Sunday 16th January, 2000 G No. 9971جريدة الجزيرة الأحد 10 ,شوال 1420 العدد 9971



مع الدكتور ابن حسين
ناصر الصالح العمري

لقد أَنِست وتَمتّعت بالكلمة البهيّة التي أهداها الدكتور محمد إلينا قراء الجزيرة في 1/10/1420ه عن قريته (عودة سدير) وما كانت عليه فيما ولّى من الزمان، ثم ما آلت إليه اليومَ بعد أن أَخنى عليها الذي أخنى على لبَد فلم يُبقِ منها إلا باعثَ الذكرى,, فهو يتمثل بشيء من الشعر في الحنين إلى تلك الربوع الدوارس وأُولَيَاتِ حياته فيها.
أما أنا فقد بلغ بي كلامه غاية البهجة، لأني كَلِفٌ مفتون بهذا الجنس من الأحاديث عن مراتع الطفولة والصِّبا بين الأهل والجيران والخلان، حتى لو أن أخانا أو نحوه ممن يملكون نواصي البيان أَلّف سِفرا في هذا الغرض من ألف صفحة لقرأته كُلَّه (غير مالٍّ ولا كالّ) فإني لا أذكر ديرتي الرس والزمانَ الذي صحوت فيه بين أَفيائها ودرجت في أحيائها إلا هاجت بي اللوعة وثار الحنين أُردّد نحواً مما ذكر شيخنا من الشعر في هذا المعنى، كقول ابن الرومي في بلده بغداد:

بلدٌ صحبت به الشبيبةَ والصِبا
ولبست ثوب العيش وَهوَ جديدُ
فاذا تمثل في الضمير رأيتُه
وعليه أغصانُ الشباب تميد
وكقول أبي هلال العسكري:
من العقل أن أشتاقَ أول منزلٍ
غُذيت بِخَفضٍ في ذُراه وَلِينِ
إذا أنا لم أَرعَ العهودَ على النوَى
فلست بمأمونٍ ولا بأمين
إلى غير ذلك من الأشعار الغِزار في هذا المربع الخصيب الحبيب الذي لو أُرسلُ القلم فيه لطال به وبكم المسير في هذا المدى البعيد,, ولكني أَثنِي عِنانَه إلى شأن آخَرَ هو الذي أريده أصلا بكلمتي هذه، وهو الوقوف عند أمور يسيرة جاءت في مقال أديبنا الكبير وهو يتمثل ببعض الشعر في هذا المقام على ما يأتي بيانه:
أولا: أنه ساق لنا بيت ابن الرومي:

وحَبَّب أوطانَ الرجال إليهمُ
مأربُ قضّاها الشبابُ هنالكا
ساقهُ فرداً وحيداً، وترك شقيقه طَرِيدَه الذي يليه، وهو:

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم
عهودَالصبا فيها فحنّوا لذالكا
مع أن هذا الأخير ( في قَرَارِ الموضوع وفي صُلبه) بل إنه أدلُّ على المراد من سابقهِ، فكان الأجملُ الأخلقُ بأستاذنا الناقد أن يتم الفائدةِ بإِتباعِ البيت الاول أخاه ليَستحكِم له ما أراد من الشاهد على ما يقول.
ثانيا: كما تمثل أخونا بهذا البيت:

بلاد بها نيطت عليّ تمائمى
وأولُ أرض مسَّ جلدي ترابُها
وَنَسَبَهُ إلى ابن سحمان (واهماً غير مُتَثبت) فإن البيت قديم جداً، سبق حياةَ الشيخ سليمان بِمِئينَ السنَين، فقائله هو: (رقاع بن قيس الأسدي) كما في (أمالي القالي) حيث أنشده ثعلب أحد أئمة مدرسة الكوفة في النحو عن أبي عبدالله نفطويه، إلاّ أنه رَوَى شطره الأولَ هكذا:
بلادٌ بها حلَّ الشبابُ تمائمى
وهذا البيت معه آخَرُ قبلَه، رواهما معا كذلك حفصٌ الطائي في (محاضرات الأَصبَهاني) باللفظ الذي أورده أستاذنا ابن حسين وعزاه إلى ابن سحمان، فلقد جاء في رواية حفصٍ هذا، أنه رأى جارية تقود عَنزاً، فسألها، أيُّ البلادِ أحبُّ إليكِ؟,, فقالت:

أحبُّ بلادِ اللهِ ما بين مَنعِجٍ
إليَّ وسَلمى أن يَصوبَ سحابُها
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي
وأولُ أرض مسَّ جلدي ترابُها
ومنعج: بفتح الميم وكسر العين، بلدة تُعرف اليوم بمركز (دخنة) تبعد عن مدينة الرس من الجنوب بستين كيلو متراً.
ثالثا: ثم قال الدكتور محمد في مقام تَوَجُّده على بلدته تلك وقال آخر :

نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
وعبارة قال آخر لو أنها صدرت هنا من غير شيخنا لحسبناه يجهل القائل، لكن البيت ذائع شهير لا تجد في الخاصة من لا يَعرِف صاحبَه (أبا تمام) حبيبَ بنَ أوسٍ الطائي,, على أنه ليس بالحتم في كل حال أن يبيَّن الشاعر، وإنما الذي أريده في هذا الجزء من المأخذ أهمُّ من اسم القائل أو كنيته، ذلكم ان أخانا صنع بنا هنا في نقِّل فؤادك ورَديفِهِ الذي بعده كما فعل في وحَبَّبَ أوطان الرجال وقرينِهِ الذي يليه، فلقد صَدَفَ عن البيت الثاني:

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنينُه أبداً لأوَّل منزل
مع أنه هو محلُّ الشاهد، و(بيت القصيد) فيما يتكلم عنه من حنينه إلى (عودته) وأيامه الهنِيَّة فيها، وقد اجتزأ بالبيت الأول مع أنه ضعيفُ الدِّلالة على الحال هذه إن لم يكن عَديمَها بالكُلية.
وبعد:
فإنه لا يخفى على مثل هذا العالم الأديب أن الدليل وإن كان هزيلا في مبناه إذا انطبق على القاعدة تماما، فَلَهُوَ خَيرٌ سبعين مرةً من الكلام بالغ القوة لكنه يخالف محلَّ الاستشهاد المراد، ذلك أن المهمَّ أصوليا في سائر العلوم هو أن يتحقق تلاؤم الأمثلة مع مقدماتها، وإلا لم يكن للكلام المسطور معنى غيرُ أنه المداد الأسود على الورق الأبيض.
هذا، وأختم بالقول إني عرفتُ الشيخَ محمداً أوائلَ السَّبعينيَّاتِ الهجرية أديباً نابهاً معنيّاً بالشعر حفظا ورواية ونظما، وكنت يومَئذٍ تلميذاً في المعهد العلمي بالرياض، ومِن نُزَّالِ (بيت الإخوان في الوسيطى)، فأراه فيه أحيانا يزور بعضَ صَديقِه، وأظن منهم الشاعر حمد الحجي (رحمه الله) وكنت أُصغى إلى ابن حسين ينشد فنونا مما يحفظ من الأشعار الجديدة، كأبيات من قصيدة (دعاء الشرق) لمحمود حسن إسماعيل و(فلسطين) لعلي محمود طه، وبدائعَ أخرى للثاني في موضوعاتٍ أُخَرَ,, فأنا اليومَ ما عَنَّ لخاطري شيءٌ من هذا القَصِيدِ إلا ذكرت أخي هذا.
فالأستاذ الدكتور له باع طويل وقدمٌ راسخةٌ في علوم الأدب عامةً، والشعرِ والنقد خاصةً,, بل هو من أجَلِّ أدباء البلاد كثَّر اللهُ سَوادهم ونفع بهم الدينَ والوطن.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.