على الهامش السَّردية الكابوسيَّة والمكان حسين المناصرة |
(1)
ونتوقف مع نص لفهد العتيق نجم سهيل الذي,, ، فنراه يختزن العلاقة بين المكان المنغلق في المدينة، والمكان الآخر المسترجع من خلال الذاكرة، إذ يبدأ نصه برفض المكان الشقة الصغيرة في المدينة:
عندما دخلت الشقة الصغيرة التي سوف تكون بيتي الجديد، شعرت بغربة عميقة، ثم حزن، ثم رغبة في البكاء أو الهرب.
عمارة زجاجية، أغلب شققها مكاتب تجارية تفوح منها رائحة الأرقام والحسابات، والناس هنا وجوههم رسمية، ولا يُحدِث بعضهم بعضا .
فالاختناق هنا ناتج من ضيق الشقة، ومن العمارة التجارية، ومن العلاقات الرقمية بين الناس،فكان هذا المصير هو الذي يشعر البطل بالهرب من هذا المكان الغريب المكتوم الأنفاس الذي يبدو كأنه عقاب: كنت أتساءل: أي جريمة اقترفتها حتى أقع في هذه الحفرة المريبة ، والبحث عن أي مكان آخر أكثر حميمية، حتى وإن كان التسكع في الشوارع الأكثر رحابة:
كانت الشوارع تبدو أكثر اتساعاً وأكثر حميمية، والناس تشي وجوههم بالبهجة، والرضا, كنت أحسدهم جميعاً على راحة بالهم التي لا يراها إلا أنا .
ولما يقض البطل في الشقة ثمانية عشر شهراً، فيعد تجربته هذه ثقيلة مثيرة، قضاها في صندوق أسود مثل كابوس طويل، كأنه حكم بالسجن في شقة سوداء لا يدري ذنبه الذي استوجب هذا الحكم، رغم أنه هو الذي تأجر الشقة، وعاش غيبوبة عمر صغير معذب، ثم خرج من هذا الكابوس إثر غزو العراق للكويت هارباً من طريق الطائرات إلى طريق آخر، منتقلاً إلى عالم آخر، هو عالم أكثر انفتاحاً، حيث تنتهي القصة، ونجم سهيل يحاول أن يعبر عن نفسه، وكأن البطل انتقل إلى عالم الصحراء المنفتح الرحب الذي لا يشعر بضيق النفس والسواد، والغيبوبة الذي وجده من خلال الثقة في عالم المدينة!!
(2)
وإذا كان الشارع في المدينة عدّ أكثر حميمية من الشقة في قصة العتيق، فهو كابوس للموت في قصة قامة لعبدالعزيز الصقعبي، حيث، يتوهم البطل أنه يتجدد بخروجه من شقته إلى الشارع، ليفاجأ بموت الشارع نفسه، وآليته:
فهو عندما خرج من البيت، كان خروجه تجدداً: يغادر البيت، يستقبله الشارع، يشعر بأن قدميه تحملان جسداً جديداً، شعر بالغبطة وترنم بمقاطع من أغنية شعبية .
ومع هذا الخروج إعطاء الحرية للقدمين خارج المنزل وما ينتجه من فرح، حتى حاول البطل أن يمد يده ليصافح أول عابر يقابله، يجد هذا البطل الصدمات تتوالى عليه في علاقته بالناس في الشارع، فلا أحد في الشارع يعبأ به، وما أن يحاول سؤال أحد المارة، لا يعيره هذا الرجل المار بالاً، وكانت الصدمة كبيرة: الشارع مملوء بالناس، الرصيف تآكل من أقدامهم، لا أحد يرغب ان يتعرف على الآخر .
فالشارع الممتد امتداداً غير متناه يمتلئ بالرجال والنساء والصبية، والكل منشغل بذاته، وقد توقع أن تكون بينه وبينهم علاقة حميمة، أن يعرفوه ويهتموا به، لكنهم لم يعرفوا حتى أغنيته الشعبية التي ترنم بها بينهم, وما أن يحتك به أحد الأطفال، ويفرح لذلك، حتى نجد أم الطفل تنهر طفلها، وتجره بعيداً قاتلة بسمته لهذا الخارج من انزوائه في بيته، وقد ظن أن خروجه إلى الشارع يحمل جدوى ما، قد تكون في العلاقة مع بسمة طفل ثم تُقتل هذه البسمة، لأن الشارع يقتل أية علاقة، أية براءة ليغدو الزحام ملخصاً بعبارة ما أسوأ هذا الزحام .
وأخيراً يجد نفسه جسداً في وسط الشارع، يعيش تناقض الصراع بين قدميه اللتين لم تتعبا من المشي، وبين رأسه الذي أخذ يفكر بغياب الجدوى من التفاعل مع الناس في الشارع، وكانت النهاية موته عندما صدمته حافلة مسرعة دحرجت رأسه بعيداً عن جسده المطروح وسط الشارع، عليه صحيفة كتب في صفحتها الأخيرة تحت صورته عبارة خرج ولم يعد ,.
إن الشارع الذي أشار إليه العتيق في قصته هو شارع لحظة الهروب الأولى من الشقة، لكنه كما بدا في نهاية القصة كان الشارع جزءاً من المكان غير المرغوب، لذلك كان المكان الذي يعيش فيه البطل يكتنز حركة نجم سهيل، أو هو المكان المنفتح على أقل تقدير على الصحراء الواسعة تحت قبة السماء الواسعة, والخروج من البيت كينونة الرعب والتلاشي، بحثاً عن العلاقة مع الناس في الشارع، شكل بدوره علاقة بحث جمالية للانسجام بين البطل وعالمه المحيط، لكنه يفاجأ بانبتار العلاقة وبحتمية الاغتراب، لذلك لم يبق أمامه إلا أن يعيش مأساة النهاية، التي قتلته، الأمر الذي جعل القاص يتعامل مع بطله بطريقة درامية تكشف غياب الحل البديل، وهنا أقنعنا القاص بأن ممارسة الخروج بحد ذاتها كانت نوعاً من الجنون أو الشوزوفرينيا أو انفصام الشخصية.
(3)
ويبدو أن علاقة الشخصية السردية بالشارع أصبحت علاقة جنونية، إذ لم تعد هذه الشخصية تنسجم مع الشارع العام، وكأن الناس غدوا جزءاً من الجنون والسخرية، بأجسادهم من جهة، أو بالحافلات التي تمارس القتل للناس ولو بطريقة كاروكاتيرية، على نحو ما يصوره الشقحاء في قصته القصيرة جداً البديل حيث نتوقف عندها بتأمل:
أخذ يحدق في المارة، يتأملهم بإصرار متناهي ، بينما أصابع يده اليسرى تقوم بنتف شعيرات ذقنه التي لم يحلقها منذ عشرة أيام، وفي لحظة انجراف لا يدري أحد كيف كان ، ففر من مكانه فوق الرصيف إلى اسفلت الطريق العام، لتسحقه عربة شحن أمام عيون الجميع, ويتوقف تصوير المشهد، ويتكوم المارة, يتقدم أحدهم لمساعدته على النهوض من مكانه، ويرفض اليد الممدودة، ويغادر المكان في صمت وخيلاء .
فهذه القصة، رغم ما فيها من تفكك بنائي لغوي، تكشف سخرية ما بعدها سخرية من علاقة البطل بالمارة في الشارع، إلى حد اعتبار هذه العلاقة قمة في السخرية وهي تنقطع، لتغدو كأنها مشهد من مشاهد الصور المتحركة أو الكرتون,.
(4)
وإلى مثل هذه العلاقة الميتة الإحساس بين البطل والشارع، يكشف جبير المليحان علاقة بطله بالشارع، حيث العلاقة المسكونة بالموت في صياغة من صياغات الرثاء في قصته القصيرة جداً رثاء التي تحمل هاجس الموت الذي يعني التحول من سكون المكتب المعادل للبيت إلى سكون الشارع المعادل للموت:
منذ زمن بعيد وأنا أراه من نافذة مكتبي! أراه كل يوم جالساً على الرصيف، وفي يده مسبحة الزمن، والنخلة تظلله، ودوامات الضجيج الشارع المباح، الناس المتقاطعين، السيارات المتجهمة، القطط الطويلة، الأشجار الباكية، ضوء الشمس الساخط، السماء,, من حوله تدور، وهو لم يأبه, وعندما يؤذن الظهر يقوم ويمشي، منحدر الظهر إلى المسجد، أمس مشى وحبات المسبحة تتساقط من خلفه!! وقبيل أذان ظهر اليوم أمسكت مسبحتي، وتوجهت إلى الرصيف، وجلست تحت ظل النخلة، وسط الدوامات! .
وكأن هذه القصة على هذا النحو لتحميل المصير الكابوس نفسه الذي يرسم علامة إنسان قاص مأزوم بالمكان المعاصر، متمثلاً بفضاءات المدينة غير المريحة في بنية أية لفة سردية مشابهة في تجددها وتجريبيتها.
|
|
|