يبادر في تقديم عون معرفي يؤثر جوهرياً في حركته الثقافية الكلية ويحافظ على صبغة ثابتة فيها، لذلك أرى أنه لابد من اعادة صياغة السؤال ليكون عن المجددين والرواد الذين اسهموا بجهدهم ومبادراتهم الاجتماعية والفنية في استثارة نشاط أجيال جديدة تبعت طريقهم ليس بسبب الولاء والتقليد ولكن للقناعة بقيمة وأهمية وفاعلية هذا الجهد أو المبادرة في تحريك السكون وبث الحيوية في الفعل الثقافي الراكد.
الكاتب، نظرياً، يتعلم من كل ما يقرؤه، وهو يتعلم بقدر ما يقرأ لذلك يستطيع الجزم أنه لم يتعلم، أو على وجه الدقة، لم يستفد في تجربته الثقافية من الذين لم يقرأ لهم من ذوي الجهد المتميز أو الاجتهادات اللافتة في حقلهم الثقافي .
لكنه استفاد من كل جهد معرفي اطلع عليه واستفاد منه سواء بالتوظيف الفني أو الاستبعاد، أما صاحب الانتاج النافع فهو ليس معلماً لانتفاء القصدية والمباشرة والمبادرة والعون الفني المستمر التأثير.
|
|
|