(الجزء الثاني)
نشر أمس الجزء الأول من دراسة د, محمد محمود رحومة وفيما يلي الجزء الثاني من الدراسة:
اما المقطع الرابع والاخير فهو يمثل,, الحل الذي استراح اليه الشاعر، لابد من المجاهدة من اجل الكملة، لقد قبل الشاعر هنا شروط اللعبة كأن مراوده الشك تعبر بعد قليل على الجسر/ تدخل حد اليقين واستكان الشاعر الى الغناء وراح يصرح بلحنه الاثير:
ايا مطر الوجد والمستحيل نعانق فيك اشتهاء الرحيل نعانق فيك تباريح وجد فترحل حزنا ويبقى العويل وتنزع من شفتيك السؤال لنغرسه في دم المستحيل |
البناء الدرامي في هذه القصيدة يعيد اليها تماسكها، فقد يبدو البناء مهلهلا كما قلنا ولكن نظرة فاحصة تؤكد لنا وحدة البناء الهرموني الذي يتصاعد من مقطع الى آخر بما فيه هذه الاصوات التي تمثل تنويعا على لحن واحد اصر عليه الشاعر منذ باح به في عنوان القصيدة.
وهذه القصيدة، كذلك، مدخل الى دراسة شعر عبدالله الصالح، فهي بكائية مركزية يحوم حولها الشاعر ويدور في مناسبات اخرى يكاد يلمس نفس المعاني ولكن في رداء آخر.
ولعل ظاهرة الابيض والاسود التي تجسدت في القصيدة السابقة تأخذ ابعادا اخرى هنا في قصيدته كسرة من عزاء يقول الشاعر:
لا اسمى المسافة بيني وبينك غدرا!! لا اسمي المسافة غيرا لبياض!! |
فلمن كل هذا البياض المدجج بالملح، والصمت، واللوعة الحارقة؟!
البياض لدى الشاعر هو لغة العماء, اللغة التي لا تقول، والبياض يعني هنا الخواء، العالم الذي يخلو من المعنى، ولم يجد الشاعر في نعيه لاصدقائه الذين رحلوا سوى هذا المعنى الجديد الذي يشكله الشاعر نتيجة التحامه مع الواقع, البياض لديه لحظة لا يستطيع احد احتمالها لحظة الوجع، البياض المدجج والصمت واللوعة الحارقة، لقد اغتال الشاعر لونا بريئا كنا نحبه وقدمه لنا في صورة اخرى، ومن حق الشاعر ان يعيد تلوين الاشياء وتقديم رؤيته الخاصة ولكنه يتجاسر هنا ويتجرأ ويجرب العبث بأبجديات الكون, اللون الابيض من مفردات الحياة، ولكنه يصبح هنا لون الخواء والعدم في حالة عدم مطاوعة الكتابة له, ويصبح كذلك لون الأسى والوجع حين يعاني الشاعر من احزان يتعرض لها.
والهموم الذاتية التي يحملها الشاعر هي هموم المثقفين، بحثه عن المعنى البكر والحرف الجديد يقول في قصيدة يقين الحروف:
بلون عزائي امد حروفا وأوقظ في صمتها كل باب يشاكلها في التشظي حفيف ويسلمها لليقين غياب |
يبحث الشاعر عن اشتعال الحرف، عن التجربة الحية التي تلهبه بالشعر، وتوقد في كلماته نور اليقين، انه ساحر يمد عصاه الى المعنى الميت، فيوقظه من سباته ويلونه بالواقع ويعلن فيه الوجود, ان التشظي ما يزال رغبة الشاعر يفتقدها احيانا، ويبحث عنها, انه طائر الفينيق الباحث دوما عن اللهب يدخل الى النيران ليبعث من جديد، هو يبحث عن حالة من الاختراق تخرج من اعماق كلماته المخبوءة ومعانيه الساخنة، هو صراع دائم مع الكلمة يعانيه الشعراء والكتاب ويشعرون به ولكن قد لا يشعر سواهم فيشاركهم همهم الذاتي من اجل الابداع.
وقد تأخذ الحروف والكلمات شكلا آخر لدى الشاعر فهي صهيل الخيول ، الصوت الذي يبدأ رحلته المغامرة الجامحة وراء اللغة التي لاتستكين الى معنى ولا تحدها حروف، ومن هنا فالشاعر قد ينكفىء على نفسه وينعزل عن الآخرين احساسا منه بعدم الانسجام مع الآخرين فلغته ما تزال بعيدة عنهم وكلماته لا ينفعل بها اولئك الذين لا يفسرونها على الوجه الصحيح
شيء من الظن يعلو وجه ذاكرتي ويحتوي نبض تكويني واسئلتي هل كان لون الضحى العذري بيرقه ام كان بيرقه ايقاع فاصلتي |
وهمّ الشاعر البحث عن لغة طازجة, ان كلماته ترفض السكون ومثولها بين يديه يعني موتها وانتهاء دورها، انه يبحث عن كلمات لا تسكن ابدا، لا تموت او تنتهي من الاستعمال, ان المعنى الذي يستهلكه الكلام يفتقد ألقه وجدته.
كان وهما حرونا,.
ووقع الخطى الشادرة,.
ترهل فيها انتظار المجيء
فأصغى الى لغة باردة!
يباغته الزمن المستكين
ويغمد اشواكه الحاقدة!
ابدا,.
لم يكن غير ما كان
ولكن
كان هتافا لأغرودة,, لم تجىء!!
البحث عن لغة جديدة يأخذ الشاعر الى متاهات الداخل، هو يتمثل العثور على اللغة الحرف الشارد المباغت الذي يلهث خلفه من مكان الى آخر, يتوهم العثور عليه بعد انتظار مترهل صورة جديدة للانتظار الموغل في القتامة، فهو مجرد انتظار لا مفاجآت تأتي بعده انتظار للاشيء للذي يأتي ولا يأتي فتكون النتيجة انه يقبل شيئا من رحلة جديدة ولو كان يسيرا انها اللغة الباردة ويكاد ان يرضى عنها ولكن فنه لا يريدها، يلفظها، يقتلها، ويغتال برودتها ويبحث من جديد عن معنى طازج غني, كان الهتاف السعي الحثيث عن اغنية لم تجيء!!
انها رحلة لا تهدأ يدور الشاعر ويدور كالنحلة التي تبحث عن زهرة جديدة وطعم جديد لتقدم رحيقا جديدا لم يألفه احد, انه يمسك بتلابيب الحرف الشارد ويشكله ويعتصره في معنى بكر ولكن حين يعيد قراءته يشعر بأنه لم يكتب شيئا، مأساة الشاعر في قوله
لماذا الندى يرتحل.
ويبقى على وجنتيك الذبول؟!
والحزن: ظاهرة تتعانق مع الظواهر الاخرى وتتداخل معها, فالشاعر يشعر بالعزلة، ويتألق بالمأساة، فهو يبحث عن الحزن، عن المصير الغامض وكأنه اوديب يمضي الى مصيره غير عابىء بالمصير، يريد ان يحزن ويدشن للحزن مناحة كبرى تلهيه عن الآخرين وتكفيه عنهم، ففي قصيدته هفو لم يستوقفه الجمال ولكنه كان يرى فيمن رآها:
نبع قد نعتب,, حنو تبخر,, رعشة آفلة,, وردة ذابلة ثم بعد ذلك كله هي: سيدة الانتظار الحزين يبحث الشاعر في تجاعيد وجهها المكدود عن نفسه الحزينة، عن قلبه الموجوع، هو لا يريد منها سوى هذه اللحظة الشاردة، الحبلى بالاسئلة الحزينة التي تتوثب في وجهه، ان امرأة تخلو من الحنو والنبع، ورعشتها آفلة وجمالها ذابل، امرأة لا تصلح للشعر ولكنها لدى عبدالله الصالح سيدة الانتظار الحزين، بحث عنها كثيرا الى ان وجدها ثم بفعل الظروف تبخرت وعجز عن وصالها, هل التقت السيدة في ذات الشاعر مع كلماته وانصهرت في اعماقه لتصبح معنى شعريا يفتقده الشاعر, هل هي المعاناة التي تجعله يرى نفسه في هذه البائسة التي تخلو من جمال,, حسب زعمه ومع هذا فقد تمناها, لنلاحظ بداية القصيدة التي استهلها الشاعر بقوله: كسرة في الفؤاد الحزين/ الحزين,, ، وانتهت ببحثه عن الهطول ولكنه لن يهتدي ابدا الى مواسم المطر فسوف تظل القصيدة عطشى لديه الان هطول المطر انتهاء للقافية واكتفاء، وهو لم يعثر بعد على ضالته, وهو يعلن:
تيممت بالحزن حتى ارتميت على شاطىء مورق بالهموم واقفرت من كل ذنب تتوب على ساعديه بقايا الغيوم فهزي اليك بجذع يساقط رعبا، وينفث بعض السموم |
هو شاعر تتضوأ كلماته بالاحزان وتشتعل بالامنيات المستحيلة، لقد ادى الشاعر طقوس الحزن استعد له واستقبله واحتفى به، هو تيمم بالحزن، يدخل الى عالمه غير خائف ويتشكل به دون هوادة، هو يستعجل الابحار في عالمه ويبحث عن مرافئه، وانتفت كل اسباب الالم التي يستبقيها الشاعر في اعماقه ويستولدها من جديد, وتكون النتيجة ان الاحزان تلد الرعب وتنفث السموم وهو راض بهذا الحصاد المر,, وثمة شيء يستوقفنا في لغة الشاعر في هذا المقطع، ان الصورة التراثية تنزاح لتخلف مكانها صورا جديدة يؤصل لها الشاعر ويستمد ذلك من شريحة احزانه الملتاعة, انها احزان حقيقية وليست سطحية وقد تركت صداها في لغته, ان سبب احزانه في رأينا هو الطموح فهو لا يفرح كالآخرين لأنه مهموم بالمعرفة التي تؤرقه والحرف الذي يهجره وطموحه يدفعه الى القول:
افتش عن حلم تستفيق على مقلتيه غصون الكريم |
انه اذن حزن جليل يسعى الى تغيير العالم من حوله، هو وقود الاشتعال الذي يلهث الشاعر وراءه من اول قصيدة قالها حتى آخر بيت له.
ايها المنتفون بذاتي
افيقوا,.
ففي الوقت متسع للبكاء
وفي الحزن متسع للغناء,.
والميل الى الدراما: هو الذي يجعل الشاعر يشكل في قصيدته اصواتا واصداء اخرى، وكل قصيدة لديه لا تخلو من صوت آخر ومن صدى يتردد معقبا على المعنى الاصلي الذي يأتي في البداية, والدراما خروج بالشعر من الذات الى عالم الآخرين والبحث عن دور لهم داخل القصيدة, فلم تعد القصيدة هي تلك القدرة على الغناء حتى لو كان الشاعر وحده في الصحراء، وانما اضاف العصر الجديد اليها حسا واقعيا بالحاجة دائما الى صوت آخر يشارك في القصيدة ويكون له دور في تشكيلها.
وفي قصيدة مقطع من حوارية التوجس,, نلمح هذه الرغبة عند الشاعر، فهو يبدأ القصيدة بافتتاح والمقطع الثاني بعنوان حوار والثالث: صوت, ويمثل الافتتاح في هذه القصيدة، تقديم الابطال للعمل الدرامي الشاخص، انه يعلن موضوعه وقضيته، يقدم لنا ارضية الاحداث قبل ان تبدأ، يقول في الافتتاح:
يباغتنا في انبلاج الاصابع هذا التوجس
ويحرق مبتدأ للمثول
قبيل الدخول
الى سغب العنفوان
كأن التكلس حتى التخاذل بين النشيد وبين المقول يزوبع ما يتبقى على الصمت من قطرات الحوار:
ان العالم الذي يرصده الشاعر في حوارية التوجس يقدم لك عناوينه من خلال هذا المفتتح، فهو:
1 التوجس المباغت الذي يقهرنا ويمنع حركتنا الى الامام.
2 وهو كذلك الجمود والحيرة بين القول مجرد القول والشعر.
3 وهو اخيرا الزوبعة التي تتبقى من عناصر الحقيقة هو صدى الصمت وبقايا الكلام الذي تقاطر على ادمغتنا.
هذا التمهيد له وظيفة درامية فهو يختصر القضية ويقدم الشاعر نفسه لنا من البداية اعلانا لبراءته من دمنا، اذا مضينا معه حتى نهاية القصيدة، لم يأت بشعره من اجل ان يسليك، فيقص عليك الحواديت ولم يقل كلماته تزويقا للواقع او تزييفا للحقيقة، انه لا يعرف الا نقل الوقائع بجهامتها، انه يحدد لك دورا اما ان تقبله وتمضي معه في رحلة قصيدته واما ان ترفضه، فتتوقف عن القراءة، هو شاعر ذكي مثقف عرف كيف يفيد من قراءته ليضع شكلا دراميا يشحن به قصيدته.
اما قلب القصيدة وعنوانها الحوار، فأنت امام شحنة من الافعال والدهشة الدائمة، دهشة مستمرة لا تزول بفعل الزمان ولكنها تتواصل وتتوالد، وتصل الى قمة القصيدة, بسؤال يبدو بريئا وساذجا ولكنه ليس كذلك فيقول لك هل لهذه الكلمات البسيطة التي يكتبها من اثر؟ هل تستطيع ان تفعل؟! أللخطرات الكسيرة نصل يبرعم فوضى الهدوء وما تزال حيرته تتكرر في كل قصيدة ما بين الشعر واللاشعر!! وهي قضية لن تحسم ابدا,, واخيرا يأتي الصوت وهو الصدى الذي يأتي في نهاية كل قصيدة واحيانا في كل مقطع، وهو هنا يعلن:
سلاما على مفردات الهباء تيبس فيها اخضرار العلاقة واسلمها للمغيب انطفاء واسكنها مفردات الحماقة |
كل الكلمات اذن حمقاء لانها لم تقل كل الذي يعتمل في اعماق الشاعر، والشكل الدرامي قد يكون غير واضح المعالم لان غالبية اشعار عبدالله الصالح فكرية ذات ابعاد متعددة لا تستسلم لحرفية الواقع او لهواجس النفس وانما تدور بين هذا وذاك.
والصورة الشعرية في هذه القصيدة تأتي من الواقع الفكري للشاعر، فهي صور عقلية لا نلتقطتها بسهولة مثل قوله: يزوبع ما تبقى على الصمت من قطرات الحوار فالصورة هنا يبذل العقل مجهودا في فهمها، فهي لا تتكىء على الواقع وانما كونها المحصول الثقافي والقراءة الواعية للشاعر، والشاعر ثقافته اكبر من شعره وتلك مشكلته فلو توافق شعره مع ثقافته لكان له شأن كبير، نعم الشعر حرفة وصنعة ولكنه موهبة قبل كل شيء ولا شك في موهبة الشاعر ولكن الحس العقلي لديه اكبر كثيرا من شعره، الشعر دهشة دائما وبكارة ولكنه ليس كل هذه العلائق, يحتاج الشاعر الى بعض الوقت حتى يعيد للشعر رونقه ويخفت قليلا من صوته العالي, تبدو الصورة هنا وقد شكلها عقل واع وخبرة جيدة يحسد عليها الشاعر, انظر الى التشكيل فوق الماء، من منا يستطيع ذلك، الشاعر يمتلك هذه القدرة، فهو يشكل صورته تشكيلا ذهنيا مجردا وحين تنصرف الى كلمة قطرات باعتبارها مادة عيانية خارجة على سياق المعاني المجردة في الصورة يفاجئنا الشاعر بأنه ازال معالمها المعروفة لنا، فلم يصبح الماء ماء ولا القطرات ماء، وانما اصبحت قطرات حوار ولم نسمع ابدا ان للحوار قطرات ولكنها صورة دالة تؤكد موهبة الشاعر, ثم ننظر الى هذه القطرات، كيف تشكلت في زوبعة بعد ان تم تصفيتها او تقطيرها من الصمت!! الصورة مرهقة، ولكنها لا تخلو من طرافة.
وانظر الى صورة اخرى حيث يقول: يذر الندى ما تبقى على النبع من مائجات الرماد , ولعلك تجد نوعا من المطابقة بين هذه الصورة وتلك، فالندى يطرد ما يتبقى على النبع من ذرات الرماد الكتابة صورة عقلية اخرى ترهق ذهن القارىء.
وهذه صورة اخرى: فالذي عاشرته المواجع تغفو المواويل بين انامله مثقلة تقترب الصورة من عالمنا، فالشاعر قد غادر الهم الشعري الى حين ويتكلم لغة مثلنا، فهي صورة لاحد البائسين بينما المواويل الحزينة تنام بين اصابعه المكدودة من بؤسه فالمواويل تتألم لألمه وتشقى بسببه, يشكل الشاعر هذه الصورة القريبة الى حدّما من عالمنا, فيتقدم لنا عالما نعرفه واناسا نراهم حقيقة.
الصورة الشعرية تعني التشخيص واستخدام مفردات الواقع في اعادة تشكيله من جديد ومن هنا سر فرحتنا بالصورة الجديدة, يبقى على الشاعر ان يحاول تشكيل صورة من مترادفاتنا والا يهجرنا وينأى بعيدا عنا بصور لاتدور الا بين كلماته هو ولا تحدث الا في عقله, عليه ان يخفف العبء عن نفسه ويطرح أثقالها عن الآخرين.
وبعد فهذه رحلة كانت مع بكائيات الشاعر عبدالله الصالح، نعود لنلتقط انفاسنا بعد ان بكينا معه وتألمنا لالمه، فهو مفجوع الى حد المرارة، مثقف الى حد العزلة، يحيا وحده مع كلماته يمتص رحيقها المشتعل دوما بالاحزان يغوص بها الى عوالم سحرية لم تخلق بعد، ولكنه سعيد بها يؤثرها على نفسه لا يريد ان نعرفه كشاعر ولكن ان نحيا كلماته.
* عميد كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا استاذ مشارك الادب والنقد بكلية الآداب للبنات الرياض.