هو علي بن محمد بن العباس المعروف بأبي حيان التوحيدي شيرازي الأصل واحد من عمالقة كتاب القرن الرابع الهجري هذا القرن الذي شهد بزوغ العباقرة من الشعراء من امثال المتنبي وأبي العلاء المعري والشريف الرضي وأبي فراس الحمداني,, قدم بغداد وأقام بها واتصل بكتاب عصره ووزرائه وامرائه,, عكف على مؤلفاته العديدة التي لم يصلنا منها إلا القليل لأنه احرقها في أواخر حياته يأسا من الناس وحسرة على الجهد الذي بذله فيها ولم ينل عنه ثوابا,.
من أشهر اعماله: الامتاع والمؤانسة ، الاشارات الالهية ، المقايسات ، الهوامل والشوامل ، البصائر والذخائر .
ويبدو ان كثيرين من أهل العلم في هذا القرن قد اصابهم ما اصاب أبا حيان التوحيدي من احساس بالظلم والمرارة فهذا هو القاضي ابو الحسن علي بن عبدالعزيز الجرجاني يقول عن نفسه التي تعبت في تحصيل العلم ولكنها نالت شر الجزاء.
يقولون لي فيك انقباض وانما رأوا رجلا من موقف الذل احجما أرى الناس من دانا همو هان عندهم ومن اكرمته عزة النفس اكراما ومازلت منحازا بعرضي جانبا من الذم اعتد الصيانة مغنما اذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ وماكل برق لاح لي يستفزني ولا كل أهل الأرض ارضاه منعما ولم اقض حق العلم ان كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لاخدما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس تعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما |
والشاعر هنا يلقي باللوم على أهل العلم الذين لم يحصنوه بالكبرياء والعفة والكرامة أما ابو حيان التوحيدي فقد أفنى عمره في خدمة العلم وكان يظن انه سينال بهذه الخدمة حظا من اليسر في الحياة او المكانة في المجتمع ولكنه عاش فقيرا متهما في علمه وفكره وحين حرق كتبه كتب اليه القاضي ابو سهل علي بن محمد يلومه على مافعل فجاء جواب أبي حيان مليئا بالحسرة والمرارة والألم ولكنه يحاول التبرير نافيا عن نفسه تهمة التقصير فيقول: ان العلم يراد للعلم كما ان العمل يراد للنجاة فاذا كان العمل قاصرا عن العلم,, كان العلم كلا على العالم, وانا اعوذ بالله من علم عاد كلا واورث ذلا, وصار في رقبة صاحبه غلا, ثم يفسر ابو حيان ذلك بقوله: ثم اعلم علمك الله الخير ان هذه الكتب حوت من اصناف العلم سره وعلانيته,, فأما ما كان سرا فلم اجد له من يتحلى بحقيقته راغبا واما ما كان علانية فلم اصب من يحرص عليه طالبا,, على اني جمعت اكثرها للناس,, ولطلب المثالة منهم,, وتعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم,, فحرمت ذلك كله, ولاشك في حسن ما اختاره الله لي, وناطه بناصيتي,, وربطه بأمري, ثم يستطرد ابو حيان معلنا عن رأيه السيىء في الناس وكأنه يجابههم برأيه كما جابهوه برأيهم فيه فيقول: ومما شحذ العزم على ذلك يقصد احراق الكتب اني فقدت ولدا نجيبا وصديقا حبيبا, وصاحبا قريبا, وتابعا أديبا, فشق علي ان ادعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي اذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي اذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من اجلها,, فان قلت ولم يسمهم بسؤ الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك ان عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات,, وكيف أتركها لاناس جاورتهم عشرين سنة فما صح من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من انسان منهم حفاظ, ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة الى اكل الخضر في الصحراء والى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة,, والى بيع الدين والمرؤة والى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق, والى مالا يحسن بالحر ان يرسمة بالقلم, ويطرح في قلب صاحبه الألم.
واحوال الزمان بادية لعينيك بارزة بين مسائك وصباحك وليس ماقلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك وما كان ينبغي ان ترتاب في صواب مافعلته بما قدمته ووصفته ويبدو ان اليأس الذي اخذ بمجامع قلب ابي حيان لم يأت فقط من عدم الاستجابة لأدبه وعلمه وعجزه عن كسب رزقه وانما ايضاً لانه فقد الأحباب ورأى في غياب الواحد منهم بعد الآخر نذيراً بموته هو ايضا فهو يقول: والله ياسيدي ولو لم اتعظ الا بمن فقدته من الاخوان والأحداث من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى فكيف بمن كانت العين تقر به والنفس تستنير بقربهم فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري وما والى هذه المواضع وتواتر إليّ نعيهم فهل انا إلا من عنصرهم ويشير ابو حيان التوحيدي بعد ذلك الى انه اقتدى فيما اقدم عليه من حرق كتبه بأئمة يقتدي بهم,, وواضح انه لم يتخذهم اسوة لأن احوالهم غير أحواله وانما هو يستشهد بهم فقط فيقول:
وبعد فلي في احراق هذه الكتب اسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم منهم ابو عمرو بن العلا ,, وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر ، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر,, وهذا داود الطائي وكان يقال له تاج الامة, طرح كتبه في البحر وقال يناجيها,, نعم الدليل كنت والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول,, والسؤال أما كان واردا ان تكون هذه الكتب دليلا لغيره كما كانت دليلا له,, وهذا ابو سف بن اسباط حمل كتبه الى غار في جبل وطرحها فيه وسد بابه فلما يموت على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من اجل ما اردناه.
وهذا ابو سليمان الدارانى جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت احترق بك وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيرهافي الهواء وقال ليت يدي قطعت من ها هنا بل من هاهنا ولم اكتب حرفا, ثم شكا ابو حيان بعد ذلك هم الشيخوخة,, ومن اجمل ماكتبه في رسالة الغربة هذه السطور:
سألتني ان اذكر لك الغريب وممنه واصف لك الغربة وعجائبها ان الغريب بحيث ماحطت ركائبه ذليل.
ويد الغريب قصيرة ولسانه ابدا كليل.
والناس ينصر بعضهم بعضا وناصره قليل.
ثم يقول:
الغريب من غربت شمس جماله,, واغترب عن حبيبه وعذاله وأعرب في اقواله وافعاله .
ويفرق بين غريب فارق دياره وغريب حاصره الهم في داره فيقول:
أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه.
واذا كان ابو حيان التوحيدي قد عبر عن عصره فان نفاذ حكمته تجعل كتاباته معبرة عن كل العصور.
محمد إبراهيم أبو سنة