كانوا هَمَجاً !! عبدالرحمن بن صالح العشماوي |
بالرغم من أنَّ تفاصيل أحداث ذلك العمل الروائي الجميل الذي قرأته في المراحل الأولى من دراستي الجامعية قد غاصت في عالم النسيان، إلا أنَّ الملامح العامة لأحداث ذلك العمل الروائي ماتزال بارزة في واجهة الوعي من ذاكرتي، بل في منطقة الضوء اللامع التي لا تستطيع ظلمات النسيان أن تدنو منها.
ما الذي دفع بما بقي في ذاكرتي من رواية كانوا همجاً إلى ذهني في هذا الوقت؟ بل كيف استطاعت بعض احداث هذه الرواية ان تبرز امام عيني وكأنني اقرؤها الآن؟ وكيف استطاعت ان تعبر كل الحواجز لتصل إلى ريشة قلمي، ثم لتنتقل منها إلى أوراقي التي تحسن استقبال ما يخطه القلم؟؟
يقول المثل العربي القديم إنَّ الشَّجا يبعث الشَّجا ، فكم من أمرٍ يغيب عن ذهنك زمنا طويلا حتى تنساه، بل وتنسى انك قد نسيته، يبرز امامك واضحا جليا كأنما حدث الآن وعندما تبحث عن السبب في هذا الحضور بعد الغياب، وهذا الظهور بعد الاختفاء تجد أن أمراً آخر له بذلك الامر علاقة هو الذي حرك في ذاكرتك ما ركد فيها من ذلك الامر البعيد، فسبحان الخلاق العليم.
كانوا همجاً رواية لكاتب عربي أظنه من الشام اسمه عبدالودود يوسف تموج من الغلاف إلى الغلاف بأحداث خيالية، وشخوص خياليين ومواقف خيالية فهي خيالٌ في خيال، وإذا وجد فيها شيء من الحقيقة فإنما أوجدها الكاتب لخدمة الخيال على عكس معظم الاعمال الروائية التي يخدم فيها الخيال الحقيقة.
ولعل القارئ الكريم سيعجب من تذكري لهذه الرواية الخيالية في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى الحقائق، ولكن عجب القرائ الكريم سيزول بلا شك حينما يجد ان الحقائق التي أراها الآن هي التي ذكرتني بذلك الخيال، بل إنها قربت بعض صور ذلك الخيال من الحقيقة، حتى صرت أظن الآن أن خيال كانوا همجاً سيتحول إلى حقيقة وواقع يعيشه الناس في هذا الكوكب الارضي العجيب.
كيف ذلك؟؟
الرواية تقوم على فكرة انتشار الإسلام في انحاء المعمورة بعد فترة من الانحسار، التي صنعتها هجمات الاستعمار، أو إن أردت التعبير الأدق فقل الاستخراب الغربي الذي حاول وما يزال ازالة آثار الدين بصفة عامة، والاسلام بصفة خاصة، من حياة البشر، ينتشر الاسلام في خيال الكاتب في كل مكان وتقوى شوكة المسلمين في العالم، فيمسكون بزمام الامور فيه، ويتولون قيادة مركبة المدنية المتطورة فيحولونها إلى مدنية نافعة بعيدة عن المصالح الشخصية، والنفوذ المتسلط الذي تمارسه الدول الكبرى وتلغي به حقوق الانسان تحت شعار الحفاظ على حقوق الانسان, وتتسع دائرة الخيال في الرواية، فترسم صورة العالم المشرقة في ظل العدالة الاسلامية، وتتطور الصناعات تطورا مذهلا لأن دولة الاسلام الكبرى قد فتحت افاق العلم النافع لكل الناس، ورعت كل الطاقات، وأخرجت العالم من هيمنة القوي المتعصب الى حرية واعية تقفز بالعلوم المختلفة والصناعات والاختراعات قفزات هائلة تجعل كل ما سبق من مدنية الغرب صورا متخلفة بدائية مثيرة للسخرية، فضجيج الطائرات المزعج ينتهي، لأن العلماء يخترعون طائرات متطورة بلا صوت وتقوم لمسات أنامل البشر الأزرار الأجهزة المتطورة بما لا يقوم به في ظل المدنية الغربية الزائفة إلا أجهزة مزعجة مثيرة للقلق، ويتم اكتشاف وسائل الاتصال، والنقل التي لا تحتاج إلى وقود أو أبخرة سامة تشكل أكبر قضية خطيرة للتلوث البيئي عرفتها الانسانية.
وتنتهي من انظمة العالم السياسية حقوق النقض التي تلغي رأي الضعيف ومكانه وحقوقه، وتصبح مصلحة البشرية كلها هي المصلحة السائدة، فلا مكان في ظل العدالة الاسلامية لكل ما نراه في ظل المدنية الغربية من السيطرة الغاشمة على مصالح الناس والهيمنة على ديارهم وحقوقهم.
أما غزو الفضاء والعلاقة بالكواكب الاخرى فيصبح شيئا آخر يُعد ما يجري منه في المدينة الغربية اليوم همجية وتخلفا.
وفي ظل هذه الاجواء العلمية المفتوحة القائمة على الحرية الواعية ينكشف للناس زيف كثير من النظريات العلمية الغربية القائمة على الشك والالحاد، ومحاولة إلغاء دور الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فتصبح نظرية داروين المعروفة بنظرية التطور مهزلة علمية مثيرة للضحك، او للبكاء اسفا على ما كان من نشرها وفرضها على مناهج التعليم والتربية في كثير من انحاء العالم، كما تصبح نظريات الشيوعية والرأسمالية دليلا على انحراف خطير في ذهن الانسان الغربي ساقه وساق العالم من ورائه على طريق نهاية مأساوية لهذا العالم لولا ما قيض الله من قيام دولة الاسلام الكبرى التي امسكت بزمان المدنية المعاصرة وساقتها الى الطريق الصحيح قبل فوات الأوان ويحدث في خيال الروائي عبدالودود يوسف من عوامل الاصلاح الفكري والثقافي والادبي في ظل الدولة الاسلامية ما يبهر العقول.
هذه هي فكرة الرواية، وبهذا الزخم الهائل من الخيال جرت احداثها فما علاقتها بالحقيقة، ولماذا تذكرتها الآن؟؟
أولاً: أود ان اذكر القارئ الكريم بأنني لا أعرف عن كاتبها الآن شيئا ولا أدري ان كان له عمل روائي آخر أم لا، وهل الكاتب حيٌّ يزرق أم أنه قد ودع هذه الحياة بعد ان رسم في روايته صورة خيالية لعالم جديد، ينقذ الدنيا من مدنية الغرب المخيفة.
ثانيا: قبل ان اجيب عن السؤال السابق انقل اجابة عنه غير مقصودة وردت على لسان بات بو كانون المرشح الجمهوري للرئاسة الامريكية القادمة قال فيها عبر محطة ABC انه ليس من اصل قرد وإنه يرفض نظرية التطور جملة وتفصيلا وانه يجب الا يعرض التلاميذ الصغار لمثل هذه الترهات ويؤكد إيمانه بأن الله تعالى هي الذي خلق هذا الكون.
كما انقل اجابة اخرى عن المرشح الجمهوري الآخر ستيف فوربس قال فيها ان الرسومات التوضيحية المصاحبة لنظرية التطور في الكتب المدرسية تعد خدعة كبيرة، وأكاذيب مضللة للحقيقة، وانه يجب شطب هذه الرسومات، وإلغاء تدريس النظرية كليا.
كما أنقل اجابة اخرى وردت في مقال بعنوان (التربويون في أمريكا يُسقطون نظرية التطور) لكاتبه د, أحمد نبيل أبو خطوة، وهو مقال منشور في العدد الخامس من مجلة الاعجاز العلمي الصادر عن هيئة الاعجاز العلمي برابطة العالم الاسلامي، يقول الكاتب:
كان يوم الاربعاء 11 أغسطس عام 1999م يوما حاسما في الولايات المتحدة الامريكية، فقد خرجت إدارة التعليم بولاية كانساس Kansas عما هو مألوف منذ عشرات السنين عندما صوت ستة من اعضائها العشرة لصالح قرار جريء يقضي باسقاط نظرية التطور )Evolution( المتعلقة بأصل الانسان، ونظرية الضربة الداوية )Bigbang( الانفجار الكبير المتعلقة بتكوين الارض، على ان يشمل هذا القرار جميع مراحل التعليم الحكومي العام بالولاية.
كما أعلنت ولاية تنيسي وولاية لويزيانا بأنه يحق للمدرسة الحكومية ان تطرد اي مدرس يقوم بشرح نظرية التطور على انها حقيقة علمية مسلَّم بها.
كما أعلنت المجالس التعليمية في كل من ولاية واشنطن وأوهايو بأنها توصي باستخدام الكتاب المدرسي المعنوان بالباندا والناس )Pandas, Peple( الذي تحتوي كل صفحة فيه على هجوم عنيف على نظرية التطور , أمام اجابتي عن السؤال السابق الذي يقول: ما علاقة رواية كانوا همجاً الخيالية، بالحقيقة، ولماذا تذكرتها الآن، فأقول فيها:
المدنية الغربية القائمة اليوم لها جانبان، جانب مضيء مشرق يتمثل في هذا الدأب المستمر على تطوير النظريات العلمية المختلفة والمحاولات التي لا تنقطع لاكتشاف ما أودع الله في هذا الكون من الاسرار، وجانب مظلم معتم يتمثل في هذا الانحراف العقدي وهذه العلمانية اللادينية التي تكتنف العقل الغربي، وتطغى على الوجدان والروح عند الانسان المعاصر ومن هنا فإن عوامل الانهيار لكثير من النظريات والافكار والمذاهب والآراء الفكرية والتربوية في الغرب ظاهرة للعيان، واضحة أمام أصحاب البصائر وأولى الالباب.
وها نحن نشاهد صورا من الانهيار تؤكد لنا ما ذكرناه آنفا، وهذه الصور التي نراها هي التي ذكرتني برواية كانوا همجاً .
فنظرية التطور كانت بمثابة الكتاب المقدس عند الغرب، ولذلك دخلت الى مناهج التعليم عندهم من اوسع الابواب وأقرت في مجالسهم العلمية ومنظماتهم التربوية مثل اليونسكو وغيرها، وقوبل من عارضها بالسخرية اللاذعة بل بالعقاب احيانا، وسرى هذا الجنون حتى على كثير من المسلمين الذين يضعف عندهم الوازع الديني والوعي الشرعي في غمرة انبهارهم بنظريات الغرب وآراء مفكريه، ومع هذا فالنظرية تسقط الآن في امريكا التي روجت لها من قبل.
إن رواية كانوا همجاً تقوم على فكرة صحيحة وهي: انحراف المدنية الغربية المعاصرة الديني، وخواؤها الروحي، ولهذا فهي مدنية خطيرة جديرة بتدمير نفسها، وتدمير العالم الذي تعيش فيه، وان البديل لهذا الانحراف هو الدين، وبما ان الدين الإسلامي هو الدين الصحيح الثابت الخاتم للاديان السماوية فهو المنقذ الحقيقي للبشرية، لأنه يوجه الطاقات العلمية إلى مصلحة البشر في ظل شرع الله الذي يمنع من الاستغلال والظلم والتسلط والارهاب العسكري والفكري والعقدي، ويوجه الاختراعات العلمية الى ما يخدم روح الانسان وعقله وجسمه، دون طغيان واحدة منها على الاخرى.
ولربما اثارت الرواية سخرية قاريء علماني أو حداثي حينما قرأها وقت صدورها، ولربما زمَّ شفتيه قائلا، هذه نظرية التطور تدرس في جامعات الدول المتقدمة في الغرب، وهذا كاتب مسلم يتخيل انه قد يأتي زمان تنقضي فيه هذه النظرية وغيرها ويقال عن المجتمع الغربي انه مجتمع همجي، ياللسذاجة!!!
ربما كان ذلك موقف قارئ علماني في ذلك الوقت، فماذا سيقول الآن ان كان مازال حيا وهو يرى ان امريكا نفسها تنقض النظرية، وتلغيها من مناهجها وتعلن سقوطها؟ ماذا سيقول ذلك القارئ العلماني إذا سمع احد رجال الدين النصارى في امريكا يقول معلقا على قرار ولاية كانساس بالغاء تدريس نظرية التطور: إنه لا توجد اي نظرية في الوقت الحاضر تستطيع ان تزعزع إيماننا الراسخ بأن الله هو خالق هذا الكون جميعه بل، ماذا يقول من يتبنى وجهة النظر الغربية في طروحاتهم الثقافية والعلمية والادبية من ابناء المسلمين وهم يرون هذه الحقائق الدامغة؟؟
ماذا يقول من ينادي الآن بوجوب تبني العولمة ويردد شعاراتها ويتشدق بالحديث عن نهاية التاريخ ونهاية العالم كما يتحدث عنها ويطرحها ملاحدة الغرب؟؟هل ينتظر أتباع الغرب من أبناء المسلمين ان يجرفهم تيار الانحراف نهائيا حتى يستيقظوا في وقت لا ينفع فيه الاستيقاظ؟؟
إن رواية كانوا همجاً بالرغم من خياليتها تحمل بذور الحقائق التي بدأ يبرز بعضها للعيان، ذلك لان الرؤية التي ينطلق منها الكاتب رؤية اسلامية مكنته في وقت مبكر من معرفة الداء الكامن في اعماق المدنية الغربية، وهي رؤية لا تتاح إلا لمن استضاء بنور الاسلام، واسترشد بآيات القرآن الكريم، مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الاحاديث التي تستشرف المستقبل من خلال تأمل سُنن الله في الكون والحياة والانسان, لقد عبر كثير من المفكرين الاسلاميين الذين زاروا الغرب عن شعورهم بانهيار المدنية الغربية، وشبه احدهم وهو أبو الحسن الندوي يرحمه الله أمريكا حينما زارها بأنها نمر من ورق ، ولربما سخر منه مستغرب من ابناء المسلمين قائلا: لو أنها نمرٌ من ورق ما رأيناها تأكل وتفترس وتخمش، وينسى ان امراض الروح كالسرطان ينخر في الجسم من داخله حتى يقع فجأة بطريقة لم تكن في الحسبان.
إن ما يحدث في الغرب المبهر من انهيار علمي لبعض النظريات العلمية الكبرى يضع المسلمين امام مسؤوليتهم الحقيقية التي تحتاج منهم إلى جهود كبيرة في نشر الاسلام وبيان ما فيه من خير وصلاح وعلاج ناجع لأمراض المدنية المعاصرة، إنَّ البصيرة في تعاملنا مع نظريات الغرب وافكاره التربوية والثقافية، وآدابه وفنونه تعدُّ أمراً ضرورياً حتى لا ننضم بانهزاميةٍ إلى مركبة مدنيتهم الزائفة، ولا ننساق وراء الأنموذج الغربي بانبهار غبي لا يليق بأصحاب دين سماوي عظيم، فيقال عنا وعنهم ذات يوم كانوا همجاً .
|
|
|